الزواج المبكر في تونس يواصل التهام أحلام الفتيات
نشر بواسطة: mod1
الأحد 13-07-2025
 
   
إخلاص حمروني

في مناطق الداخل التونسي، يواصل الزواج المبكر التهام أحلام الشابات فهن محرومات من فرص العمل أو الاستقلال، ومُرغَمات على الدخول في مؤسسة الزواج لا حباً ولا اختياراً بل هروباً من واقع اقتصادي قاسٍ وضغط عائلي لا يرحم.

تونس ـ آلاف وربما ملايين الفتيات لا تمنحن الوقت الكافي لفهم معنى الزواج ولا تُسألن عن أحلامهن وخططهن المستقبلية في التعليم والعمل ففي مجتمع يوصم المرأة غير المتزوجة بكلمة "عانس" كل شيء يحدث بسرعة ويتم تزويج القاصرات دون النظر إلى العواقب.

"كنت أحلم بالعمل في إحدى الوزارات، لكنهم قالوا لي أنتِ امرأة يجب أن تتزوجي... من سيتكفّل بك؟" بهذه الكلمات بدأت رقية أولاد أحمد البالغة من العمر 40 عاماً، من ريف الوسط التونسي، برواية قصتها بصوت هادئ تخفي خلفه مرارة سنين طويلة من التنازلات القسرية.

وتقول "كنتُ تلميذة نجيبة ومجتهدة، وامتلك حلم كبير بأن التحق بالعمل في إحدى المؤسسات أو الوزارات، وتخرجت من الجامعة في سن الرابعة والعشرين، ومثل أي فتاة طموحة، اعتقدت أن المستقبل ينتظرني، وطرقت كل الأبواب الممكنة، وشاركت في العديد من المناظرات، وتجولت بين الإدارات، بل حتى فكرت في إنشاء مؤسسة خاصة بي، لكن كل محاولاتي باءت بالفشل".

وتابعت "حينها، بدأت أسمع نفس الجملة تتكرر حولي ’البنت عندما تكبر في الريف، تُصبح مهددة بالعنوسة’. وعندما تقدم لي رجل يكبرني بعشر سنوات، لم تتردد عائلتي لحظة، وقالوا لي ’يجب أن تتزوجي، أنت امرأة، ولن يعيلك أحد إلى الأبد’، وقاومت، لكن مع الإلحاح والضغط، وجدت نفسي مضطرة للقبول".

رقية أولاد أحمد لا تخجل من البوح بندمها "في تلك اللحظة، رأيت أحلامي تتحطم أمام عيني. صحيح أنني اليوم أم، لكن إلى الآن أحمل ناراً في قلبي لا تنطفئ. لم أنسَ أبداً ما كنت أطمح إليه. لو عاد بي الزمن إلى الوراء، لكان إصراري أكبر من أجل أحلامي، ولكنت بذلت جهداً مضاعفاً، حتى لو كان الأجر زهيداً، فقط لأحافظ على حلمي واستقلاليتي".

ولكنها لم تفقد الأمل فإن لم تكن قد تمكنت من النجاح بتحقيق أحلامها فالمستقبل أمام ابنتها وستساعدها بكل الإمكانيات لتفعل ما تريد وليس ما يريده المجتمع "مجتمعنا الريفي، بل التونسي عموماً، لا يزال يفرض على الفتاة خيارات لم تكن يوماً من تريدها. الزواج المبكر كان حلاً قاسياً فُرض عليّ، لكنه لم يكن اختياري. لهذا السبب، قررت أن يكون دوري مختلفاً مع ابنتي، لتشجيعها على الدراسة والعمل وتحقيق ذاتها. لن أفرض عليها شيئاً. أريد لها أن تختار حياتها بملء إرادتها".

رقية أولاد أحمد لم تكن الفتاة الوحيدة التي فرض عليها الزواج المبكر خشية من أن تكبر في السن ولا تجد من يتزوجها أو يعيلها في المستقبل، فـ جميلة أولاد منصر هي الأخرى فتاة من ريف سيدي بوزيد، تنتمي إلى أسرة كبيرة العدد، وكانت هي الرابعة بين إخوتها، وقد ترعرعت في بيت بسيط وأجبرتها عائلتها على الزواج.

تقول "حلمت أن أصبح معلّمة، فقد عشقت الحروف منذ صغري وكنت دائماً الأولى على مدرستي وأؤمن أن التعليم وحده السبيل للخروج من قريتي الصغيرة، ومن حياة الإنهاك والانتظار، لكنّ أحلامي اندثرت مع بلوغ الـ 17 من عمري".

وأضافت "مع بلوغي سن السابعة عشر، بدأت نظرات الجيران والأقارب تلاحقني، وأحاديث الأعراس تزداد حدةً كلما تزوجت إحدى رفيقاتي، وكانت والدتي تقول لي بصوت خافت ’يا بنتي، الزواج ستر... والفرص لا تُضيَّع. والدك لم تعد له قدرة على تحمّل مصاريف البيت، وأخاك الكبير بالكاد يجد ما يسد به رمق أطفاله". وازدادت الضغوطات عليها حين بلغت التاسعة عشرة، إذ جاءها خاطب في الخامسة والثلاثين، ميسور الحال نسبياً، يملك شاحنة صغيرة ينقل بها الخضار إلى المدينة. لم يكن حبًّا، ولم تكن جاهزة، لكنّ الجميع قالوا لها "هذا نصيبك".

بألم تقول جميلة أولاد منصر "حاولت أن أرفض، بكيت، صرخت لأني أريد استكمال تعليمي الجامعي، لكني وجدت نفسي في النهاية أقول نعم بتردد".  

ومرت السنوات، وهي اليوم في العشرين من عمرها، تحمل رضيعها على كتفها وتنتظر في المستوصف الريفي دورها، ورغم ذلك لم تفقد حيويتها، لكنها باتت أكثر صمتاً. تتكلم بعينين مثقلتين بالحزن، لكنها ما زالت تحتفظ بدفتر ملاحظات صغير تخبئه تحت الوسادة، تكتب فيه كل ليلة جملة واحدة "ما زلتُ أريد أن أكون معلّمة".

رقية وجميلة لم تمنحا الوقت الكافي لفهم معنى الزواج، لم تُسألا عن رأيهما في المسؤوليات، ولا عن أحلامهما المؤجلة. كل شيء حدث بسرعة وتم زفافهما وسط غناء نساء القرية وتهاني الأقارب.

بين ثقافة "الستر" وضغط البطالة

وفي قراءة لأسباب انتشار هذه الظاهرة في أرياف محافظة سيدي بوزيد، تؤكد الناشطة الحقوقية حياة عمامي أن البطالة تُعدّ من أبرز الأسباب المؤثرة في توجه الكثير من الفتيات إلى الزواج المبكر لاسيما في المناطق الداخلية. فقد بات من الشائع أن تظل الفتاة لعقود قصيرة أو حتى سنوات تبحث عن عمل سواء قبل التخرج أو بعده، مما يحرمها من فرصة الزواج في الفترة الزمنية "المفترضة"، فيقال أن "قطار الزواج فاتها".

والفتاة كما تؤكد حياة عمامي التي تُفوت تلك السنوات الأولى من الزواج تجد نفسها مجبرة على البحث عن مورد رزق بدلاً من اكتفاءها بالدراسة، غير أن الواقع يشير إلى أن أغلب الأوقات تعجز عن إيجاد وظيفة تتناسب مع مؤهلاتها، وهذا ما يؤدي إلى الاستمرار في حالة البطالة، ثم الموافقة على الزواج كخيار أول حتى قبل أن تنتهي دراستها، بل مباشرة بعد حصولها على الإجازة، وأغلب الفتيات في الفترة الأخيرة يرددن "الزواج هو حل البطالة الطويلة"، كما تراه بعضهن وسيلة لـ "التحرر من العودة إلى العائلة"، وعدم تكرار دائرة التبعية والعبء المالي على الوالدين.

وترى أن الثقافة التونسية، كغيرها من الثقافات العربية، تضع المرأة في خانة الابنة التي ينبغي أن تتزوج قبل أن تتحول إلى "عانس"، فالأم تتحمّل غالباً عبء ذنب تأخر زواج ابنتها، عندها تتدخل للبحث عن حل للضغط الاجتماعي، مستخدمة وسائل مقنعة أحياناً، ثم يصبح الضغط مباشراً، باستخدام عبارات تهدف في الأساس إلى تقليل طموح الفتاة وتمرير الزواج كحل أولي و"أفضل" أمامها، رغم أنه قد لا يكون كذلك.

وتقول حياة عمامي "الخوف من البقاء بدون زواج يتعزز أكثر في ظل هشاشة الأوضاع الاقتصادية خصوصاً مع تدهور الطبقة الوسطى التي اهترأت في السنوات الأخيرة، مما زاد من توجه بعض الفتيات إلى الزواج باعتباره وسيلة للعيش المستقر والأمان المالي"، وتربط هذا النمط أيضاً بتقوية الخطابات التقليدية والمحافظة كجزء من ثقافة المنطقة، حيث في بعض المناطق يسود التوجه بتزويج الفتاة بأسرع وقت حتى لو لم تكن مستعدة نفسياً أو مالياً، وهذا لا يعني فقط العادات والتقاليد بل أيضاً محاولات للتخلص من عبء الإنفاق عليها، خاصة في الأسر الريفية الكبيرة".

وبينت أن الأعراف الاجتماعية رافقت هذا التوجه بضغوط تمر عبر العائلة الممتدة، فاحتفالات الأعراس والتنقل ضمنها تصبح ساحة ضغط مباشر، حيث تُوجّه للفتاة أسئلة محرجة مثل "متى العرس؟"، و"لماذا لم تتزوجي بعد؟"، و"ماذا ينقصك؟"، وكل هذه العبارات تعمل كوسائل لإجبارها على الاختيار المبكّر دون اكتمال استعداداتها الحياتية، كما أن البيئة الذكورية تلعب فيها النساء، خاصة الأمهات، دوراً كبيراً، إذ يُحمّلن بقوة مسؤولية زواج بناتهن، مما يجعل الزواج اضطرارياً لا خياراً حراً.

وأشارت حياة عمامي إلى أن التيارات الإسلامية التي برزت بعد عام 2013 زادت من انتشار الزواج المبكر، إذ تبنت بعض المجموعات خطاباً يشجّع الفتيات على الزواج في سنّ صغيرة بحدود 13 و14 عاماً، بتقديم ما تصفه بـ نموذج ناجح، لأولئك اللاتي أسّسن أسراً رغم ضعف الخبرة الزوجية.

ولفتت إلى أن المرأة، مهما بلغت من مستويات تعليم أو إنجاز، تظلّ في نظر المجتمع في مراتب دنيا إذا لم تتزوج، فحتى الحاصلات على درجة الدكتوراه أو العاملات في مناصب مرموقة يُنظر إليهن كمثال سلبي، "العديد من الفتيات يتزوجّن بدافع الخلاص من تلك النظرة المجتمعية، فهن يدخلن حياة زوجية بعيون بسيطة وأحلام متواضعة، وتعجز الواحدة منهن عن التنبؤ بالصعوبات والمسؤوليات الزوجية، ويجبرن على تقبل العنف والإهانة مرات كثيرة لمجرّد الحفاظ على الحياة الزوجية، وهو ما يؤدي في نهاية المطاف للطلاق ويرفع نسبه في البلاد".

وأثنت حياة عمامي على عمل الجمعيات النسوية المحلية التي "تعمل رغم قلة الإمكانيات، وتحاول تقديم حلول عملية، لكن بدون شراكة فعالة مع الدولة لا يمكن أن تُحقق نتائج كبيرة، والمطلوب اليوم هو تضافر جهود الإعلام والتعليم والثقافة لتشكيل وعي بديل يرتكز على احترام كرامة الفتاة وحقها في اختيار الزواج بدافع الحب والتفاهم، وليس كحَلّ اقتصادي أو اجتماعي".

ودعت الناشطة الحقوقية حياة عمامي إلى إنشاء مؤسسات وطنية للدعم والمرافقة، مثل هيئات تساعد في تأهيل الأزواج، وتثقيفهم في إنهاء الزواج المبكر، وتقديم دعم قانوني وعاطفي للمطلقات، إلى جانب الاستثمار في شبكات وقائية وتربوية تساعد في الكشف المبكر عن ضغوط الزواج المبكر وتقديم الدعم المناسب قبل وأثناء وبعد حدوثه.

 
   
 



 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





المهرجان العربي والكلداني
 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced