منذ عام 1959 والعراقيون يحتفلون بذكرى 14 تموز من كل عام كعيد وطني، وحتى في عهد حزب البعث، وبالضبط عام 1979، اعتبر صدام حسين، بمناسبة تسنّمه رئاسة الجمهورية، يوم 17 تموز عيداً وطنياً، وأبقى على 14 تموز عطلة رسمية. وفي هذا اليوم من كل عام تصدر جداول ترقيات ضباط الجيش والشرطة العراقية، ولا يمكن التلاعب بهذا الموعد.
وبعد 62 عاماً، وفي عام 2021، غيّرت الحكومة العراقية تقويم العطل الرسمية واعتبرت 3 تشرين الأول عيداً وطنياً بدلاً من 14 تموز، بمناسبة موافقة "الجمعيّة العامة لعصبة الأمم" يوم 3 تشرين الأول 1932 على قبول العراق عضواً فيها، بناءً على طلب الانضمام المُقدم من المملكة العراقيَّة آنذاك، بتوقيع رئيس الوزراء الأسبق نوري باشا السعيد بتاريخ 12 تموز 1932، ليصبح العراق أول دولة عربية تنضم إلى هذه المنظمة الدولية في حينها.
الموضوع لم يمر مرور الكرام، فقد اعترضت أحزاب وشخصيات سياسية وشعبية عراقية على هذا التغيير، وبقيت تحتفل بذكرى 14 تموز باعتبارها "ثورة شعبية"، على العكس من الذين ينظرون إليها كـ"انقلاب عسكري" قاده "الضباط الأحرار" بزعامة عبد الكريم قاسم ضد الحكم الملكي، وتسبب بمجزرة أودت بحياة العائلة المالكة فجر 14 تموز عام 1958.
الحزب الشيوعي العراقي كان وما يزال من أكثر الأحزاب السياسية اعتراضاً على هذا التغيير، ومعه جماهيره بالطبع، إذ يعتبرون 14 تموز هو العيد الوطني الشرعي لجمهورية العراق، كما يؤكد رائد فهمي، سكرتير عام الحزب.
وفي حواره مع شبكة رووداو عشية ذكرى الثورة، قال فهمي في حديثه اليوم (13 تموز 2025): "ثورة تموز 1958 هي ثورة بكل المعاني، ولا يمكن اعتبارها مجرد انقلاب عسكري. نعم، بدأت كتحرك عسكري، لكنها اكتسبت مضامين ثورية كبيرة، وبهذا المعنى نقلت العراق إلى واقع آخر"، متهماً "أحزاب الإسلام السياسي العراقية بأنها السبب في تغيير موعد العيد الوطني العراقي".
فيما يلي نص الحوار:
رووداو: لماذا أنتم متحمسون لذكرى 14 تموز؟ هل كانت ثورة شيوعية؟ أو أن عبد الكريم قاسم كان شيوعياً؟
رائد فهمي: لا، لا. نحن نتعامل معها من منطلق موضوعي، لأنها كانت ثورة بكل معنى الكلمة، وأحدثت تغييرات سياسية واقتصادية واجتماعية. الأهم من ذلك أنها أسست للحكم الجمهوري، وهذا موضوع مهم جداً، بغض النظر كيف تطور لاحقاً. هي من أهم الأحداث في التاريخ العراقي الحديث، ولعبت دوراً كبيراً في فسح المجال أمام قطاعات واسعة في المجتمع العراقي لتطور أوضاعها، مثل ديمقراطية التعليم، حيث ازدادت فرص التعليم، ومحو الأمية، وتطوير الناحية المعيشية للمواطنين. كما أنها أنهت الإقطاع، ووجهت له ضربات حقيقية، وقدمت إنجازات لصالح الفلاحين من خلال قانون الإصلاح الزراعي، إضافة إلى تطوير الصناعة والزراعة والعمران، وحققت استقلالاً سياسياً.
رووداو: هناك من يذهب إلى عكس ذلك، ويقول إن الصناعة والزراعة كانت قائمة في العراق، لكنها تراجعت بعد 14 تموز 1958. العراق كان يصدر القمح والرز؟
رائد فهمي: الصناعة انتهت بسبب السياسات اللاحقة، وليس بسبب الثورة. نحن اليوم نطالب بالاهتمام بالصناعة، لأنه لا توجد سياسات لتطويرها، ولأن الأبواب مفتوحة على الاستيراد، ولا تُوجَّه الموارد نحو القطاعات الإنتاجية، وهذا خلل. أما في وقتها، فقد تطورت الصناعة والزراعة بالرغم من الانقلاب السياسي السيء في 8 شباط 1963. في الزراعة، حدث تغيير في نمط الملكية. نعم، هناك ملاحظات على قانون الإصلاح الزراعي، لكن من ناحية العدالة الاجتماعية، فقد حقق قفزة بضرب الإقطاع، رغم بعض الملاحظات على الإنتاج الزراعي قبل وبعد الإقطاع. الإقطاع كان عبودية، والفلاح كان يعيش في أوضاع بائسة جداً. وقضية تصدير القمح والرز حدثت عندما كان عدد سكان العراق 7 ملايين، وليس أكثر من 40 مليوناً كما هو الحال اليوم.
رووداو: إذا كانت الثورة ناجحة، لماذا لم تستمر؟
رائد فهمي: التغييرات التي أحدثتها الثورة كانت حقيقية، لكنها لم تستمر بسبب المؤامرات الداخلية والخارجية، والانقسامات داخل الكتلة الوطنية، واستفحال النزعة الفردية عند عبد الكريم قاسم. كل هذا أضعف الزخم الثوري. دعني أقول إن هناك من يروّج لعودة الحكم الملكي، وأتذكر فترة المعارضة حين كان الشريف علي، زعيم الحركة الدستورية الملكية، يروّج لذلك. لكن، هل عادت الملكية بعد 2003؟ بالتأكيد لا. إذن، ثورة تموز طوت صفحة كاملة، وكانت لها تداعيات على المستويين الإقليمي والدولي.
رووداو: من، برأيكم، أجهض اعتبار 14 تموز عيداً وطنياً؟
رائد فهمي: القوى السياسية التي تهيمن على الحكومة، وخاصة الأحزاب الإسلامية، هي التي غيرت العيد الوطني إلى تاريخ انتساب العراق إلى الأمم المتحدة، في 3 تشرين الأول. هذه القوى لا تتعاطف مع ثورة تموز لأسباب معروفة، وكذلك القوى الليبرالية. لا أعلم إن كانت هذه القوى تملك فهماً عميقاً للثورة، أم أنها انصاعت للصورة النمطية التي تربط الثورة بمجزرة العائلة المالكة. لا أحد يستطيع التحكّم بمجريات الثورات، وكل الثورات فيها تجاوزات. حين نحلل حدثاً، يجب أن نتناول مضامينه السياسية والاقتصادية والثقافية.
وهنا، أحيي قيادة كوردستان التي غيّرت موقفها من ثورة تموز، واعتبرت ذكراها عطلة رسمية في الإقليم، وهذا موقف جيد. الثورة شكلت لاحقاً منعطفاً، وتمت الإشارة إلى الأخوّة العربية الكوردية في الدستور، وهذا مكسب تاريخي كبير.
رووداو: هل تعتقد أن ما حصل كان نكاية بالشيوعيين؟
رائد فهمي: بل نكاية بالفكر التقدمي كله. الشيوعيون لم يقوموا بالثورة، بل ساهموا فيها من خلال ضباط كانت لهم علاقة بها. حتى عبد الكريم قاسم انقلب لاحقاً على الشيوعيين. البعض يقيم الثورة انطلاقاً من موقفه من الشيوعية، وليس من الحدث ذاته. استقلال القرار الوطني، ورفض القواعد العسكرية، كانت مبادئ واضحة في تموز.
رووداو: كيف تتعاملون مع فكرة العيد الوطني؟
رائد فهمي: فكرة العيد الوطني ترتبط بالهوية والروح الوطنية، وهي ليست مجرد عطلة رسمية. ثورة تموز لا يمكن أن تمر مرور الكرام. لنأخذ مثالاً: الفرنسيون يحتفلون بـ14 تموز، يوم اقتحام الباستيل، رغم ما تخلل الثورة الفرنسية من إعدامات، إلا أن الجميع يعتبره يوماً وطنياً، لأنه نقل فرنسا من حال إلى حال.
برايي، الحكومة العراقية ألغت مناسبة 14 تموز ترضية للقوى الدولية. هل دخول العراق إلى عصبة الأمم مناسبة يشعر بها المواطن؟ اسأل الناس في الشارع.. من يتذكر ذلك الحدث؟ أي عيد وطني لا يحرك شعور الناس لا يستحق أن يكون عيداً.
ثورة تموز، خلال أربع سنوات فقط (1958-1963)، حققت إنجازات ومشاريع أكثر مما حققته الحكومات المتعاقبة منذ 2003 وحتى اليوم، رغم قلة الموارد حينها. يجب أن نميز بين "الثورة" و"الانقلاب"، وأن نقيّم الحدث من منظور موضوعي. فهل يمكن مقارنة تموز 1958 بانقلاب 8 شباط 1963 أو 17 تموز 1968؟ بالتأكيد لا.