بين واقع اقتصادي مأزوم وتفكك اجتماعي متزايد، تتفاقم ظاهرة تشرد الأطفال وعمالتهم، لتتحول من حالات فردية إلى أزمة مجتمعية تهدد جيلا كاملا، بينما تقف خلف هذا المشهد عوامل متعددة، أبرزها الفقر والنزوح والعنف الأسري، إلى جانب ضعف تطبيق القوانين وغياب السياسات الفاعلة في حماية الطفولة.
وفي الوقت الذي تسعى فيه الجهات الحكومية والمنظمات الإنسانية لاحتواء هذه الظاهرة، لا تزال الشوارع والأسواق والورش تعج بأطفال فقدوا حقهم في التعليم والحياة الآمنة، ليجدوا أنفسهم في بيئات قاسية، لا ترحم أعمارهم الصغيرة.
تراكمات اجتماعية واقتصادية
تحدثت إلهام قدوري، ناشطة ومدير منظمة عن أبرز الأسباب التي تؤدي إلى تشرد الأطفال وانحرافهم في المجتمع العراقي، مشيرة إلى أن هذه الظاهرة لم تعد مجرد حالات فردية، بل نتيجة تراكمات اجتماعية واقتصادية.
تقول قدوري لـ "طريق الشعب"، ان "من أبرز العوامل التي تدفع الأطفال إلى الشارع وتؤدي إلى انحرافهم، هو التفكك الأسري، خصوصاً حالات الطلاق. حين ينفصل الأبوان، غالباً ما يترك الطفل دون رعاية أو احتضان حقيقي، حتى وإن كان يعيش في كنف الجد أو الجدة. في هذه المرحلة العمرية الحساسة، يحتاج الطفل إلى دعم نفسي واجتماعي مستقر، وإن غاب ذلك، يصبح معرضاً للانخراط في علاقات غير سوية ورفاق سوء".
وتضيف أن "الفقر لا يقل خطورة عن التفكك الأسري، بل ربما يكون أقوى الأسباب التي تدفع الأطفال إلى الشارع والعمل القسري"، موضحةً أن "الفقر يدفع الأطفال لترك مقاعد الدراسة والبحث عن لقمة العيش، في غياب أي دعم مؤسساتي حقيقي يعيدهم إلى طريق التعليم".
وتشير أيضاً إلى أن الجهل، سواء لدى الأب أو الأم يفاقم المشكلة، قائلة: "عندما لا يكون لدى الوالدين وعي كاف أو اهتمام بتعليم أبنائهم، أو حين يتركونهم دون رقابة أو توجيه، فإن الطفل يصبح أكثر عرضة للانحراف".
وتتابع ان "العنف الأسري أيضاً من العوامل الأساسية. حين يتعرض الطفل للعنف المتكرر داخل البيت، يكون من الطبيعي أن يهرب نحو الشارع، لكنه لا يجد فيه سوى مزيد من الانحراف".
وعن الحلول، تؤكد قدوري أن "الوعي المجتمعي، والمراقبة، وتفعيل القانون" هي مفاتيح المعالجة الحقيقية، مشددة على أن "فرض القانون بشكل حازم، ووجود مؤسسات تتابع حالات التسرب والعنف الأسري، كفيل بأن يمنح الطفل فرصة ليعيش حياة متوازنة وسليمة".
وختمت بالقول: "هذه الظاهرة لن تعالج إلا من خلال فهم الأسباب الحقيقية، ووضع خطة وطنية واضحة المعالم، تشمل دعم الأسرة، وتوفير التعليم، ومكافحة الفقر، وبناء بيئة قانونية تحمي الطفل وتضمن مستقبله".
برنامج وطني لدعم الفقراء؟
من جانبه، أكد المتحدث باسم وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، نجم العقابي، أن الوزارة تواصل جهودها في مكافحة ظاهرة عمالة الأطفال، خصوصا في المناطق الصناعية داخل بغداد وفي المحافظات، مشيرا إلى اتخاذ إجراءات قانونية صارمة بحق أرباب العمل الذين يشغلون أطفالًا دون السن القانوني.
واشار الى ان الوزارة تملك لجنة مختصة في مكافحة عمالة الاطفال.
وأوضح العقابي لـ "طريق الشعب"، أن "الوزارة تحيل المخالفين إلى الجهات المختصة، في إطار سعيها لحماية الأطفال وضمان حقوقهم"، لافتا إلى أن هذه الخطوات تأتي بالتوازي مع برنامج وطني واسع لدعم الأسر الفقيرة.
وأضاف العقابي أن هناك نحو 4 ملايين طفل مشمولون ببرامج الحماية الاجتماعية التي تقدمها الدولة، ودعم الاسر العراقية من خلال توزيع سلات غذائية ومنح مالية للتلاميذ في المرحلة الابتدائية، حيث يحصل الطالب على مبلغ شهري يبلغ 30 ألف دينار، بهدف تشجيعهم على العودة إلى مقاعد الدراسة.
كما أعلن العقابي عن إطلاق وجبة جديدة من الدعم المالي بالتعاون مع المنظمات الدولية، ضمن برنامج "كاش بلاس" حيث تم منح مبلغ 240 ألف دينار لكل مستفيد لمدة 6 أشهر.
ولفت إلى أن محافظة المثنى، باعتبارها من أكثر المحافظات فقرا، كانت من أوائل المناطق المستفيدة من هذه المبادرة، مشيرًا إلى شمول نحو 7 آلاف مستفيد فيها خلال الأيام الماضية.
وأشار إلى أن البرنامج يشمل أيضا النساء الحوامل، مع الأخذ بالاعتبار الجانب الصحي، مؤكدا أن الوزارة ستواصل التوسع التدريجي في البرنامج ليشمل محافظات أخرى خلال الفترة المقبلة.
وخلص العقابي الى أن الوزارة "عازمة على تحسين واقع الأسر الفقيرة وتوفير بيئة ملائمة للأطفال، بعيدًا عن بيئة العمل والاستغلال".
وكانت وزارة التخطيط كشفت في وقت سابق، أن 17.5 في المائة من العراقيين يعيشون تحت خط الفقر، أي ما يزيد على 8 ملايين شخص. وتؤكد منظمة يونيسف أن الأطفال يشكلون النسبة الأكبر من بين 4.5 مليون عراقي معرضين للفقر، ما يدفع آلاف الأسر إلى دفع أطفالها للعمل في الشوارع والأسواق لتأمين الحد الأدنى من المعيشة.
غياب الرقابة المؤسسية
وقال القانوني مصطفى البياتي، إن عمالة الأطفال في العراق تمثل انتهاكا صارخا للحقوق الأساسية التي نصت عليها القوانين الوطنية والاتفاقيات الدولية، لافتًا إلى أن قانون العمل العراقي رقم (37 لسنة 2015) منع تشغيل الأطفال دون سن الخامسة عشرة، ووضع شروطا صارمة لتشغيل من هم بين 15 و18 عام، من بينها توفير بيئة آمنة، وساعات عمل محددة، وتدريب مهني مناسب.
وأضاف البياتي لـ "طريق الشعب"، ان "رغم وجود هذا الإطار القانوني، إلا أن عمالة الأطفال لا تزال تنتشر بشكل مقلق في العراق، بفعل عوامل متعددة في مقدمتها الفقر، وغياب الرقابة المؤسسية، وضعف تطبيق القوانين، وغياب السياسات الفاعلة في حماية الطفولة". وأشار البياتي إلى أن "الحروب والنزوح كانا من أكبر العوامل التي ساهمت في تفاقم الظاهرة، فمنذ اجتياح تنظيم داعش لعدة محافظات عراقية عام 2014، اضطرت ملايين الأسر للنزوح وفقدت مصادر دخلها، ما دفع العديد من الأطفال إلى تحمل أعباء الكبار في وقت مبكر".
وتابع قائلا "تُمارس عمالة الأطفال في بيئات شديدة الخطورة، لا تراعي الحد الأدنى من شروط السلامة أو الصحة المهنية، كورش تصليح السيارات، وتحميل المعدات الثقيلة، وجمع النفايات، فضلا عن التسول المنظم، الذي بات يُدار من شبكات منظمة، بعضها على ارتباط بجرائم الاتجار بالبشر".
ودعا البياتي إلى تحرك عاجل على المستوى الحكومي والمؤسسات المعنية لوضع حد لهذه الظاهرة، من خلال تفعيل قانون حماية الطفل، وإنشاء قاعدة بيانات وطنية للأطفال العاملين، وتقديم برامج دعم اجتماعي وتعليمي عاجلة للأسر المتضررة.
واختتم بالقول ان "المعالجات الشكلية لم تعد كافية، فنحن بحاجة إلى سياسة وطنية شاملة لحماية الطفولة، تبدأ من الوقاية، ولا تنتهي عند المساءلة والمحاسبة".