في شنكال، لم يكن الألم حكراً على البشر، فقد شهد كل إنسان، وكل شجرة، وكل حجر على واحدة من أبشع المجازر في القرن الحادي والعشرين.
آلاف النساء الإيزيديات لا يزلن في قبضة داعش، ومصير آلاف الأشخاص لا يزال مجهولاً، كما تنتشر المقابر الجماعية غير المفتوحة في أنحاء شنكال، في انتظار العدالة والاعتراف الرسمي بالمأساة.
كل شيء تغيّر في لحظة، مع دوي الطلقة الأولى التي مزّقت سكون صباح شنكال في الثالث من آب/أغسطس 2014، لم يكن ذلك اليوم مجرد بداية لهجوم، بل كان انطلاقة خطة إبادة ممنهجة، استهدفت وجود مجتمع بأكمله.
من كوجو إلى الموصل... رحلة الألم والاختطاف
عشرات القرى الإيزيدية حوصرت في شنكال، الرجال أُعدموا بدمٍ بارد، النساء سُلبت حريتهن واستُعبدْن، والأطفال اختُطفوا ليُنتزعوا من طفولتهم إلى مصير مجهول، حيث أن ألم الفرمان لا يزال حيّاً في كل بيت، حيث تختلط قصص الأسرى والقتلى والمفقودين بدمار القرى وصمت المقابر الجماعية.
نسبت سليمان، إحدى الناجيات، تحمل جرحاً لا يُنسى من مجزرة طالت عائلتها بأكملها، تبلغ اليوم السابعة والعشرين من عمرها، تنحدر من قرية كوجو، لكنها كانت تعيش في قرية تل قصب بعد زواجها، روت أنه في صباح الثالث من آب/أغسطس 2014، وبينما كانت الحياة تسير بهدوء، اجتاح داعش قريتهم دون سابق إنذار "لم نكن نعرف شيئاً عنهم، ولم نتخيل أنهم سيهاجموننا، لذلك لم نكن مستعدين".
وأضافت "في الساعة الثامنة صباحاً بدأ الهجوم، ولم يكن لدينا وسيلة للهروب سوى السير على الأقدام نحو منحدرات شنكال، لكن داعش لحقوا بنا وأسروا الجميع، اقتادونا أولاً إلى دائرة النفوس في شنكال، حيث تم فصل الرجال عن النساء والأطفال، وفي ساعات الليل، فصلوني عن شقيقات زوجي وعدداً من الفتيات الأخريات، واقتادونا إلى مدينة بعجة".
تتذكر نسبت سليمان لحظة مؤلمة حين حاولت امرأتان مسنتان مرافقتهم، لكن عناصر داعش أشهروا أسلحتهم ومنعوهن بالقوة، وأخذوهن إلى مدينة بادوش.
وفي بعجة قضت نسبت سليمان ليلة واحدة، ثم نُقلت إلى الموصل، حيث بقيت هناك ثلاثة أشهر في قبضة داعش، تحمل معها خوفاً لا يُنسى وذكريات لا تُمحى.
وأكدت أن تلك الأيام من أصعب ما مرت به في حياتها "كنا خائفين جداً، لا نعرف ما ينتظرنا، كانوا يأتون باستمرار، يفتشون بيننا ليأخذوا الفتيات الأصغر سناً، بعد فترة، نقلونا إلى تل عفر، وهناك فصلوا الرجال الذين كانوا معنا، ومن بينهم زوجي، وأخذوهم إلى مكان آخر، وفي أحد الأيام، هربت عائلة كانت معنا، فجنّ جنونهم، جاؤوا إلينا غاضبين، عذبونا وهددونا بالقتل، بحجة أننا نملك هواتف، حاولنا جاهدين إقناعهم أننا لا نملك شيئاً، لكنهم لم يصدقونا بسهولة".
وتابعت "في تلك اللحظات، أرادوا أخذ شقيقة زوجي معهم، كانت معاقة ولا تستطيع الكلام، وعندما أدركوا حالتها، أعادوها إلينا، وكأنهم لا يرون فيها "فائدة"، تلك اللحظة كانت مؤلمة بقدر ما كانت مرعبة".
وأوضحت أنه "عندما اُحتجزنا أنا وعائلتي في تل عفر، حاولوا استعباد عدد من العائلات لاستخدامنا في خدمتهم، لم يكن أمامنا أي خيار، فكل شيء كان مفروضاً علينا بالقوة، قالوا لنا "إذا خدمتمونا، سنوفر لكم العمل"، كانوا قد استولوا على أشجار زيتون ومواشي من السكان، وأرادوا منا أن نرعاها ونعتني بها".
وتابعت حديثها "في تلك اللحظة، قال زوجي لهم "إن لم تفصلوني عن عائلتي، سأقوم بأي عمل تطلبونه"، بهذه الطريقة، أخذونا نحن وعدة عائلات أخرى للعمل في خدمتهم والقيام بأعمالهم اليومية، كنا نعيش تحت التهديد المستمر، نحاول أن نبدو مطيعين بينما نبحث في الخفاء عن أي فرصة للهرب".
وأضافت "كان زوجي، ومعه رجال من العائلات الأخرى، يخرجون ليلاً بحثاً عن سبيل للنجاة، لكن داعش كانت تراقبنا وتتوعدنا بالموت إن حاولنا الهرب، في إحدى المرات، جاءوا بسيارة وطلبوا منا فتح الباب، وعندما فتح زوجي الباب، رأى رجلاً مسناً قد قُتل بطريقة وحشية، قالوا لنا إن هذا الرجل حاول الهرب، فأمسكوا به وقتلوه، أرادوا أن يرهبونا بهذه الطريقة، ليغرسوا فينا الخوف ويمنعونا من التفكير بالفرار".
وأفادت أنه "منذ اللحظة الأولى، أجبرونا على اعتناق الإسلام، وفعلنا ذلك شكلياً فقط، بدافع الخوف لا الإيمان، وعندما كانوا يهددوننا، كان زوجي يقول لهم (نحن الآن أصبحنا منكم، لن نهرب أبداً)، بهذه الكلمات كان يحاول حمايتنا، هكذا، قضينا ثلاثة أشهر في ذلك المكان، بين الخوف والذل، نحاول أن نتمسك بأي أمل للنجاة".
محاولات الفرار رغم التهديد
في أول محاولة فرار، قالت نسبت سليمان "كنتُ حاملاً في ذلك الوقت، وأطفالي الآخرون كانوا صغاراً، كان الشتاء قد حلّ، والبرد قارس لا يرحم، في أحد الأيام، قررنا أنا وزوجي أن نحاول الهرب، بدا المكان هادئاً، لا أحد في الجوار، فانطلقنا عند الساعة السابعة مساءً، مشينا طوال الليل، بحثنا عن طريق للنجاة، لكننا لم نجد شيئاً، اضطررنا للعودة، خائبين وخائفين".
وأضافت "لكيلا نثير الشكوك، تركنا المنزل كأن شيئاً لم يكن، لكن الخوف كان ينهش قلوبنا، كانوا يأتون باستمرار لتفقدنا، يتأكدون أننا لم نهرب، وعندما رأينا أن لا أحد يراقبنا، عدنا إلى المنزل قبل أن يلاحظوا غيابنا، وفي تلك المحاولة، أعطيت أطفالي حبوباً منومة كيلا يصدروا أي صوت، خشية أن يُكتشف أمرنا".
وتابعت حديثها بالقول "رغم فشلنا، لم نتخلَّ عن فكرة الهروب، وبعد أربعة أيام، قررنا المحاولة من جديد، كنا نعلم أن القبض علينا يعني الموت، لكن الحياة التي كنا نعيشها هناك كانت موتاً بطيئاً في كل لحظة، في تلك الليلة، وجدنا فرصة أخرى، أعطيت أطفالي الحبوب المنومة مرة أخرى، انطلقنا تحت جنح الظلام، ومشينا لساعات طويلة حتى بزغ الفجر، ووصلنا أخيراً إلى مكان آمن، وبعد نجاتنا، توجهنا إلى زاخو، ومكثنا هناك قرابة عامين، ومن ثم انتقلنا إلى مخيم قاديا، حيث بدأ فصل جديد من حياتنا، لكنه لم يكن أقل قسوة".
ولفتت إلى أنه "لقد تحررنا من قبضة داعش، ولكن انقطعت عن أخبار عائلتي، عشت سبع سنوات في المخيمات، بين الألم والانتظار، وبعد وقت، بدأت الحقائق تتكشف تدريجياً، لم يبقَ لي من عائلتي سوى واحد من إخوتي، أما البقية، فقد قُتلوا جميعاً".
العود إلى شنكال بعد سبع سنوات
بعد سبع سنوات من النزوح والعيش في المخيمات، عادت نسبت سليمان إلى موطنها في شنكال، لكنها لم تجد سوى الأطلال والذكريات المؤلمة، فقدت معظم أفراد عائلتها خلال الإبادة الجماعية التي ارتكبتها داعش بحق الإيزيديين، وتقول إن من بين نحو عشرين فرداً من عائلتها، لم يبقى أحد على قيد الحياة.
وفي حديثها، أوضحت أن عائلتها كانت تقيم في قرية كوجو عندما وقع الهجوم "كان لي سبعة إخوة، وأبي وأمي، وزوجات إخوتي وأطفالهم، قامت داعش بحفر مقابر جماعية في كوجو، وألقوا فيها من قتلوهم، قُتل والدي وخمسة من إخوتي بهذه الطريقة، أحد إخوتي نجا بأعجوبة رغم إصابته، بينما ألقوا والدتي في الحفرة وهي لا تزال على قيد الحياة وقتلوها هناك، كما قتلوا أطفال إخوتي بوحشية، أما زوجة أخي، فهي لا تزال في قبضة داعش، ويُعتقد أنها في سوريا".
ورغم مرور سنوات على المجزرة، لا تزال نسبت سليمان تبحث عن رفات أحبائها "حتى الآن، لم نعثر إلا على عظام والدي واثنين من إخوتي، عظام والدتي لا تزال في بغداد، وعظام إخوتي الآخرين وأطفالهم مفقودة، الدولة لا تفي بمسؤوليتها، بل تخدعنا، العراق لم يعترف حتى الآن بالإبادة الجماعية التي تعرضنا لها".
وأوضحت أن الحكومة العراقية تجمع عينات دم من الناجين سنوياً في ذكرى الفرمان، بهدف مطابقة الهويات، لكن دون نتائج ملموسة "نحن لا نطلب شيئاً مستحيلاً، فقط نريد عظام أحبائنا، ونريد إنقاذ من لا يزالون أسرى لدى داعش".