ملخص
يأتي الزوار صغاراً وكباراً الى "لاتولييه دي لوميار" في باريس ليغرقوا في الفن بكل ما لكلمة غرق من معاني، غرق سمعي وبصري يغلف الزائر ويحوله إلى قطعة من المعرض، في تقنية فريدة اكتشفها رواد المعارض الباريسية مع معرض مخصص لفان غوغ ولوحاته منذ ما يربو على عام، وها هم يعيشونها مجدداً إنما مع بطل أنطوان دو سانت إكزوبيري (1900-1944) "الأمير الصغير".
ينغمس زائر هذا المعرض الممتد لغاية آخر شهر أغسطس (آب) المقبل في عالم "الأمير الصغير" ويكتشف قصته من زاوية جديدة داخل النص، فكل مشهد ينقل الزوار إلى كوكب جديد أو مغامرة جديدة أو شخصية التقاها الأمير الصغير في خضم تنقله بين الكواكب، فمن الصحراء إلى الكويكب (B-612) مروراً بالكواكب المتعددة التي يزورها الأمير الصغير، ينسى الزائر كل ما يجري خارج القاعة وينغمس في الفضاء السحري والفني الذي يخلقه له هذا المعرض بألوانه وموسيقاه وجمله الجميلة العميقة المستلة من النص الأول الذي وضعه سانت إكزوبيري عام 1943.
موعد مميز وتجربة لكل الحالمين ولكل عشاق هذه النوفيلا التي أدهشت القراء في العالم بأسره وتُرجمت إلى ما يربو على 500 لغة، بحسب موقع الذكاء الاصطناعي، والتي لا تزال تحقق أرقام مبيعات عالية بعد مرور أكثر من نصف قرن على صدورها، ويرافق رواد المعرض "الأمير الصغير" في رحلته لفهم العالم من حوله وترويضه بكثير من الخيال والمشاعر الطافحة والفنية العالية والفلسفة البشرية والوجودية، وبفضل تقنيات العرض بالفيديو والتكنولوجيا المتطورة والصوت المحيطي، ينبض "الأمير الصغير" بالحياة بطريقة غير مسبوقة، إذ تغمر الصور الجدران والأرضيات لتخلق عالماً بزاوية 360 درجة، كما يحيط الصوت الزائر من كل صوب ليكون فعل الانغماس كاملاً وليصبح المتفرجون في قلب القصة التي تخيلها وكتبها سانت إكزوبيري في 100 صفحة، فلا تقتصر التكنولوجيا على الإبهار بل تتلاشى لتفسح المجال لتجربة غامرة للحواس كلها وبالكامل.
رمزية الشخصيات
لم تعرف نوفيلا "الأمير الصغير" النجاح الذي عرفته لمجرد كونها قصة جميلة بل لكونها قصة مليئة بالرمزيات والمرسلات الاجتماعية والانسانية والوجودية، فتأسر رائعة أنطوان دو سانت إكزوبيري القراء من مختلف الأعمار بسردها الشيق وحقائقها الفلسفية العميقة، فما يمكن أن يبدو قصة بسيطة للأطفال يخفي وراءه نسيجاً غنيا بالرمزية يدعو المرء إلى التأمل في الحياة وطبيعة الإنسان والسعي وراء المعنى الحقيقي.
تتغلف دروس الحياة في رحلة الأمير الصغير منذ البداية لتكون هذه النوفيلا استعارة لمراحل عدة وجوانب متنوعة من الحياة، تكشف عن زلات الإنسان وحكمته في آن، فكل كوكب يزوره الأمير الصغير يجسد جانباً مختلفاً من المجتمع ويحمل في طياته درساً إنسانياً واسع الأفق لتتحول هذه النوفيلا إلى ما يعرف بـ "الرواية التكوينية"، فالملك مثلاً الذي يلتقيه الأمير الصغير في البداية يمثل عبثية السلطة وهوس الإنسان بالنفوذ والسيطرة والاستبداد، وعلى رغم ادعاءاته الكثيرة لا يملك هذا الحاكم أي رعية ولا من يتلقى أوامره لتفرغ السلطة من قيمتها ومن دورها على رغم محافظة الملك على عرشه وصولجانه وتاجه، وكأن غياب الرعية تهكم وسخرية على السلطة ورجالاتها.
ويظهر بعد الملك الرجل المغرور الذي لا يكترث سوى بالإعجاب والتصفيق، لتجسد هذه الشخصية بمثالبها الرغبة البشرية في نيل التقدير والبقاء في محور الاهتمام ومحط الأنظار، وتظهر في هذا الرجل حاجة البشر إلى التقدير الخارجي للمحافظة على الرضى الداخلي، وهو ما يرفضه "الأمير الصغير" بكل براءته وطيبته وبساطة رؤيته للأمور.
وبعد الملك والرجل المغرور يأتي السكير ومن بعده رجل الأعمال الذي يصرف وقته في عد النجوم وادعاء ملكيتها على رغم عبثية هذا الادعاء، فبدلاً من الاستمتاع بها يسعى رجل الأعمال إلى امتلاك النجوم في هوس عبثي بالأرقام والغنائم والتجارة بكل شيء، ويظهر كذلك الرجل الذي يضيء المصابيح، هذا الرجل الذي يعيش في دوامة أزلية لا تنتهي وتذكر بسيزيف وعقابه الذي يستمر لأبد الدهور، ليكشف "الأمير الصغير" عبر لقائه هذا الرجل الملتزم بالمهمة المفروضة عليه مساوئ الإنسان المحدود الذي لا ينفك يكرر الأمر عينه بفراغ وأوتوماتيكية غير مفيدة تمنعه من الاستمتاع بالحياة التي تمر قربه من دون أن يشعر بها ولا أن يعيشها.
وليلتقي الأمير الصغير في الكوكب السادس بعالِم جغرافيا لا يغادر مكتبه أبداً، معتمداً على المستكشفين للحصول على معلوماته عن العالم، يرمز هذا الإنسان إلى الذين يغرقون بالمعرفة النظرية وينسون العالم حولهم ويكتفون بالنظر من بعيد ويعزلون أنفسهم عن الحياة الجارفة بمشاعرها وطوفاناتها ومغامراتها.
وتعكس كل شخصية يلتقيها الأمير الصغير مثلبة بشرية قبل أن يصل في نهاية المطاف إلى كوكب الأرض ويلتقي الراوي، وهو مرآة للكاتب نفسه، ويذكر أن حياة الكاتب تنتهي بسقوط طائرته خلال الحرب العالمية الثانية لتكون هذه النوفيلا نوعاً من التنبؤ بالمستقبل، فالراوي كما الكاتب تسقط طائرته به، إنما بينما ينجو الراوي لا ينجو الكاتب ولا تظهر جثته على شواطئ جنوب مارسيليا الفرنسية إلا بعد 50 عاماً من تاريخ اختفائه.
رمزية الأشياء والحيوانات
ليست الشخصيات وحدها التي تشكل رمزية في نوفيلا سانت إكزوبيري، فحتى الأشياء لها دورها وهو ما يظهر في المعرض الباريسي بصورة واضحة وجذابة، حيث يرى الزائر الخروف والوردة والنجوم والثعلب، يراها تتحرك وتتكلم وتتلفظ بكلمات سانت إكزوبيري، ويعيش الزائر كذلك الصحراء والبراكين والسماء ليلاً، في مشاهد وأشياء وألوان تغمر زائر معرض الأمير الصغير وتستأثر بحواسه وتغلفه، فتحيط به وتهدهده وتحوله إلى شخصية من شخصيات السرد فالفيل نفسه والأفعى حاضران وتخصص لهما موسيقى خاصة ومناسبة فيها التشويق والتخويف والتصعيد الدرامي.
وفي زمن قلت فيه القراءة والعودة للنص الأول، يأتي هذا المعرض ليشجع القراء على اكتشاف نص فلسفي شاعري بسيط بلغته وأسلوبه، إنساني بمعانيه، من خلال تكنولوجيا حديثة ومتقدمة، إذ يتعلم الأمير الصغير دروساً ثمينة حول الحب والخيال والصداقة والطبيعة، كما يجسد البراءة والفضول وروح الطفولة الحرة التي لم تروضها الحياة وأعوام النضج، وهي مشاعر ومغامرات تتجلى في معرض "لاتولييه دي لوميار" بكل فنية وجمالية ومهارة تكنولوجية.