لم تكن هوليوود في أي وقت من الأوقات مجرد مركز لصناعة الترفيه، بل كانت بحق واحدة من أقوى الأدوات الثقافية في تشكيل الوعي وتوجيه الرأي العام المحلي والعالمي، ورسم تصورات العالم عن ذاته وعن الآخر، والتأثير في السياسة وتكريس السرديات التاريخية. ومنذ بزوغ شمس السينما الأميركية، كان لليهود دور محوري، فلم يكن عارضًا ولا هامشيًا، بل تأسيسيًا ونافذًا. ففي كتابه "إمبراطوريتهم الخاصة: كيف اخترع اليهود هوليوود" الصادر في 1988، يرصد المؤرخ نيل جابلر كيف أُنشئت معظم استديوهات هوليوود الكبرى، التي ما زالت تسيطر على هذه الصناعة إلى اليوم، على أيدي رجال أعمال يهود؛ بدءًا من أدولف زوكو، اليهودي ذي الأصول المجرية، مؤسس شركة "Paramount Pictures" عام 1912، إلى اليهودي ذي الأصول الألمانية، كارل ليملي، مؤسس "Universal Pictures" عام 1912، مرورًا باليهودي ذي الأصل المجري، وليام فوكس، مؤسس "Fox Film Corporation" عام 1915، واليهودي البولندي صموئيل جولدوين، مؤسس "Goldwyn Pictures" عام 1916، والأخوين اليهوديَّين جاك وهاري كوهين مؤسسي "Columbia Pictures" عام 1918، والإخوة وارنر ذوي الأصل اليهودي البولندي (هاري، ألبرت، سام، جاك) مؤسسي "Warner Bros" عام 1923، وصولًا إلى لويس ماير وماركوس لوو اليهوديَّين الكنديين مؤسسي "Metro Goldwyn Mayer MGM" عام 1924. فلم يكن هؤلاء مجرد تجار أفلام، بل أصحاب رؤية وأيديولوجيا وتطلعات أرادوا نقلها عبر الشاشة الكبيرة إلى الجمهور الأميركي والغربي بالأساس، ومن ورائهم الضمير العالمي بطرق مباشرة أو غير مباشرة.
ومع احتمال أن هذا الحضور القوي بدأ حين اعتبر اليهود هذا المجال الجديد فضاء مفتوحًا للابتكار والربح وبناء النفوذ، فإنه، ومع مرور الوقت، تجاوز هذا الهدف ليصبح جزءًا من شبكة متكاملة لتشكيل الوجدان الأميركي، وإعادة بناء التصورات عن الهوية والتاريخ، والعدو والحليف في أوساط هذا الجمهور الذي لم يكن معظمه حينها معنيًا بالشؤون اليهودية، أو القضية الفلسطينية. ومن ثم فقد ساهم هذا الحضور في دعم الأيديولوجيا الصهيونية، واجتذاب التعاطف لصالح اليهود، وترويج الرواية الإسرائيلية في الصراع العربي الإسرائيلي، سواء عبر التكرار المباشر أو الإقصاء الرمزي لصوت الطرف الآخر. وبشكل عام يمكن القول إن منتصف القرن العشرين شهد تحولًا في طريقة عرض السردية الصهيونية؛ حيث انتقل الكتاب والمنتجون من الإقناع الثقافي الناعم، إلى الترويج المباشر والصريح للأفكار الصهيونية تحت غطاء درامي.
ثمة أمثلة كثيرة على ذلك؛ منها فيلم "The House of Rothschild/عائلة روتشيلد" 1934، الذي ركز على دور عائلة روتشيلد اليهودية في تمويل حروب نابليون، ورسم صورة إيجابية لليهود على أنهم عباقرة المال الذين ساعدوا بريطانيا في حروبها، وكسب التعاطف مع اليهود في فترة كانت تشهد صعود النازية في ألمانيا ومعاداة اليهود. ومنها كذلك فيلم "Gentleman’s Agreement/اتفاق النبلاء" 1947 الذي أخرجه المخرج المعروف إيليا كازان، ومن بطولة جريجوري بيك، والذي فاز بثلاث جوائز أوسكار، وكان جزءًا من حملة هوليوودية واسعة بعد الحرب العالمية الثانية لتعزيز التعاطف مع اليهود، ورغم أنه لم يتحدث عن فلسطين صراحة، فقد مهد عاطفيًا لقبول فكرة "الدولة اليهودية".
ثمة فيلم ثالث عنوانه "Sword in the Desert/ سيف في الصحراء" 1949، وهو أول فيلم أميركي يتحدث عن هجرة اليهود إلى فلسطين؛ وقد حرص منتجوه على تقديم اليهود أبطالًا يقاتلون سلطات الانتداب البريطاني، وتصوير المقاومة العربية على نحو عدائي، مع دعم واضح لعصابات الهاجاناه التي كانت ترتكب المجازر ضد سكان فلسطين. وفي السياق نفسه، فإن فيلم "Exodus/ الخروج" 1960 بطولة بول نيومان، قدم الاهتمامات نفسها، ولعله أشهر فيلم يقدم رؤية صهيونية صريحة في ذلك الوقت، فهو إلى جانب ترويجه بطولات اليهود في مواجهة البريطانيين والعرب، حرص على تصوير ميل الفلسطينيين للعنف ورفض السلام، على عكس الإسرائيليين "المسالمين، والساعين لبناء وطنهم". وبتوظيف ذكي للرمز الديني التوراتي وربطه بالمعتقد الغربي المتعلق بالنص الديني، والبارز في اسم الفيلم نفسه، قدم الفيلم قيام الكيان الصهيوني كتحقق معاصر لقصة الخروج التوراتية القديمة من العبودية إلى "أرض الميعاد"، فكان الفيلم بذلك شكلًا من أشكال الدعوة السياسية المغلفة بالحكاية الدينية والحنين إلى الماضي. وقد كان لهذا الفيلم تأثير نفسي هائل في تثبيت السردية الصهيونية في المخيال الغربي، والمساهمة في تبرير احتلال فلسطين عند شريحة واسعة من الأميركيين. وهكذا أصبحت هجرة اليهود إلى فلسطين، وتأسيسهم وطنًا قوميًا في فلسطين تكرارًا لقصة الخروج القديمة ودخول أرض كنعان، وجرى الدمج بين الحنين الديني والتسويق الثقافي، وهو مشهد سبقته أفلام أخرى حملت عناوين لا تقل وضوحًا في ربط الفكرة الدينية بالدعاية الصهيونية؛ أحدها الفيلم الوثائقي "أرض الميعاد" الذي أنتجته شركة بارامونت بيكتشرز عام 1935، وأظهر كيف حول الصهاينة فلسطين أرضًا مزدهرة ومدنًا حديثة نابضة بالحياة، وكان له أثر كبير في جمع التبرعات للمؤسسات الصهيونية.
ولم يكن غريبًا ألا تكتفي السينما الأميركية بتجميل صورة إسرائيل، وأن تذهب أبعد من ذلك إلى تمجيد تدخلات الولايات المتحدة المباشرة في تأسيسها، كما في فيلم "ألقى بظل عملاق"/ Cast a Giant Shadow الذي صور حرب 1948 بين العصابات الصهيونية والعرب على أنها كفاح ضد أعداء بربريين من خلال سرد قصة الكولونيل الأميركي اليهودي دافيد دانيال الذي جُسدت شخصيته في الفيلم باسم "ميكي ماركوس" والذي قاتل في صفوف العصابات الصهيونية حتى قُتل في عام 1948، ولم يكن غريبًا كذلك تقاسم البطولة في هذا العمل، الذي أنتج عام 1966، بين نخبة من نجوم هوليوود في ذلك الزمن: كيرك دوجلاس، ويول براينر، وجون واين، وفرانك سيناترا.
عشرات، بل مئات الأفلام، حملت رسائل مشابهة؛ منها ما وثق للرواية الصهيونية عن المحرقة النازية مثل يوميات آنا فرانك/The Diary of Anne Frank، قائمة شندلر/Schindler’s List، وعازف البيانو/The Pianist، والقارئ/The reader، واختيار صوفي/Sophie’s Choice، والحياة حلوة/Life is Beautiful وهو فيلم إيطالي تم توزيعه في الولايات المتحدة من قبل شركة ميراماكس التي يملكها الأخوان واينستاين وهما يهوديان... هذه الأعمال وغيرها عززت في الوعي الأميركي والغربي عمومًا صورة اليهود بوصفهم "ضحية نموذجية" ما ساهم في خلق تعاطف ثقافي مستمر، ومهد سياسيًا لتأييد إسرائيل من قبل الإدارات الأميركية المتعاقبة. ومنها ما برر الجرائم الإسرائيلية وعمليات الموساد؛ كما في فيلم ميونيخ/Munich للمخرج ستيفان سبيلبرج، الذي تجاهل جذور النكبة واحتلال فلسطين، وركز فقط على تقديم المبرر للانتقام الإسرائيلي من المقاومين الفلسطينيين الذين قاموا بقتل رياضيين إسرائيليين في أولمبياد ميونيخ 1972. ومنها ما يُمجد المخابرات الإسرائيلية وذكاءها في مقابل النظام العربي المتخلف والقمعي كما في مسلسل "الجاسوس/The Spy" الذي يحكي قصة الجاسوس إيلي كوهين. وربما صور بعضها قصة شجاعة القيادة الإسرائيلية حين تتعرض لخطر وجودي، مع تعمد تغييب الخلفية السياسية والتاريخية للصراع مثلما فعل فيلم "جولدا/Golda" الذي تناول مواقف رئيسة الوزراء الإسرائيلية إبان حرب 1973.
والحقيقة أن العلاقة بين هوليوود والكيان الصهيوني تخطت مجرد إنتاج الأفلام المنحازة للسردية الصهيونية؛ وامتدت إلى تنظيم احتفالات مزجت بين الفن والسياسة للترويج للكيان الصهيوني بوصفه نموذجًا مصغرًا للولايات المتحدة الأميركية في الشرق الأوسط، أو باعتبار صلات الدم والقرابة والمبادئ الدينية التي تربط الأميركيين والإسرائيليين، حسب تعبير نائب الرئيس الأميركي الأسبق والتر مونديل.
ويُعد كتاب "Hollywood and Israel/هوليوود وإسرائيل" الذي ألفه أنتوني شو، وجيورا جودمان، والصادر عام 2022، أحد أهم المراجع التي ترصد هذه العلاقة، وتنطلق فكرته المركزية من إثبات المكانة الخاصة التي احتلتها هوليوود في التحالف الأميركي الإسرائيلي؛ حيث كانت أحد أبرز عوامل الترابط الثقافي في هذا التحالف. ويحكي المؤلفان عن مناسبات عديدة وفعاليات أسهمت في تعزيز هذه العلاقة؛ من بينها قيام فنانين مشهورين ببذل جهود كبيرة لتنظيم احتفال "النجوم يحتفلون بإسرائيل في ذكراها الثلاثين" عام 1978، أذاعته شبكة ABC الأميركية، وشاهده ملايين الأميركيين، كما بُث على الهواء في دولة الاحتلال.
وهنا يبدو طبيعيًا طرح السؤال: كيف يمكن للجمهور الأميركي أن يقاوم جاذبية نجوم بحجم إليزابيث تايلور، شيرلي ماكلين، بول نيومان، كيرك دوجلاس، باربرا سترايسند، سامي دافيز، جين كيلي، هنري فوندا... ومئات غيرهم حين يقفون في صف إسرائيل؟ وكيف يمكن لعقل أميركي عادي أن يصمد أمام هذا المد العاطفي حين يصطف هؤلاء جميعًا في ذلك الاحتفال ينشدون معًا بحماسة عالية النشيد الوطني الصهيوني "الأمل/هتكفاه"؟ وكيف يمكن أن يقاوم تلك الرسائل المباشرة وغير المباشرة المؤيدة للكيان الصهيوني في السينما الأميركية؟ وكيف له أن يتحرر من أسر تلك الكلمات التي تغنى بها سامي دافيز "هذه الأرض لي... الله وهبني هذه الأرض..." على أنغام موسيقى مستوحاة من فيلم "الخروج" المشار إليه، والذي أُنتج من أجل تمجيد الاحتلال الصهيوني لفلسطين.
لقد كانت هوليوود دائمًا محورًا أساسيًا في الدبلوماسية العامة الإسرائيلية من أجل تشكيل رأي عام عالمي حول الصراع في منطقتنا. حيث اعتمدت إلى جانب ما سبق، وعلى مر العقود الماضية، على عدد هائل من مشاهير السينما العالمية، اليهود وغير اليهود، لممارسة الضغط من أجل إسرائيل عبر أعمالهم الفنية، أو عبر دعمها ماليًا وسياسيًا؛ كالممثل الكوميدي إيدي كانتور، وإدوارد ج. روبنسون، ولينا هورن، وداني كاي، وإليزابيث تايلور، وفرانك سيناترا، وسامي دافيز، وجين فوندا، وأرنولد شفارزنيجر، وهيلين ميرين، ونتالي بورتمان، ومريام بياليك.... وعشرات أو مئات غيرهم.
وفي المقابل؛ ومن أجل اكتمال الصورة، حرصت السينما الأميركية في الوقت نفسه على تقديم صورة نمطية تربط العربي والفلسطيني بالإرهاب، مصحوبة بصورة الأبطال الإسرائيليين وعملاء الموساد كمدافعين عن الغرب؛ فرسمت صورة العربي العدو، في مقابل البطولة الإسرائيلية.
وهكذا يمكن القول إن الصهيونية العالمية تمكنت من توظيف هوليوود وأغلب نجومها، في الترويج لمشروعها، وكما قال الممثل الكبير، مارلون براندو، "إذا كان بإمكان ممثل أن يكون مؤثرًا في بيع مزيلات العرق، فمن الممكن أن يكون مفيدًا بنفس القدر في بيع الأفكار"، وهو ما فعلته الصهيونية فعليًا من خلال هذا التوظيف لهؤلاء المشاهير. غير أن السنوات الأخيرة، وخصوصًا نتيجة الحرب الحالية، أعطت إلى السردية الفلسطينية زخمًا كبيرًا، مدعومة بوسائل إعلامية متنوعة وغير تقليدية، فتمكنت من البدء بكسر احتكار الصهيونية للإعلام والسينما الغربية، وحررت نسبة كبيرة من الشباب الغربي من أسر البروباغاندا الصهيونية، ودفعت كثيرين من النجوم العالميين إلى الانحياز للحق الفلسطيني... وتلك حكاية أخرى...