في زحام مدن العراق، لا سيما بغداد، لم يعد التوتر النفسي وليد لحظة عابرة، بل بات رفيقا يوميا لسكانٍ تتعالى فوق رؤوسهم ضوضاء لا تنام، تخترق تفاصيل حياتهم اليومية منذ الصباح حتى المساء.
تلك الضوضاء لم تعد تقتصر على الأماكن العامة كالأسواق وشوارع مراكز المدن، بل امتدت إلى الأحياء السكنية. فكثيرا ما يستيقظ الناس على أصوات باعة جوالين يروجون بضائعهم بين الأزقة عبر مكبرات الصوت، أو يستيقظون على أصوات منبهات سيارات أو ضجيج دراجات نارية، فضلا عن مولدات الكهرباء، لتستمر تلك الضوضاء حتى آخر أصوات أطفال يختتمون يومهم بصراح ومزاح مع حلول الليل، قبل أن يتفرقوا إلى المنازل! ويأتي التلوث الضوضائي مكملا للتلوث البيئي الذي تعانيه البلاد في هوائها ومائها وتربتها. ويرى اختصاصيون في الصحة والبيئة، أن التلوث السمعي لا يقل خطرا عن التلوث البيئي، فكلاهما يؤثر سلبا على الإنسان والبيئة، مشيرين إلى ان الضوضاء قد تسبب فقدان السمع، وارتفاع ضغط الدم، واضطرابات النوم، ومشكلات صحية نفسية، وغيرها من الأمراض التي باتت تنتشر بشكل كبير في العراق.
تحذير من ارتفاع معدلات الضجيج
رئيس المركز الاستراتيجي لحقوق الإنسان فاضل الغراوي، كان قد حذّر في بيان صحفي إبان أيار الماضي، من تفاقم التلوث الضوضائي في البلاد.
وقال أن "80 في المائة من العراقيين مصابون بمرض (التلوّث الضوضائي)"، مبينا أن نسب الضجيج المسجلة في بغداد تجاوزت المعدلات الآمنة المحددة من قبل منظمة الصحة العالمية، والتي تبلغ كحد أقصى 85 ديسيبل لمدة أقصاها 8 ساعات في اليوم. فما فوق ذلك قد يؤثر سلبا على الصحة الجسدية والنفسية للإنسان.
وتحدث الغراوي عن مصادر الضجيج في البلاد، موضحا انها لا تقتصر على المركبات والمولدات، بل تشمل أيضاً المعامل والورش الصناعية المنتشرة داخل المدن من دون رقابة بيئية، إلى جانب أصوات الطائرات، منوّها إلى أن "هذه البيئة المشبعة بالضوضاء تنعكس على الصحة العامة وتفاقم من المشكلات اليومية للعراقيين، لا سيما مع محدودية الخدمات الصحية النفسية".
وتفيد تقارير رسمية بأن عدد السيارات الخاصة في عموم العراق يبلغ نحو 8 ملايين سيارة، منها نحو 4 ملايين في بغداد التي لا تستوعب طرقاتها أكثر من 700 ألف سيارة.
هروب من المدينة إلى الريف!
من جانبه، يقول المواطن الخمسيني سعد العجيلي: "اتخذت قبل ثلاثة أعوام قراراً اعتبره كثيرون غير عقلاني حين استقلت من عملي في شركة تجارية كبيرة داخل بغداد، وانتقلت مع أسرتي إلى بلدة ريفية في محافظة ديالى، رغم ما سببه ذلك من تراجع كبير في دخلي". ويوضح في حديث صحفي أنه "كنت أعيش وسط بغداد وكان دخلي جيداً، لكنني كنت أسمع يومياً صراخ الناس ومنبهات السيارات وضجيج المولدات، فأعود منهكاً من العمل ولا أستطيع النوم حتى منتصف الليل. ثم وجدت نفسي أصرخ بوجه أطفالي بلا سبب".
ويتابع العجيلي حديثه قائلا: "انتابتني حالات من العصبية والقلق، وكنت افتعل مشكلات في العمل أو في الطريق أثناء الازدحام المروري، حتى انني ابتعدت عن أصدقائي، وبت لا أرغب في الخروج مع عائلتي أو أصدقائي للتنزه"، مضيفا قوله: "قبل ثلاثة أعوام اختفت هذه الأعراض والتصرفات بعد أن طبقت نصيحة قريبي المتخصص في علم النفس، بأن أغير أسلوب حياتي ومنطقة سكني، وأنتقل للعيش مع أقاربي في القرية. كل شيء بخير الآن فالضوضاء شبه معدومة"!
الجدران لا تمنع الضجيج من دخول البيوت!
سعد العجيلي ليس الوحيد الذي عانى اضطرابا نفسيا بسبب الضوضاء. فبحسب تقارير متخصصة فإن حالات "الإجهاد الصوتي" ارتفعت في العراق. وهو اضطراب نفسي ينجم عن التعرض المزمن للضوضاء، ويُعد من عوامل الضغط النفسي التي قد تتطور إلى سلوكيات عدوانية أو انهيارات نفسية.
وإذا كان العجيلي قد استطاع الانتقال إلى منطقة هادئة للتخلص من الضوضاء، فإن معظم الناس لا يستطيعون القيام بذلك، ومنهم سلوى عايد التي تعيش مع أسرتها في منزل صغير داخل حي شعبي مزدحم وسط بغداد. تقول سلوى في حديث صحفي، أن "زوجي لا يستطيع أن يتحمّل نفقات السكن في مكان أهدأ. لذلك نعيش في هذا الحي الشعبي المزدحم بالسكان والضجيج الخانق"، مبينة أن "أصوات الباعة وصغار الحي ومولدات الكهرباء كلها تدخل دفعة واحدة إلى بيتنا. لا أذكر انني نمت بشكل متواصل مرة واحدة. أعاني دوارا دائما بسبب الإرهاق والحرمان من الراحة".
هل تقود الضوضاء إلى الانتحار؟!
إلى ذلك، يقول اختصاصي الطب النفسي فارس موفق: "فعلياً لم يعد التلوث السمعي في العراق مجرد إزعاج كما يعتقد البعض، بل بات عاملاً نفسياً مؤذياً يتسلل بصمت إلى حياة الناس"، لافتا في حديث صحفي إلى ان "التعرض المستمر أو لوقت طويل لأصوات مرتفعة ومتكررة في بعض المناطق، لا يعطي أي فرصة للراحة أو الهدوء. وتؤكد مشاهداتنا اليومية ارتفاع عدد المواطنين الذين يتعرضون لإرهاق نفسي واضطرابات نوم وقلق وانفعالات زائدة". ويتابع قوله: "مع تراكم الظروف الاقتصادية الصعبة والمشكلات الاجتماعية، يصبح الفرد أكثر عرضة للتصرفات غير المنضبطة، وقد يقوده ذلك إلى العنف أو حتى إلى الانتحار"! ويشير موفق إلى ان "الضوضاء لا تهاجم الجهاز العصبي فقط، بل تؤثر أيضاً على القلب، وتزيد احتمالات الإصابة بأمراض خطيرة كالسكري من النوع الثاني، وتؤثر على التركيز والذاكرة خصوصاً لدى الأطفال، وهذه الأعراض شائعة في بلدنا اليوم". ورغم خطورة الظاهرة، لا تزال المعالجات الرسمية غائبة. إذ لا قوانين فعّالة للحدّ من التلوث الضوضائي، ولا أجهزة رقابة بيئية حقيقية تتابع هذه المشكلة المؤرقة الممرضة.