تعيش الدبلوماسية العراقية واحدة من أسوأ مراحلها منذ تأسيس الدولة، بعدما تحوّل منصب السفير – الذي يُفترض أن يكون واجهة العراق في الخارج – إلى غنيمة سياسية تُوزّع وفق صفقات المحاصصة الحزبية والطائفية. وقد انعكست هذه السياسة على أداء السفراء، حيث يمتنع بعضهم عن العودة، فيما يُقدم آخرون على طلب اللجوء في الدول التي يُفترض أنهم يمثلون العراق فيها، إلى جانب ممارسات مشوهة أخرى.
ويرى مراقبون أنّ اعتماد نهج المحاصصة، وتحويل السلك الدبلوماسي إلى ساحة لتقاسم النفوذ لا إلى أداة لخدمة المصلحة الوطنية، كانت نتيجته واضحة: سفراء يفتقرون إلى الخبرة، وزارة مهمّشة، وتمثيل خارجي باهت انعكس سلباً على ملفات سيادية خطرة، مثل خور عبدالله وملف المياه وغيرهما.
وعلى مدى السنوات الـ22 من عمر النظام الجديد، تحولت المناصب في السلك الدبلوماسي العراقي إلى "جوائز ومكافآت" تسعى الأحزاب المتحكمة بالمشهد السياسي للحصول عليها، وإسنادها لأعضائها وأفراد أسرهم والمقربين منهم.
تهميش للكفاءات
وأعرب مصدر في وزارة الخارجية لم يكشف اسمه عن استيائه من الآلية المعتمدة في تعيين السفراء، مؤكداً أنّها باتت خاضعة تماماً للمحاصصة الحزبية على حساب الكفاءة والمعايير المهنية التي ينص عليها القانون.
وقال المصدر في حديث لـ "طريق الشعب"، إنّ "الوزارة تضم كفاءات وخبرات دبلوماسية كبيرة، لكن يتم تهميشها لصالح أسماء يتم اختيارها وفقاً للتوازنات السياسية، وكأن الوزارة خلت من الكوادر المؤهلة".
وأضاف المصدر، أنّ قانون وزارة الخارجية يحدد بشكل واضح أن تكون نسبة 75% من تعيينات السفراء من داخل الوزارة، مقابل 25% فقط من الكفاءات خارجها، مردفا "لكن ما يحدث هو العكس تماماً، إذ باتت حصة موظفي الوزارة لا تتجاوز 25%، فيما جاءت ثلاثة أرباع الأسماء التي ظهرت في القوائم الأخيرة من خارج الوزارة".
وتابع أنّ "الكادر الدبلوماسي يتم إعداده على مدار عقود طويلة، ويحتاج الموظف إلى سنوات لاكتساب الخبرة والمعرفة المتراكمة، لكن في النهاية يُفاجأ الجميع بأنّ من يتبوأ المناصب العليا هم أشخاص من خارج الوزارة، لا يملكون ربع مؤهلات الكادر المهني".
ولفت المصدر إلى أنّ "الارتقاء درجة داخل الوزارة يخضع لإجراءات دقيقة تشمل تقييمات متعددة، وبحوث ترقية، ومقابلات رسمية قبل رفع التوصية"، مضيفا "فما بالك بمن يُفترض أن يكون سفيراً، ثم نجد أن المعايير كلها تُسقط لصالح التعيينات السياسية المحددة مسبقاً".
وخلص الى القول إنّ "هذا النهج أضعف وزارة الخارجية وأفقد الدبلوماسية العراقية فاعليتها، بعدما شغل هذه المناصب الحساسة أشخاص يفتقرون إلى الخبرة والمعرفة بأساسيات العمل الدبلوماسي".
حراك نيابي لوأد الصفقة
وهناك حراك لوقف تمرير القائمة عبر مجلس النواب، وسط تحذيرات من تداعياتها على سمعة العراق الدبلوماسية.
وقال عضو مجلس النواب النائب ثائر مخيف الجبوري، بشأن تصويت مجلس الوزراء قائلاً: إنّ "هذا التصويت يكرس المحاصصة الحزبية والطائفية. وكان الأولى الابتعاد عن تلك المحاصصة الحزبية التي لا تساعد على بناء العراق".
وأضاف أن دفع الأحزاب بشخصيات غير مؤهلة للمناصب العليا يهدف إلى الحفاظ على النفوذ السياسي وليس خدمة المواطن.
فيما أكد عضو لجنة العلاقات الخارجية النائب حيدر السلامي رفضه شبه الكامل للقائمة، مشيرا الى ان هناك مساعي ومحاولات لمنع تمرير هذه القائمة"
وتضم قائمة السفراء التي جرى تسريبها للإعلام، شخصيات مقربة من كبار المسؤولين، منهم أبناء وأصهار، موزَّعة على كتل وحسابات حزبية.
من جهته، اتهم عضو مجلس النواب عامر عبد الجبار الكتل السياسية الكبرى بـ"تفصيل" تلك القائمة على مقاسها، مؤكداً أن الترشيحات تمت وفق مبدأ المحسوبية والمنسوبية وليس على أساس الكفاءة والخبرة.
وقال عبدالجبار، إن "ما جرى في ملف ترشيح السفراء يمثل قمة الاستهزاء بالكفاءات الوطنية، حيث تم اختيار أسماء بناءً على الولاءات الحزبية والعلاقات العائلية، وليس وفق معيار الاستحقاق المهني أو الوطني"، مضيفا أن "بعض قادة الأحزاب لم يكتفوا بترشيح مقربين من الحزب، بل ذهبوا إلى ترشيح أبنائهم وأشقائهم وأصهارهم وحتى أقرباء زوجاتهم، في تجاوز صريح على مبدأ العدالة والمساواة، ما يعكس وجود دكتاتورية حزبية داخل هذه الكيانات".
أزمة الدبلوماسية العراقية
من جانبه، أكد الباحث في الشأن السياسي مجاشع التميمي أنّ الدبلوماسية العراقية تعاني أزمة بنيوية عميقة، تقف المحاصصة الحزبية والطائفية على رأس أسبابها.
وقال التميمي، إنّ المحاصصة "حوّلت السلك الدبلوماسي من أداة لتمثيل المصالح الوطنية إلى وسيلة لتقاسم المناصب بين القوى السياسية، بعيداً عن الكفاءة والمعايير المهنية"،
وأضاف التميمي في حديث لـ"طريق الشعب"، أنّ الموافقة على تعيين سفراء من خارج وزارة الخارجية بنسبة تتجاوز 50% تكشف حجم الخلل، حيث يُمنح المنصب كمكافأة سياسية لا كاستحقاق مهني مبني على الخبرة، مشيرا الى أنّ هذا النهج ترك انعكاسات خطرة على صورة العراق ومصالحه في الخارج.
واستشهد التميمي بفشل العراق في ملف ترسيم الحدود البحرية مع الكويت، مشيراً إلى أنّ غياب الوفد الدبلوماسي المحترف القادر على مواجهة الضغوط والتفاوض وفق أسس مهنية، ساهم في تعقيد القضية، معتبرا "إشكالية خور عبد الله الحالية هي نتيجة مباشرة لهذا الضعف البنيوي، وتعكس غياب استراتيجية دبلوماسية موحّدة تخدم المصلحة الوطنية العليا وتحصّن البلاد أمام التحديات الإقليمية والدولية".
ورهن التميمي معالجة هذا الخلل بـ"إعادة الاعتبار للمهنية في السلك الدبلوماسي، والالتزام الصارم بالقانون الذي يضمن أن تكون غالبية التعيينات من كوادر الوزارة المؤهلة، بما يعيد للدبلوماسية العراقية وزنها وهيبتها على الساحة الدولية".
"السلة الواحدة" مجددا
من جانب اخر، أعرب عدد من أعضاء مجلس النواب العراقي، أمس السبت، عن خشيتهم من تمرير قائمة تضم أسماء مرشحين جدد لمنصب سفير بـ"سلة واحدة"، من دون مناقشة فردية، داعين إلى تنظيم آلية التعيين عبر تشريع قانون خاص بالخدمة الخارجية.
وقال النائب أمير المعموري، خلال مؤتمر صحفي عقده في مبنى البرلمان، "نتخوف من إدراج قائمة السفراء على جدول أعمال جلسة اليوم بعد انعقادها، ونشدد على ضرورة عدم التصويت عليها بهذه الصيغة".
وأشار المعموري إلى وجود العديد من الملاحظات على القائمة، مطالباً بعرضها أمام أعضاء المجلس مع تزويدهم بالسير الذاتية لكل مرشح. كما دعا لجنة العلاقات الخارجية إلى تقديم رأيها بشأن كل مرشح على حدة، مؤكداً ضرورة التأكد من عدم شمولهم بقضايا فساد أو مساءلة وعدالة، فضلاً عن التحقق من صحة الشهادات والوضع الأمني.
ولفت إلى أن بعض الأسماء الواردة في القائمة "مشمولون بعفو عام، أو كانوا منتمين لحزب البعث، أو صغار في السن ولا تنطبق عليهم المعايير المطلوبة".
من جانبه، أعلن النائب علي الساعدي عن تقديم مقترح لتعديل قانون الخدمة الخارجية، مشيراً إلى أنه "مدعوم بتواقيع نيابية، ويهدف إلى ضمان اختيار السفراء وفق معايير مهنية وقانونية". وشدد الساعدي على أن "مطالبات الكتل السياسية بالحصول على مناصب دبلوماسية لا تستند إلى الدستور، وتخالف المصلحة العامة".