الفلسفة تصحب السينما إلى أسئلة الجمال المستحيل
نشر بواسطة: mod1
الثلاثاء 05-08-2025
 
   
اندبندنت عربية-موسى برهومة

أفلام سلكت الطريق المعرفية وساهمت في ترقية توقعات الجمهور فكانت النتائج مذهلة

ملخص

لزمن بعيد، ساد اعتقاد شديد الأثر، بأنّ السينما لا تحتمل ثقل الفلسفة وعمقها التجريدي. وكانت ذريعة المروّجين لهذا الرأي، أنّ الجمهور يأنف من الأفكار المرهقة للعقل، لأنه يذهب إلى السينما ليسترخي، ويريح ذهنه من مشقة التفكير والتحليل والتبصّر. ولذا شاع في دُور السينما حضور المأكولات والمشروبات والمسلّيات (وعلى رأسها البوب كورن) لتمضية سهرة برفقة صور متحركة تتراقص على الشاشة، وسط العتمة الفسيحة، في القاعة التي لبّت كل شروط الرفاهية والمتعة والاسترخاء.. والنوم أيضاً لمن يشاء! بيْد أنّ هذه الصورة لم تستقر كثيراً، حينما أقدم مخرجون نقديون على رجّ هذا المفهوم بإنتاج أفلام مسلية ومفيدة في الوقت نفسه، وكان ذلك اختباراً لعلوّ المعرفة لدى الجمهور الذي كان يُختزل في صورة "السطحي"، و"السخيف"، و"النافد الصبر"، وأنّ السينما بالنسبة له ليست خياراً حصرياً وحيداً، بل هو جزء من خيارات متعددة، مثل الذهاب إلى مطعم، أو التنزه في حديقة، أو لعب الورق في مقهى

كثيرة هي الأفلام التي سلكت طريق السينما المعرفية التي تجرأت على ترقية توقعات الجمهور، فكانت النتائج مذهلة، فقد أحب الناس هذه الأفلام، وتبصروا في خطابها، وأنفقوا أموالاً جعلت فيلماً مثل "باربي" مثلاً يحقق، قبل عامين، إيرادات فاقت المليار دولار.

فيلم "باربي" استند إلى مفاهيم في غاية التعقيد، نهلت من الفلسفة الوجودية، ووعي الذات، وتمثلات الأنا، وكسر التوقعات القارّة عن الكينونة والمصير. والذين شاهدوا الفيلم لم يشعروا بالخديعة، وأدركوا أنه مختلف، وأنه ليس سيرة ذاتية عن تاريخ الدمية، ومصاحبتها أجيالاً من الفتيات، ومساهمتها في تشكيل مشاعرهن، ومحاكاة أشواقهن ومواساتها.

أدرك الجمهور (وغالبيته من الإناث) أنّ "باربي" في الفيلم تنتفض على صورتها المثاليّة، وتترجّل عن عرش الكمال، كجزء من رسائل "ثورية" عدة قالها الفيلم صراحة وتورية. بيْد أنّ الرسالة الأكثر ثورية، أن الفيلم جاء بتوقيع امرأة هي المخرجة غريتا غيرويغ، التي أشبعت الفيلم بالأسئلة الوجودية التي آن أوانها: لماذا لا تشيخ باربي، لماذا لا تموت، لماذا تبقى متمسكة بصورتها "المملّة" المتصلة بالشكل والطول والوزن ومقاسات الخصر والصدر؟ والأبعد من ذلك أنّ الفيلم يسعى إلى مصاحبة "باربي" (التي تؤدي دورها ببلاغة مارغوت روبي) وتدعيم قواها الأنثوية في الانتقال من فتاة إلى امرأة، وهو ما ختمت به المخرجة، بطريقة بديعة، فيلمها بزيارة "باربي" إلى طبيب النساء.

مراجعات فلسفية

هذه المراجعات الفلسفية لا تتصل بإنتاج حكاية ترفيهية عن دمية صاغت وجدان الفتيات/ الشابات/ النساء منذ ستين عاماً. الفيلم يتخطى، بطبيعته الروائية القائمة على السرد الواقعي، لا الرسوم الكرتونية، الإطارَ التقليدي لهذه الدمية، التي تغادر مدينة "باربيلاند" الخيالية، والتي تمثل المجتمع الأمومي، نشداناً لإثبات حضورها في العالم الحقيقي، على أمل إنجاز جدارتها واكتشاف وعيها بذاتها.

وفي غضون ذلك، يستخدم الفيلم معاوله في التمرّد على الصورة والطبيعة والمآل، نسف الفكرة عن "باربي" المهووسة بالتسوّق، واقتناء الأزياء والبيوت الفارهة، وانتشال "باربي" من التلكّؤ في الاشتباك مع الحياة.

وفي موازاة ذلك، ينشغل الفيلم بالشك في حزمة الأمان النفسي "الممنوحة" من السلطة الأبوية، وتفتيت جدران الذكورية التي يمثّل جانباً منها صديقها كين (يؤدي دوره ببراعة الممثل الكنديّ رايان غوسلينغ) التي تختصر النساء في الشكل الخارجي، من دون التحديق في كينونتهن المبدعة، وتحرمهن من الوظائف السيادية، بل تترك مصير تقرير أمر هذه الدمية إلى الرجال، من المدراء التنفيذيين لشركة (Mattel) التي ما زالت تنتج الدمية، بالعقلية التسويقية ذاتها، مع خروج قليل على النص، كأن تَظهر "باربي" أكثر وزناً، أو أفريقية، أو تنطق بعض الحروف، أو تستخدم كرسياً متحركاً. هذه "التغييرات الشكلية" لا يكتفي بها الفيلم. إنه يرغب في نسف الصورة المطلقة عن "باربي" التي لا تهرم، ولا تصاب بتسطّح القدمين، ولا تسمن، ولا تتورّط في الحب، ولا تقلق، ولا تشعر بشبح الفناء والعدم.

متطلبات تعجيزية

بهذا المعنى تبدو صورة "باربي" الوردية المألوفة عصية على الاستمرار في عالم المواجهات الكونية التي ترجّ الثوابت، وقد ظلت "باربي" في منأى عن العواصف طوال ستة عقود، حتى جاءت اللحظة التي تبدو فيها "باربي" غير قادرة على الاستجابة لمتطلبات النساء التعجيزية: "عليك ألا تتقدّمي في السن أبداً، لا تكوني وقحة أبداً، ولا تتباهي أبداً، ولا تكوني أبداً أنانية، ولا تسقطي أبداً، ولا تفشلي أبداً، ولا تُظهري الخوف أبداً، ولا تخرجي عن الخط، أو عن الصراط الذي رسمه لك الآخرون (وهم في مجملهم من الذكور).

لا يبشّر الفيلم (ومن المؤكد أنه لا يسعى إلى ذلك) بالانقلاب الأنثوي، واستعادة عرش النساء في العالم الراهن، لكنّه يخدش بعمق وصلابة هذا الستار الذكوري السميك الذي جعل معسكر اليمين (والرجال الجُوف) في الولايات المتحدة يهزأون بالفيلم ورسائله. لكنّ الهزء لم يصل بهؤلاء إلى حدّ منع الفيلم، على غرار ما كان دعا إليه مسؤولو شرطة الأخلاق، والرقابة على العقل، والوصاية على الذوق في بعض المناطق والثغور!

التخفف مما ترسمه التوقعات

الفيلم لا يتورّط في التحيزات الجنسية، (فهو عائلي بامتياز) ويقدم رسائله "الصادمة" بطريقة لا تجعلها محلّ نزاع، لأنّ هدفه أبعدُ من إثارة عاصفة عابرة في فنجان، بل هو يسعى إلى إعادة بناء منظومة النساء على نحو حيوي وشبكي وفعال وأكثر إشراقاً وتأثيراً من خلال الوعي بالأنا والآخر، والتخفف من ثقل الصورة المثالية "المفخّخة" التي ترسمها لنا التوقعات. تقول أغنية في الفيلم: "لقد سئمتُ من الركض بأسرع ما يمكنني/ أتساءل عمّا إذا كنت سأصل إلى هناك بشكل أسرع/ إذا كنت رجلاً"!!

"باربي" أعطت أجيالاً من الفتيات كلَّ ما حلمن به في الطفولة "الوردية". ولعل الوقت حان، كما يقول الفيلم، لكي نمنح "باربي" ما نريد نحن، بوازع من حبّنا ووفائنا لها، ورغبتنا في تجنب ضغوطات "الأيقونة".

وفي لقطة لافتة وشديدة الكثافة على ذلك، تلتقي "باربي" في موقف للحافلات بسيدة مسنّة، فتقول لها إنها "جميلة"، فترد السيدة بثقة واقتدار وبلا تباهٍ: "نعم، أعلمُ ذلك". صورتان متجاورتان نابضتان بالأسئلة وتوّاقتان إلى الرضا والعيش بسلام وامتنان للحياة بلا ندم، ولا إنكار، وبمعزل عن إكراهات الجمال المستحيل.

 
   
 



 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced