تُعنى دراسات الأقلمة بتحري مواضعات السرد غير الواقعي، بحثًا عن الأصل والمصدر، ورصدًا لأشكال هذا السرد وموضوعاته المبنية على قاعدة لا واقعية، تخرق ما انتهى إليه السرد الواقعي من تقاليد محددة، فيها تتجلى فاعلية العقل البشري عبر هذا التاريخ الطويل من التأصيل والابتداع. ولقد وظَّف الكاتب الأرجنتيني بورخيس السرد غير الواقعي، مفيدا بشكل كبير من متخيلات السرد العربي القديم، ومنها مرويات السرد الصوفي كما في قصته(عبادة العنقاء) وفيها يعود السارد الذاتي إلى أصول هذه العبادة ليجدها في مدينة عين شمس. ويسعى إلى الاستدلال على مكان المؤمنين بهذه العبادة فيجد أن الغموض يلفهم، إذ لا(كتاب مقدس يوحد بينهم مثلما توحد التوراة بني إسرائيل، ولافتقارهم أيضا إلى ذاكرة مشتركة، فقد تشتتوا في بقاع الأرض، وتنوعت ألوانهم وملامحهم ولم يعد من شيء يوحد بينهم إلا السر. وهو ما سوف يوحدهم حتى نهاية الزمان) وسرعان ما يكتشف السارد هذا السر الذي يحرص أهل هذه العبادة على إخفائه فيجده عبارة عن طقس(هو الممارسة الدينية الوحيدة التي حافظ عليها أعضاء هذه العبادة. . وينتقل السر من جيل إلى جيل، لكن التقاليد تحرِّم على الأم تعليم السر لأبنائها كما تحرِّم تعليمه على الكهنة أيضا وتلقين السر هو مهمة الطبقة الدنيا من أفراد الجماعة) ولأن السر مقدس، لا توجد (كلمات محتشمة يمكن أن يدعى بها) في إشارة واعية إلى أن التخييل كان في الأصل محضا لكن العبادة شذبته وجعلت الحركة -وليس الاسم – هي الدالة عليه والمعبرة عنه، ناهيك عن حقيقة الدرس الأخلاقي الذي يريد السارد توصيله مما كانت سرديات الصوفية تحرص على بلوغه. وتشاكل قصة "عبادة العنقاء" قصص بورخيس الأخرى مثل(الموت والبوصلة، الجنوب، المعجزة السرية، النهاية) وفيها يستلهم أجواء حكايات ألف ليلة وليلة.
وفي هذا تدليل على عمق معرفة بورخيس بالسرد القديم وبخاصة في ما يتصل بالوعي الجمعي للمتخيل الصوفي الإسلامي الذي يمتح مصادره من أصل أسطوري وديني. وانطلاقا من هذا الوعي توصف قصص بورخيس بكل ما فيها من عجائبية وغرائبية وفنتازية بأنها سرد غير واقعي. وبسبب هذا الامتداد والتواصل مع السرد القديم، تغدو قصص بورخيس مألوفة بالنسبة للقارئ العربي لكنها محيرة بالنسبة إلى القارئ غير العربي.
ولقد اندهش عبد الفتاح كيليطو من معرفة بورخيس العميقة بالسرد العربي، ووجده مختلفا في هذه المعرفة عن سائر كتاب أمريكا الشمالية والجنوبية وأوروبا. وأنَّ هذا هو ما جعله (من المؤلفين الكبار عبر التاريخ من بينهم دانتي وثربانتس وخوان غوبتسلو واندري ميكيل الذين تعاملوا بجدية في كتاباتهم مع مؤلفين عرب) وما من غرابة في أن يستلهم بورخيس قصصه من المرويات التراثية العربية الحافلة بالسرد غير الواقعي. وهو الذي كان يتمنى أن يتكلم اللغة العربية كي يقرأ مصادر التخييل الأسطورية والدينية، لإدراكه الصميم أن(الناس يتلهفون بطريقة ما إلى الملحمة. أظن أن الملحمة هي من الأشياء التي يحتاج إليها البشر..)(كتابه: صنعة الشعر ست محاضرات)
من هنا نفهم سبب اتجاه السينما العالمية في العقود المنصرمة إلى تمثيل السرد غير الواقعي، أولا لأن فيه مصادر مهمة لموضوعات كثيرة يمكن للسينما أن تضفي عليه ابتكارات مبهرة، وثانيا أن متخيلات هذا السرد الملحمية لم يعتدها المشاهد الغربي، وثالثا أن أساس هذه المتخيلات حركي درامي يمكن لعين الكاميرا أن تؤقلمه بشكل مرئي.
ولقد أفاد كثير من الكتّاب من سرديات بورخيس، ومنهم الأمريكي جون بارث الذي اجترح مسمى(أدب الاستنفاذ أو الانتهاك) وعده من السرد ما بعد الحداثي الذي دخل أمريكا في ستينيات القرن العشرين، وفيه يُجمع بين تقاليد السرد الشفهي والسرد المطبوع. وعزز بارث مفهوم أدب الاستنفاذ بمقالة أخرى عنوانها(الذات في السرد) وبعنوان جانبي هو(هذا لا يهم وهذا لا شيء) في إشارة غير مباشرة إلى ان المركزية في السرد غير الواقعي لا ينبغي ان تكون مخصوصة كلها بالإنسان وحده، وأن من المهم خلخلة مركزية الذات المؤلفة فلا تكون هي وحدها المشاركة في السرد بوعيها الذاتي هذا اولا، وثانيا عبر الاهتمام بالتقاليد السردية الشفاهية في الحكايات الخرافية والشعبية. وتأمل بارت أن يكون " أدب الاستنفاذ" قادرا على استثمار جماليات اللغة الأدبية في استعمال التقاليد السردية القديمة وباتجاه تحقيق كل ما يثير الإعجاب ويؤدي إلى التجديد. وقصده تقويض الواقعي والتجريب في ما وراء الواقعي والتشكيك بالعقل والمنطق، وهو القائل:(إنني أميل إلى ان أكون وسيطا بين عوالم الجمال والإبداع مثل بورخيس أو صموئيل بيكت أو فلاديمير نابوكوف).
وأفاد بارث من فكرة" أن ليس كل راو يشرح لماذا يروي القصة بالطريقة التي يرويها". وانتقد الواقعية ووجد أن حل أزمتها يكمن في تقاليد السرد القديم، وشرح كيف تم الانقلاب على اللاواقعية. ومما أكده أن دور الفنان في تصوير المجتمع لا ينبغي أن يكون من الداخل فقط. ونقل عن الان روب غرييه قوله: إن الكاتب الحقيقي ليس لديه ما يقوله تأكيدا لحقيقة استنفاد الواقعية لكل صورها. وعبّر رولان بارت عن هذا الاستنفاد بمقولة(الكتابة بدرجة الصفر) 1953 التي وجدها بارث تتجلى في سرديات بورخيس بسبب ما فيها من توظيف للتقاليد الشفاهية.
وتأثر القصاصون العراقيون بسرديات بورخيس، وهم كمثل الذي ترد بضاعته إليه، فالعربي لا ينسى ما تحفظه ذاكرته الجمعية من متخيل سردي غير واقعي كما انه على دراية كافية بمصادر هذا السرد. ومن هؤلاء القاص الكبير جليل القيسي الذي أعاد في قصته(جروشنكا) الحياة إلى أبطال رواية (الإخوة كارومازوف) لديستويفسكي. وافتتحها بعبارة(لو كان كل شيء معقولا لما حدث شيء في الأرض الميتة) وكذلك فعل في قصته(توهج بلازما الخيال) المنشورة عام 1987، وفيها فلسف القيسي التخييل وطرائقه الهلامية: قائلا(إن الذي يملك خيالا خاملا لا يستطيع أن يرى حتى الواقع العادي. . أحيانا وفي ساعات نادرة وفجأة يبدأ فكري وخيالي وأحاسيسي بضرب من العمل الدؤوب والديناميكي، رغما عني أُصاب بحالة من الحمى الشديدة. وأبان هذه الحمى اللذيذة، يجمح خيالي بطريقة متأججة للغاية وأرى سموات متألقة وعوالم جميلة تارة وملغزة ومعقدة جدا تارة أخرى وأحيانا يستحيل التصديق غير انني وبالتركيز الجيد وعبر قوى خاصة بعالمي الداخلي أراها تصبح برفق واضحة وضوحا ساحرا افكر بعوالم سببية ولا سببية.. ان أرى مثلا الزمن يرجع الى الوراء. . أستطيع أن أخاطب أشخاصا غادروا الحياة منذ زمن طويل) (الأعمال الكاملة، الجزء الأول، ص60).
ويتمحور السرد غير الواقعي في قصة(أنا لمن وضد من) حول العملة النقدية الورقية، إذ جعلها جليل القيسي ساردة ذاتية:(أنا لغز كبير احيانا وبسيط مثل بديهية يمسدني البعض برقة. . لكنني في الوقت نفسه منبوذ كبير ولعين اُزدرى وأُركل وأُسب وأُنبذ مثل الشيطان. . لا يوجد من هو أكثر شهرة ومجدًا مني. اكتشفني الإنسان بحكم الضرورة ليتعذب بي وليسعد أحيانا) وتستمر العملة في سرد رحلتها من لحظة خروجها من المعمل بعد أن عاملتها المكائن بقسوة حتى صارت لعبة بأيدي البشر؛ فهذا يمسك بجذعها، وذاك يضغط على رأسها ثم تستقر بيد حميد الذي(مزق جذعي الى خمسة اجزاء صغيرة ودسَّها في اللبن. وقال بتلعثم: ها من الذي خ.. س. . ر).
بورخيس وجليل القيسيّ والسرد غير الواقعيّ
