رغم أن الرضاعة الطبيعية معروفة بفوائدها الصحية العديدة للأم والطفل، فإن العلم لم يكن يعرف حتى وقت قريب كيف يساهم جهاز المناعة في هذه العملية. لكن دراسة جديدة أجراها معهد سالك للأبحاث البيولوجية في الولايات المتحدة كشفت جانباً خفياً من القصة: خلايا مناعية خاصة، تعرف باسم الخلايا التائية، تهاجر من أمعاء الأم إلى الغدد اللبنية خلال الحمل والرضاعة، لتشكل خطّ دفاع يحمي الأم ويدعم مناعة الطفل.
قد يساعد هذا الاكتشاف الذي نشر في مجلة Nature Immunology (علم المناعة الطبيعية)، في 29 يوليو/ تموز الماضي، على تفسير سبب الفوائد الكبيرة للرضاعة الطبيعية، ويفتح الباب أمام حلول للأمهات غير القادرات على الإرضاع، بل وربما يوجه إلى أنظمة غذائية تعزز جودة الحليب وكميته.
تقول المؤلفة الرئيسية للدراسة ديبشيكا رامانان (Deepshika Ramanan)، الأستاذة المساعدة في علم المناعة في معهد سالك للبحوث البيولوجية: "عندما تتبعنا التغيرات في الخلايا المناعية خلال الحمل والرضاعة، فوجئنا بزيادة ملحوظة في أعداد الخلايا التائية داخل أنسجة الثدي أثناء الرضاعة، وهذه الزيادة تعتمد على وجود الميكروبات".
من بين 3.6 ملايين طفل يولدون سنوياً في الولايات المتحدة، يبدأ نحو 80% منهم الرضاعة الطبيعية في الشهر الأول من حياتهم، وأوضحت الدراسات السابقة أن حليب الأم يمنح الطفل تغذية مثالية ومناعة قوية، ويحمي الأم من أمراض مثل سرطان الثدي والمبيض، والسكري من النوع الثاني، وارتفاع ضغط الدم، لكن ما يجري داخل جسم الأم خلال هذه الفترة، خصوصاً مناعياً، ظل إلى حد كبير غير مكتشف.
توضح رامانان في تصريحات لـ"العربي الجديد"، أن الأبحاث عادة ما تركز على مكونات الحليب وتأثيرها على الطفل، إذ ثبت أن الحليب يحتوي على بكتيريا نافعة وأجسام مضادة تنتقل إلى الرضيع لتقوية جهازه المناعي، غير أن هذه المعرفة لا تكفي لفهم التغيرات الجذرية في جسم الأم نفسه، ولا سيما داخل الغدد اللبنية. تشير الباحثة إلى أن الفريق بدأ بدراسة أنسجة غدد لبنية في فئران، من مراحل ما قبل الإرضاع وحتى بعد الولادة.
أظهرت النتائج زيادة في ثلاثة أنواع من الخلايا التائية؛ لكن المثير للاهتمام أن هذه الأنواع تنتمي إلى فئة خاصة تعرف بالخلايا اللمفاوية داخل الظهارية، وهي خلايا مقيمة عادة في الأنسجة المخاطية مثل الأمعاء والرئتين، إذ تبقى في حالة تأهب دائم لمواجهة الميكروبات.
لكن ما جعل النتيجة أكثر إثارة، كما تشرح الباحثة، هو أن بعض هذه الخلايا التائية في الغدد اللبنية كانت تحمل بصمة بروتينية تشير إلى أصلها المعوي، ما يعني أنها هاجرت من الأمعاء إلى الثدي. وأضافت: "نعتقد أنها تؤدي في الثدي دوراً مشابهاً لدورها في الأمعاء، أي تعزيز الدفاع المناعي ضد الميكروبات".
هذا التحول المدهش يجعل الغدد اللبنية تنتقل وظيفياً من أنسجة غير مخاطية إلى أنسجة مخاطية خلال الرضاعة، لتصبح أكثر استعداداً للتعامل مع الميكروبات التي قد تأتي من جلد الأم أو فم الرضيع. لم يقتصر العمل على التجارب الحيوانية، إذ حلل الباحثون بيانات أنسجة بشرية وعينات حليب من معهد حليب الإنسان في جامعة كاليفورنيا في سان دييغو، ووجدوا أن الخلايا المناظرة لهذه الخلايا التائية في الفئران تظهر بالأنماط نفسها لدى الأمهات البشريات.
وللتحقق من تأثير الميكروبات، قارن الفريق بين غدد لبنية لفئران عاشت في بيئة طبيعية وأخرى معقمة خالية من الجراثيم. كشفت النتائج أن الفئران التي تعيش مع ميكروبات أظهرت مستويات أعلى بكثير من الأنواع الثلاثة للخلايا التائية؛ ومن ثم، تدعم هذه النتيجة فكرة أن الميكروبات المعوية للأم تلعب دوراً أساسياً في تعزيز مناعة الثدي خلال الرضاعة.
تشير رامانان إلى أن الخطوة التالية هي فهم كيف تؤثر هذه الخلايا في جودة الحليب وصحة الأم والطفل، وتقول: "نعرف الآن أن جهاز المناعة الأمومي يتغير كثيراً خلال هذه الفترة، وعلينا أن ندرس كيف ينعكس ذلك على الصحة المباشرة وطويلة المدى". وافترض الفريق أن الهرمونات قد تكون محفزاً رئيسياً لهذه التغيرات، بهدف حماية الأم من العدوى في وقت تكون فيه أكثر عرضة للمخاطر، وضمان أن الحليب يقدم أقصى دعم مناعي للرضيع. "إذا كان هناك اتصال بين الأمعاء والغدد اللبنية، فمن يدري أي مسارات أخرى تربط بين أجزاء الجسم المختلفة؟ قد نكتشف عوامل جديدة تؤثر في الحليب الذي نقدمه لأطفالنا"، تقول الباحثة الرئيسية في الدراسة.
تلفت الباحثة إلى أن فهم ديناميكية الخلايا المناعية خلال الحمل والرضاعة لا يفيد الجيل الحالي فقط، بل يمكن أن يترك أثراً لأجيال، إذ تنتقل المناعة والميكروبات من الأم إلى الطفل في كل مرة تتم فيها الرضاعة الطبيعية. قد يساعد هذا الفهم أيضاً في تطوير علاجات تدعم إنتاج الحليب للأمهات اللواتي يواجهن صعوبات في الرضاعة، أو ابتكار تركيبات حليب صناعي أقرب في قيمتها المناعية إلى الحليب الطبيعي.