صبيان عراقيان يكافحان من أجل البقاء في وطن أنهكته الحروب
هوفيك حبشيان
ملخص
حضور جماهيري بهذا الحجم في عرض واحد، كما حصل مع "كلكامش – حلم إركالا" للمخرج العراقي محمد الدراجي، الذي شاهدناه مساء أمس في ساحة "بيازا غراندي"، ضمن عروض مهرجان لوكارنو السينمائي "6 – 16 أغسطس (آب)".
احتشد الآلاف لمتابعة العرض الأول لهذا العمل الذي يعيد الدراجي إلى السينما بعد غياب دام سنوات، إذ يرجع آخر أفلامه، "الرحلة"، إلى عام 2017. وعلى رغم أن الفيلم يعرض خارج المسابقة الدولية، فحضوره كان لافتاً في دورة ينافس فيها فيلمان عربيان على الجوائز. وقد صعد فريق العمل العراقي إلى المسرح وسط تصفيق الجمهور، في لحظة احتفالية ستبقى في ذاكرة هؤلاء الذين يأتون من بعيد. وفي تقديمه للفيلم، قال الدراجي: "عندما أنظر إلى الوراء، أرى 7 آلاف سنة من التاريخ البابلي والسومري. بالنسبة إلي، كعراقي، التاريخ هو هويتي. هذا الماضي هو ما ساعدني على معرفة من أنا، بخاصة في هذه المرحلة من حياتي، وفي مسيرة شعبي".
تجري أحداث الفيلم على ضفاف نهر دجلة في قلب بغداد، حيث نتعرف على صبيين يكافحان من أجل البقاء في وطن أنهكته الحروب المتتالية طوال العقود الماضية. تشوم - تشوم (هذا لقبه) هو في الثامنة، يعيش في عالم من الخيال والأساطير القديمة، مدفوعاً برغبة عميقة في استعادة والديه اللذين فقدهما. إلى جانبه يقف مودي، شاب يتخذه تشوم - تشوم أخاً ومرشداً، يشق طريقه في دهاليز المدينة المظلمة، باحثاً عن مخرج من واقع لا يرحم. ملامح العراق المعاصر تحضر بقوة في كافة التفاصيل، من خلال قصة صداقة ومقاومة في وجه الخراب، حيث تمتزج الأحلام بالآلام، مع أن الأمل يبقى ملك عيون الأطفال. بعد "ابن بابل" وبطله أحمد ابن الـ12، هذا فيلم آخر يفرض فيه الدراجي الأطفال كشخوص محورية يحاول أن يفهم من خلالها حجم الخراب الروحي والمعنوي الذي أحدثته فيهم المآسي المتتالية.
يقول الدراجي، إنه ينطلق في كل فيلم ينجزه، من جرح لم يلتئم، ومن يقين بأن هناك حكاية تصرخ في داخله وتنتظر من يصغي إليها. ما يقدمه هنا "شذرات من ذاكرة أمة وألم غير ظاهر للعين المجردة لكنه محسوس بالقلب". ويعلق قائلاً: "بين عامي 2003 و2015، أنجزت أفلاماً عن ضحايا الديكتاتورية والاحتلال والإرهاب. كنت أظن أنني أوثق الماضي. لكن بعد 20 عاماً، وجدت نفسي أمام حقيقة أشد قسوة: الضحية تحولت إلى جلاد. الطفل الذي كان يستحق الحماية صار أداة للعنف، يحمل السلاح بدلاً من الأحلام. وهكذا تتكرر مأساة العراق. دائرة شريرة تلتهم الأمل وتنقل الجراح من جيل إلى جيل. هذا الفيلم يحاول أن يفهم حجم الخراب الروحي والمعنوي الذي أحدثته فيهم المآسي المتتالية. أؤمن أن هذا الفيلم هو ذلك اللوح المفقود، من وجهة نظر معاصرة، عبر روح طفل يدعى تشوم - تشوم. شكل من أشكال المقاومة يولد من قلب هذه الأسطورة، بحيث إن المخيلة تغدو الخندق الأخير، ويصبح اللجوء إليها دفاعاً ناعماً أمام واقع يلتهم الأرواح. الفيلم لا يقدم أجوبة، فهو يسير على حبل مشدود بين الرمز والواقع، وبين الأسطورة والسياسة، وبين الحلم والثورة. من خلاله، أردت إعادة تعريف الطفل العراقي كحكواتي خالق للمعنى حين يخونه العالم، وهذا بعيداً من صورة الضحية التي رافقته. حاولت أن أقول: هؤلاء الأطفال ليسوا بقايا الحرب، إنهم بذورها. ليسوا عبئاً على المستقبل، إنهم من سيكتبونه، إذا ما سمعت أصواتهم".
أي مستقبل؟
رغم أن الدراجي يحمل الجنسية الهولندية ودرس في بريطانيا، فهو عاد إلى العراق في السنوات الأخيرة ليعيش ويعمل فيه. بالنسبة إليه البقاء في بغداد موقف نابع من إيمان عميق بمستقبل بلاده. فهو يرى في وجود أبنائه على هذه الأرض دافعاً كافياً للاستمرار. يدرك أن جيله مطالب ببناء شيء ملموس للأجيال القادمة، بعدما ورث هو وجيله من السابقين، الحروب والدمار فقط. وعلى رغم كل شيء، فلا يزال متمسكاً بالأمل، مؤمناً أن التغيير السياسي قادم لا محالة، وأن جيلاً جديداً بدأ يتكون في العراق، جيل أكثر وعياً وقدرة على تجاوز إرث الماضي.
رداً على سؤال طرحه عليه الصحافي ماورو دونزيللي، يعبر الدراجي عن أمله في أن تجرى معه مقابلة جديدة بعد 20 عاماً، في عراق مختلف، حيث يعرض له فيلم جديد لن يكون بهذه السوداوية في مهرجان لوكارنو. في نظره، هذا الإيمان هو سبب وجوده في البلاد. فلو لم يكن يؤمن بإمكان التغيير، لما استطاع أن يعيش أو يعمل في العراق، مؤكداً أن الثقافة تمثل ركيزة أساسية في المجتمع العراقي، وعنصراً لا يمكن الاستغناء عنه في مسيرة التعافي والبناء.
وعلى هامش مشاركته في مهرجان لوكارنو، يتحدث الدراجي عن تجربة عرض أفلامه في العراق، حيث حرمت المدن من دور السينما بعدما دمرت خلال السنوات العصيبة. منذ عام 2008، بدأ بتنظيم عروض في الهواء الطلق، في الصحراء والقرى، على ضفاف الأنهار، داخل السجون والمستشفيات، وحتى أثناء تظاهرات عام 2019 في ساحة التحرير. كان الناس يجلسون على الأرض، يتابعون الأفلام بإصرار وفضول. لكن حين رأى صورة ساحة "بيازا غراندي"، أيقن أنها المكان الذي يجب أن يعرض فيه فيلمه الجديد. يرى في هذه اللحظة تتويجاً لمسار طويل من التحدي والإصرار. فتشوم - تشوم، بطل فيلمه، يظهر أخيراً على شاشة عملاقة أمام الآلاف، في لحظة يعدها الدراجي خاصة جداً، لا تشبه سواها.