في الغالب، تُلوَّن القضايا المرتبطة بالنساء بحسب مظهر المرأة وحكايتها؛ تشتعل أيّاماً قليلة، ثمّ تُهمَل بإفراط خلال أقلّ من أسبوع، وتنتهي قبل أن يبرد التراب الذي ينهال على جثّتها.
لم يكن شهرا تمّوز/ يوليو وآب/ أغسطس لطيفين بالعراقيين. علاوة على الحرّ الخانق وانقطاع الكهرباء الذي قضم ما تبقّى من صبر الناس، تهاوت كل التوقّعات بمدينة فاضلة أمام حرائق وفضائح ومحطّات فساد واقتتال داخلي، ثم أتت السقطة المدوّية بمقتل طبيبة في ظروف غامضة.
لا تشتغل السلطات؛ بطبيعتها، على دوام تغذية بقائها إلا عبر بثّ التمويه والوهم: صور جسور وطرقات جديدة، مطاعم فاخرة، وبدلات رسمية على أجساد قيادات تستعدّ للترشّح للانتخابات. لذلك، يمكن لقضيّة كهذه (مقتل طبيبة) أن تمرّ كخبر عابر، “ترند” ليومين يسحقه “ترند” آخر. أرادت السلطة عجن الحقيقة بماء ساقية، فكان همّها توظيف فكرة “الدولة- اليوتوبيا”، وهكذا، فإن أي تهديد— ولو بجناح فراشة — لهذا الجدار المتهالك، يُطلق ثورة مضادّة من السلطة في وجه الناس.
برز اسم بان زياد، الطبيبة النفسية المقيمة في البصرة، في “ترند” كان ما يزال طريّاً قبل ساعات من إعلان عائلتها وفاتها، قائلة إنها انتحرت بسبب ضغوط العمل وفقر الدم. بعد مرور يوم، سرّب مجهولون صوراً لوثائق من المستشفى عن وضع الضحيّة، كشفت عن فجوة هائلة بين توصيف “الانتحار”؛ المُثقل بالوصم في المجتمع، وبين وصف الجسد الذي بدا واضحاً أنه تعرّض لتعذيب ورعب كبيرين قبل أن تُفارقه الروح.
دبّ الشكّ في عقول العراقيين، ولعلّ الجيّد هذه المرّة أنهم اتّفقوا على تسخير طاقتهم الثقيلة لإحداث ضجّة مستحقّة، والبحث عن تفاصيل كان من السهل أن تتلاشى في إفادة بثلاث دقائق تنتهي قبل دفن الضحيّة. خرج الأطبّاء النفسيون والعامّون والمحقّقون والناشطون، وكأنّهم فم واحد يقول: إن تبنّي رواية الانتحار فشل قاسٍ جديد للحكومة، مدعّمين ذلك بأدلّة ووثائق مُسرّبة من المستشفى ومركز الشرطة في البصرة.
كيف يبدأ “الترند”؟
أصرّت سلطات البصرة على رواية الانتحار، مدعومةً بحديث أفراد من العائلة، وهو حديث عزّز رواية الانتحار، لكنّه بدا كموقف دفاعي مشدود إلى بيئته المحافظة، ما عزّز لدى كثيرين شكوكاً استناداً إلى سوابق طالت نساءً وأطفالاً، لعبت خلالها العائلات موقف التغطية على الجريمة بدلاً من كشفها وطلب العدالة فيها.
يحصل هذا كثيراً حين تكون الضحيّة فتاة أو امرأة أو طفل. وهنا نستعيد حادثة الطفل موسى ولاء، التي بدأت باتّصال من زوجة أبيه تزعم تعرّضه لوعكة صحّية ثم وفاته، ليتبيّن لاحقاً أنها كانت تطعمه الملح وتعذّبه وتحرقه.
في الغالب، تُلوَّن القضايا المرتبطة بالنساء بحسب مظهر المرأة وحكايتها؛ تشتعل أيّاماً قليلة، ثمّ تُهمَل بإفراط خلال أقلّ من أسبوع، وتنتهي قبل أن يبرد التراب الذي ينهال على جثّتها. يبقى شخصان أو ثلاثة يُحاولون وحدهم، ثم يُرمى عليهم وصف “بَطْرانين”، لأنّهم ما زالوا يبحثون عن الحقيقة: “العالَم بِيا حال، وهو/ هي بِيا حال؟”، هكذا يُحقَن المجتمع بالوهم مجدّداً. وإذا طال عمر قضيّة أكثر من أسبوع، بدا ذلك معجزةً قصيرة؛ لكنّ السلطات تُسارِع كلّ مرّة إلى إطفاء الجدل بقضيّة أخرى: اعتقال صانعي محتوى معروفين، أو اختراع “ترند” عشوائي خفيف قادر على تغطية المشهد وحقن النسيان.
ما حدث في قضيّة الطبيبة بان أن الصوت ظلّ متّقداً على وتيرة واحدة طيلة أسبوعين؛ حالة نادرة من تجمّع الناس وبقائهم. هنا بالتحديد، كثّفت السلطة ممارساتها عبر نسخة إلكترونية من “دولة الاعتقال”: نقلت التجربة من الأرض إلى الفضاءات الافتراضية —المتنفّس الوحيد تقريباً لإبداء الرأي— وفق تقاليد أنظمة قمعية متسلسلة تعيش على نظرية المؤامرة، وقصّ أجنحة المعارضين وقطع رؤوسهم، وأحياناً مطاردة عائلاتهم التي لا علاقة لها.
من الضروري الفهم أن القمع السلطوي لا يقع دفعة واحدة؛ إنه يتدرّج من مستويات بسيطة متتابعة نحو مستويات أعلى. ديمومة “التسكيت” تتشكّل من خطوات غير عفوية، راكمت عبر السنين وعياً جمعياً عراقياً مطواعاً، ونجحت في ضمّ منتمين كُثر من داخل المجتمع. تتحوّل التهم إلى أوصاف تؤمن بها هذه الجماعات، ثم إلى “حقائق” في اعتقادهم، على سبيل المثال: بدأت قضيّة بان بالمماطلة والتسويف. تعتمد الجهات المختصّة ومحيطها الاجتماعي مبدأ “التطبيع مع النسيان”: لا تتحرّك مؤسّساتهم إلا بعد قرع طبول شعبي، ولا تُنجز مهامّها إلا تحت ضغط الصراخ الجمعي، وكأن سباتها لا ينتهي إلا بالإلحاح والتذكير والتكرار. بعد أيّام “يتذكّرون” أن تحقيقاً يجب أن يُفتَح.
درجات الاتّهام “البسيطة”
تعلو بعد ذلك وتيرة تكميم الأفواه. تتكّئ هياكل السلطة على دعامات مهترئة، لا تبتعد عن صورة القمع المُغلّف بحجج من نوع “حماية البلاد من التدخّلات الخارجية”، التي تُهدّد “كلّ ما بُنِي”. تُرفَض الحقائق ويُعدّ كشفها “ترويجاً للخراب”، أو “عمالة” لدول تريد تدمير العراق. إحدى هذه الدعامات: تهديد الناشطين والصحافيين المعارضين للخطاب السلطوي.
يمنح الدستور العراقي حقّ الاعتراض والتظاهر وحرّية الرأي (المواد 37 و38 و46) ولا يجوز تقييد الحقوق والحرّيات أو توقيف أحد بسبب رأيه. لكنّ الواقع يُظهِر علاقة مشوّهة بين المسؤول والمواطن، مباشرةً أو عبر وسيط: مغرّد، إعلامي، أو حساب وهمي يلمع بسرعة، يتفرّغ للتركيز على جانب أحادي من الصورة والهجوم على المنتقدين والمطالبين بالأفضل. أحياناً يكون التهديد ثمّ الاعتداء، جزءاً من “المهمّة”. في الرمادي، اعتدى حرس أحد النوّاب على مواطن انتقد تصرّفات النائب في منشور على “فيسبوك”، فدخل المستشفى أيّاماً.
تراهن السلطات الهشّة وتعتاش على إسقاط المواطن في فخّ السطحية الإقصائية. بعد كلّ فضيحة تفضح انهيار منظوماتها، تفتح عبر مُطبّليها، قضايا موازية: مقارنات، اتّهامات، وتسخيف للقضيّة الأبرز في وقتها، مع إدخال “طرف ثالث” من خارج الحدود يُلصَق بالمواطن المسكين الباحث عن حرّيته، تصبح التهمة جاهزة: “أجندات” و”روبوتات بشرية” لتدمير المجتمع والدولة. هذا الخطاب يُخيف المتلقّين ويدفعهم للصمت خشية تلويث أسمائهم بدول “عدوّة” قد تتحوّل إلى مدافنهم. إحدى أدوات الترهيب الشائعة: ربط أي حادثة بالنسوية. تُصوَّر النسوية كـ”منظّمة ماسونية” غايتها تحطيم المجتمع.
تناقش نساء نسويات وغير نسويات قضيّة مقتل سيّدة على يد زوجها، فيُتَّهمن بـ”إسقاط المجتمع”.
حتى حريق “هايبرماركت” في الكوت ربطه البعض بـ”النسوية”. تتردَّد تعليقات تُدين وجود نساء في مركز تجاري يحترق في العاشرة ليلاً: “لولاهنّ لَقلَّت الخسائر، فمكان المرأة بيتها”، أليس هذا تخريباً أخلاقياً؟ بهذا، نجحت السلطة؛ عبر مرتزقة يقتاتون على فتات مسؤولين، في قمع حقّ المواطن في المساءلة والعدالة. بمرور الوقت صار هؤلاء “مصادر”، وصارت مصطلحاتهم متداولة.
أدوات الإسكات: الخيانة والعمالة، من أشهر التهم “أبناء السفارة”، ولا يُعرَف أي سفارة! يكتب مدوّنون عن انقطاع الكهرباء أيّاماً، وجفاف الأهوار، واستمرار الحرائق؛ فيجيبهم ناشط مدعوم من حزب ثقيل: “أنتم عملاء”.
قُتلت الناشطة ريهام يعقوب في البصرة بعد تداول صورة تجمعها بالقنصل الأميركي تشكره فيها على الاستضافة. سالت دماؤها من سيّارتها إلى الأرض، وكانت “العمالة” هي التبرير.
يقول حقوقيّون: العمالة لا تكون علنية بهذا الشكل؛ عمل السفارات علاقات دبلوماسية مع الحكومة، ولقاء ناشطين ونوّاب وعسكر وأطباء وفنّانين، أمر اعتيادي. يتساءلون: لو كانت السفارة مصنعاً لجحيم البلاد، فلماذا تبقى أساساً؟ ببساطة: السلطة تريد بقاءها، وتحرّك أجندتها في الوقت نفسه لعصر أي فكرة قد تتولّد وتمسّ سلطانها، ولو عدنا إلى الصور مع القوّات الأميركية منذ 2003، لوجدنا أن المسؤولين العراقيين يملكون الحصّة الأكبر منها.
المقارنة الطائفية
إحدى مراحل التخويف “البسيطة” لكن ذات الوقع الخطر: الارتزاق على الفكر الطائفي، ودفع القضايا إلى مقارنات مناطقية، ومزايدات تُشتّت الانتباه وتمنح المُطبّع مع الفساد حقّ الهروب بالمقارنة.
تزامن مع قضيّة وفاة الطبيبة، مقتل ثلاثة شبّان في أربيل على يد عامل في محطّة بنزين. ارتفعت التعبئة بأسئلة عن سبب الإلحاح على قضيّة الطبيبة دون الشبّان، رغم الفارق الكبير بين القضيّتين، والقبض على القاتل، وحضور سياسيين كُرد لمواساة ذوي الضحايا والشروع بمحاكمة المرتكب. بدا الأمر محمّلاً بأبعاد مناطقية تُشكّك بالآخر وتسحبُه إلى السؤال عن “التحيّز للمكان”، مع أن الناس، في جوهرهم، لا يرون سوى وجع الضحايا، لا اسم المنطقة، ولا المذهب، ولا الدين.
يفرض المنتفع، براتبٍ شهري من نائب أو سياسي أو جهة حزبية قد تنتهي بانتهاء الدورة الانتخابية، أن يكون المواطن ذليلاً لفكرة “الدولة الحديثة” التي “تتفضّل” عليه بتبليط بضعة شوارع، وعليه أن يخضع ويصمت، وينسى الجرائم الأخرى بحقّه، وأن يقبل بأن أي نار قادرة على التهامه في أي مكان يذهب إليه، وألّا يتذمّر من انعدام الخدمات وتزايد الجرائم “بمباركة” القوانين، وأن يسمح لآلة التسويف بأن تأكل حياته مع الفساد ببطء دون أن يشعر، كي يتجنّب حفرة الاتّهام.
تلك الحفرة تزداد خطورة بتهم “الانتماء إلى البعث” أو “ثورة تشرين”، وهما تُهمتان تُعدّان أعلى درجات القمع الإلكتروني، وما إن تتطوّرا حتى تضعا المتّهم في دائرة جحيم مستمرّ، لا ينتهي، ويتصاعد مع مرور المواقف، ليغدو مرعباً على نحو حقيقي خارج فضاء التكنولوجيا إلى الواقع.