على الرغم من تراجع معدلات الفقر في العراق خلال العام 2024 – وفقا لبيانات وزارة التخطيط – إلا أن هذه الظاهرة لا تزال تمثل تحديًا رئيسا يغذي التفاوت الاجتماعي والاقتصادي. وبينما تعلن الحكومة السعي إلى معالجة الأسباب الجذرية للفقر عبر استراتيجيات تركز على تحسين سبل العيش، وتعزيز الحماية الاجتماعية، ومعالجة الفجوات التنموية، يرى مراقبون أن الفساد وانعدام التخطيط الفعال يعرقلان معالجة المشكلة ويفاقمانها.
ويُقاس الفقر في العراق بطريقتين أساسيتين: الأولى تعتمد على دخل الفرد أو الأسرة لتحديد القدرة على تأمين الحاجات الأساسية من الغذاء والسكن والتعليم، والثانية تعرف بـ"الفقر متعدد الأبعاد"، وتشمل معايير أوسع مثل سهولة الحصول على خدمات صحية وتعليمية، وارتفاع جودة البنى التحتية وتحسّن الظروف المعيشية.
لكن أن يمتلك العراق رابع أكبر احتياط نفطي مؤكد في العالم بنحو 145 مليار برميل، ويشقه نهرا دجلة والفرات، ويضم حضارات تعد من أقدم ما عرفته البشرية، ثم يصنف ملايين من مواطنيه تحت خط الفقر، فهذه ليست مجرد مفارقة مأساوية، بل أزمة بنيوية مزمنة تتجدد باستمرار.
في بلد يفيض بثرواته، ويعاني غالبية سكانه شح الخدمات، وانعدام الأمن الغذائي، وضعف التعليم والصحة، يبرز السؤال المؤلم: أين تذهب ثروات العراق، ولماذا يولد الفقر من رحم الغنى؟!
ماذا يُخفي انخفاض المعدلات؟
أرقام حديثة أعلنتها وزارة التخطيط تؤشر انخفاض معدلات الفقر إلى 17.5 في المائة خلال عام 2024، بعد ما كانت 23 في المائة عام 2022. ونوّهت الوزارة إلى انخفاض ما يسمى "دليل الفقر متعدد الأبعاد" من 11.4 في المائة إلى 10.8 في المائة خلال الفترة من 2018 حتى 2024. وبينما عدت الحكومة هذا التراجع دليلاً على "نجاح برامجها الاجتماعية"، يرى محللون اقتصاديون أن هذه المؤشرات تخفي "واقعاً أكثر هشاشة من أي وقت مضى"!
وأوضحت وزارة التخطيط أن تقرير "دليل الفقر متعدد الأبعاد" الجديد، استند إلى مسح اجتماعي واقتصادي للأسر العراقية "وهو مسح ضخم وفر بيانات على مستوى المحافظات، في تعاون بين الوزارة وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي".
وفي كلمته خلال إعلان التقرير، ذكر وزير التخطيط محمد علي تميم أن "التحدي لم يعد فقط في خفض نسب الفقر، بل في معالجة الجذور العميقة للحرمان الاجتماعي والخدمي"، مؤكداً تبني الوزارة مقاربات جديدة عبر تقارير تستهدف فقر المرأة والطفل بشكل خاص.
من أين جاء هذا الانخفاض؟!
وفقاً لوزارة التخطيط، فإن عوامل عدة ساهمت في تحقيق هذا الانخفاض النسبي في الفقر، أبرزها توسعة شبكة الحماية الاجتماعية، التي شملت أكثر من 7 ملايين مواطن، وتحسين نظام البطاقة التموينية، وزيادة كميات المواد الغذائية الموزعة، وإطلاق قروض ميسرة للشباب، بهدف إنشاء مشاريع صغيرة وتوفير فرص عمل ذاتية. لكن السؤال الذي يطرحه مراقبون، هو: هل ان هذه الحلول مستدامة؟ وهل تمثل خروجاً من دائرة الفقر أم مجرد "شراء للوقت" برعاية مالية نفطية مؤقتة؟!
ماذا عن الاقتصاد الريعي؟!
يرى مراقبون أن تراجع نسب الفقر، وإن كان إيجابياً، لا يمثل انعكاساً لتحول اقتصادي حقيقي، بل نتيجة ظرفية مدفوعة بارتفاع أسعار النفط، وهو ما يحذر منه المحلل الاقتصادي د. نبيل المرسومي، الذي يقول في حديث صحفي أن "التحسن الأخير في نسب الفقر لم يكن ناتجاً عن إصلاحات اقتصادية أو سياسات تنموية طويلة الأمد، بل جاء بفضل ارتفاع إيرادات النفط، وهي بطبيعتها غير مستقرة".
ويضيف قوله: "ما زال أكثر من 8 ملايين عراقي تحت خط الفقر، وهذا الرقم يُخجل دولة نفطية مثل العراق. الفقر في العراق ليس رقماً، بل هو مصير تعيس لملايين البشر".
وتظهر تجارب الأعوام السابقة أن أول أزمة في أسعار الخام قد تمحو أي تقدم جرى إحرازه، كما حصل في أزمة 2020 أثناء جائحة كورونا، حين ارتفعت معدلات الفقر بصورة حادة إثر انهيار أسعار النفط عالمياً.
لا ضمانات!
في السياق، يقول أحمد الجبوري، وهو شاب من الموصل حصل على قرض حكومي لتمويل مشروع صغير: "فتحت ورشة صيانة صغيرة بتمويل من قروض الشباب. ساعدتني كثيراً، لكنها غير كافية"، مضيفا في حديث صحفي أنه "لا توجد حماية حقيقية لأصحاب المشاريع الصغيرة. كل شيء مرتبط بالمزاج الأمني والبيروقراطية".
ويتابع قائلا: "أن نعيش من دون ضمانات صحية أو ضمان اجتماعي، يعني ان يبقي الفقر قريباً منا". جدير بالذكر أن وزارة التخطيط كانت قد أعلنت عن إعداد "دليل فقر المرأة متعددة الأبعاد"، الذي يُبنى على قياسات تتعلق بالوصول إلى الخدمات الصحية والفرص التعليمية والتمكين الاقتصادي للنساء.
وسبق أن أطلق هذا الدليل للمرة الأولى عام 2022، وحاليا يجري تحديثه استعدادا لإطلاق نسخة جديدة عام 2026. وحسب الوزارة، فإن هذا الدليل يُعتبر خطوة مهمة لفهم عمق الأزمة، على اعتبار أن الأطفال المحرومين من التعليم والرعاية الصحية سيشكلون قاعدة الفقر في المستقبل.
الحل في الاقتصاد المنتج
تتحدث الحكومة عن رؤية تنموية، لكنها لا تزال تعتمد على موازنات توسعية تمول بالكامل من عائدات النفط. ومع غياب التنويع الاقتصادي الحقيقي، وتراجع الصناعات الوطنية، وهشاشة القطاع الزراعي، يبدو أي تقدم على مستوى الفقر هشاً ومهدداً بالانهيار.
في هذا السياق، يرى المحلل التنموي محمد اللامي، أن العراق بحاجة إلى إصلاح هيكلي في السياسات الاقتصادية "فالتحول إلى اقتصاد منتج هو الحل الوحيد".
ويبيّن اللامي في حديث صحفي أن "دعم المشاريع الصغيرة أمر جيد، لكن من دون بيئة استثمارية وتسهيلات مصرفية وتطوير التعليم المهني، فإن ذلك سيبقى في إطار الترقيع لا البناء"، مشيرا إلى انه "على الرغم من الانخفاض المعلن في معدلات الفقر، إلا أن الأزمة لا تزال قائمة بجذورها العميقة. ملايين العراقيين لا يشعرون بأي تغيير حقيقي في حياتهم اليومية. الفقر في بلاد الرافدين ليس رقماً بل انه واقع مؤلم في مدن ومخيمات وأرياف بلا ماء ولا كهرباء ولا مستقبل". و"لكي يكون هذا الانخفاض بداية وليس مجرد لحظة عابرة، يحتاج العراق إلى إرادة سياسية تتجاوز الريع النفطي، وتستثمر في الإنسان أولاً، وإلا فإن الفقر سيبقى ضيفاً ثقيلاً في بيوت العراقيين، مهما ارتفعت أسعار النفط" - بحسب اللامي.