بدأت نازك الملائكة مسيرتها الأدبية شاعرة مختلفة، ومع أنها لم تكن وحدها في معترك التحديث الشعري، إذ شاركها فيه بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وغيرهما من شعراء الحداثة في العراق، فإنها واجهت لوحدها ما لم يواجهه أقرانها هؤلاء. ليس لأنهم لم يتخذوا من النقد طريقا لإثبات ثورية حركتهم، وتولت هي مهمة التنظير الشعري بدلا عنهم، بل لأنها أيضا وقفت في وجه المحافظين والرافضين والمزايدين على حركة الشعر الحر. وقدمت للحركة كل ما تستطيع من جهد في سبيل تأدية المهمة التحديثية. وكانت الأكثر ترقبا واكتراثا بما ستكون عليه هذه الحركة في المستقبل، ولم تكن متشائمة؛ بل أعلنت بعد بضع سنوات من قيام الحركة (أن الحركة بدأت تبتعد عن غاياتها المفروضة ولا نظن هذا غريبا ولا داعيا للتشاؤم فلو درسنا الحركة من وجهتها التاريخية لوجدناها لا تختلف عن أية حركة للتحرر وطنية كانت أو اجتماعية أو أدبية..) وليس دفاعها هذا مخصوصا في الشعر الحر لأنه حر، بل هو دفاع عن ثورية النهج التحديثي للشعر عامة.
إن ريادة نازك الملائكة في مجال الحداثة الشعرية، هي ريادة نسوية، جمعت فيها بين الشعر والفكر فكانت الشاعرة المفكرة. واتضحت بوادر هذا الفكر في نظرتها إلى الرقدة الطويلة التي مرَّ بها شعرنا العربي طيلة القرون المنصرمة الماضية، فكنا(أسرى، تسيرنا القواعد التي وضعها أسلافنا في الجاهلية وصدر الإسلام، وأن شعرنا ما زال في صورة قفا نبك وبانت سعاد.)
من هنا أسست نازك الملائكة القواعد، وحددت السبل الكفيلة بوضع نظام جديد للشعر العربي. وما ساعدها في ذلك موهبتها التي بدأت مع نظم الشعر العامي – مما سنوضحه لاحقا في هذا المقال- ثم تطور الأمر، واتضح أكثر في مجزوءات بعض البحور التي معها اتسعت مساحة السطر الشعري لديها أكثر من ذي قبل. ليس ذلك حسب، بل سعت جاهدة الى التنظير الفكري، فوضعت أبحاثا نقدية مهمة، استلهمتها من تجربتها في نظم الشعر الحر.
وتصدت بحزم نقدي لمحاولات الالتفاف على هذا الشعر واستغلال (حريته) من قبل جماعة "مجلة شعر". وكشفت أبعاد مساعيهم في إجهاض ثورة الشعر الحر بتجاوزهم الحركة إلى خارجها، موسعين حدود الشعر إلى النثر. وكانت تخشى كثيرا من انحراف الشعر الحر عن مساره المرسوم فيكون من ثم وبالا على نفسه، يودي به إلى الهاوية. ولذلك دافعت بكل الوسائل من أجل تفادي وقوع هذا المحذور، وكانت تنظيراتها النقدية من الجدة والعمق، ما جعلها شاعرة استثنائية تثور على عمود الشعر، وتؤسس الارضية النظرية لشعر حر، يتمثل التقاليد الفنية من جهة، ويطوعها لخدمة أغراضه البنائية والموضوعية من جهة أخرى.
وما ساعد الملائكة في وضع رؤاها النظرية، المرجعية الفكرية المتأتية مما تحصلت عليه من دراستها للماجستير من مفاهيم وطروحات مدرسة النقد الجديد الأمريكية في وقت لم يكن عدد النقاد العراقيين الأكاديميين يتجاوز أصابع اليد الواحدة. هذا الى جانب ما اكتسبته من معارف معمقة في التراث العربي فضلا عن تأثرها بالشعر الانجليزي. ومرادها من التنظير ليس إبدال قواعد بقواعد، بل الاستمرار في الانقلاب على القواعد، ولا فرق بالنسبة إليها إن كان في الانقلاب ما يعزز آراءها أو لا.
وبجمع نازك الملائكة بين النقد النظري والنقد التطبيقي، غدت حيازتها السبق مخصوصة بها كأول شاعرة تودع في مقدمات دواوينها أطروحة خاصة في الحداثة، هي بطبيعة الحال فريدة لأنها بلا بواكير أو ممهدات، وإنما هو وعي الشاعرة العالي بالشعر والفاعلية الشعرية.
لقد قدمت نازك الملائكة كثيرا من التصورات الفكرية حول أطروحتها هذه، تكللت بظهور كتابها(قضايا الشعر المعاصر) 1962 الذي أثار كثيرا من الاختلاف. وتصدى له بالنقد السلبي دارسون كثر، لم تسعفهم أدواتهم التقليدية في فهم منهج نازك الملائكة النقدي. ولقد حاولوا بشتى السبل محو دورها التحديثي والتقليل من قيمته العلمية، غير أن مردودات ذلك كله كانت إيجابية، لأنها حرَّكت مياه النقد العربي الراكدة.
وما يدور في أوساطنا الأدبية والأكاديمية من حديث عن احتفاء وطني بالشعراء المجددين الثلاثة السياب والبياتي وبلند الحيدري سيشهده العام القادم بمناسبة توافق مئوية مواقيت مولدهم في عام واحد هم 1926، إنما هو حديث عن احتفاء بالشاعرة المجددة أيضا، بسبب رمزية الثورة التي نافحت عنها شعرا، وناضلت من أجلها نقدا. وهي التي رأت أن الثورة الشعرية متى ما أصبحت معتادة، فلا بد من الثورة عليها. ومن المؤكد أن أي باحث أو ناقد يقف قبالة تجربة من تجارب هؤلاء الثلاثة المجددين، سينساق قلمه بقصد أو من دون قصد نحو الحديث عن تجربة نازك الملائكة. ليس لأن نازكا امتلكت الريادتين الشعرية والنقدية حسب، وليس لأن " الالكسو" خصصت بمناسبة مرور مئة عام على مولد الملائكة عاما للشعر باسمها هو 2023، بل لأن لها أيضا لفتات إبداعية؛ منها ميلها نحو تجريب أوزان الشعر العامي، ومنها استلهامها التاريخ الطويل لعلاقة الشعر بالغناء، وهي التي اتقنت العزف على آلة العود بمقامات نغمية معينة.
ومعلوم أن نازك الملائكة تخرجت عام 1949 في معهد الفنون الجميلة بعد أن قضت ست سنوات في دراسة الموسيقى والتخصص في العزف على آلة العود بإشراف أستاذها الموسيقار محي الدين حيدر الملقب بالشريف، وقالت عن ذكريات دراستها في المعهد:(العزف على العود كان أمنيتي منذ صغري.. ولهذا الفنان طريقة فريدة في العزف والتدريس. . كنت أجلس في صف العود مسحورة وكأني استمع إلى صلاة، وكان الشريف يؤكد أنَّ لي مسمعاً موسيقياً حساساً وموهبةً ظاهرةً ولكنه كان خائفا عليَّ أن يجرفني حبي للشعر ويبعدني عن الموسيقى رغم أنني ما زلت حتى اليوم أعزف لنفسي وأغني ألحان عبد الوهاب وأم كلثوم وفيروز وعبد الحليم ونجاة. . ولعله كان ينتظر أن أكون عازفة مشهورة ومؤلفة ألحان)
وكانت في أثناء تعلمها فن الموسيقى تعجب كثيرا بألحان تشايكوفسكي، وتعلمت المقامات الشرقية، ولحنت من شعر أمها (نشيد العرب) وأنشدته طالبات دار المعلمات الابتدائية وكان اللحن على نغم النهاوند. وإذا كانت نازك الملائكة قد عرفت الأطوار الغنائية كالابوذية والميمر والدرامي والعتابة والميجنة وأخفت ميولها الغنائية مجتمعيا فإنها أعلنتها شعرياً. ومن لفتاتها الإبداعية أيضا ما كتبته من أبحاث حول الأغنية العراقية، كشفت فيها عن دراية بواقع الغناء وخصوصياته النغمية والموضوعية. فأكدت مثلا أن صورة الفتاة اليتيمة تنتصب في الأغنية العراقية شامخة وهي تردد الحسرة. وكأن كل لحن فيها منذور للثأر من الواشي والنمام والحسود وحافر البير والعاذل والظالم (هلي يا ظلام هلي)
وشخَّصت شاعرتنا الكبيرة في الأغنية العراقية ظاهرة أخرى وهي أن شخصية المحب ضعيفة كثيرة الشكوى في حين شخصية العذول أقوى منه سطوة(أرد الجمع الميزان ويا الثريا/ ثاري القمر حيّال يضحك عليَّ). وحللت أسباب تكرار مفردة النهر في الأغنية العراقية (ارد اقلب الشطين دجلة وفرات/ وانطر حبيبي اليوم/ من يا عقد فات) و(بين الجرف والماي حنطة زرعوني/ لاهل السفن يا ريت ما عبروني) (وشلون انام الليل وانت على بالي/ حتى السمك بالماي/ يبكي على حالي) وعلاقة النهر بالعطش والتعطش(ما تروي العطشان يا شط عسنك/ محرمني شوف هواي يا كلها منك).
واستحضرت صورة المرأة العراقية وهي تعبِّر بالقصيد عن ضنك حالها. مثل تلك الفتاة الريفية التي تتمنى أن تصير فنجان قهوة(كون انقلب فنجان بيد القهوجي/ وأوصل لحلق هواي/ وانتحب وابجي) أو العاشقة التي تتمنى أن تكون نجمة صبح، تسقط على المحبوب(نجمة صبح يا هواي / واسقط على غطاك/ وبحجة البردان اتلفلف وياك)
إن اهتمام نازك بظواهر الأغنية العراقية والشعر العامي جعلها تنتبه إلى ما انتبه إليه مظفر النواب وهو أن المرأة العراقية بطبعها لها دورها المهم في الشعر بوصفها الفاعل الغائب الذي لا يعلن عن نفسه في الغالب. وقد أكدت الشاعرة لميعة عباس عمارة لاحقاً هذه الحقيقة فكتبت أشعاراً باللهجة الشعبية. صار بعض منها أغنيات خالدات في الذاكرة العراقية. ومنها أغنية(اشتاقلك يا نهر). ويأتي في هذا السياق أيضا، تعمّد نازك الملائكة عنونة بعض قصائدها بالأغنية مثل(أغنيتان للألم) و(خمس أغنيات شيوعية) و(أغنية شمس الشتاء) وفيها تقول:(أذيبي بها قطرات الجليد/ يفيض عليه سناك الحنون/ عن العشب عن زهرة لا تريد/ ويرسله شعلة من جنون) و(أغنية حب للكلمات) وتتكرر فيها جملة(فيمَ تخشى الكلمات)
ومن المهم أن نذكر أن ما في شعر نازك الملائكة من حزن وتشاؤم، ليس مجرد تأثر رومانسي بالشعراء الانجليز أو شعراء المهجر العرب، بل هو قبل ذلك جزء مما توارثته النساء العراقيات عامة من جداتهن من شجن وابتئاس وتكدر، وظاهرة استقينها من أسلافهن الشواعر العربيات، وفي مقدمتهن الخنساء. ولقد تغلغل الحزن في أغلب دواوين نازك الملائكة، تماما كما تغلغل في الأغنية العراقية تغلغلا فنيا وتاريخيا عجيبا. تقول في ديوانها(عاشقة الليل): (واضحك مما قضاه الزمان/ على الهيكل الآدمي العجيب/ وأغضب حين يداس الشعور/ ويسخر من فوران اللهيب)