للمفسرين سلطة عليا في الإسلام.
هم الوسطاء بين النص الإلهي والفهم البشري، بين ثبات النص وتبدل أحوال الناس.
سيطر المفسّرون الذكور على هذا الحقل لقرون. لكن المجتمعات الإسلامية تتغير. والنساء المسلمات بدأن يكتشفن مناطق كانت، لقرون، للذكور فقط.
وفي السنوات الأخيرة، بدأت تظهر أسماء نساء في تفسير القرآن. سيلين إبراهيم، أحد هذه الأسماء.
من خلال عملها على النص القرآني من منظار أكاديمي ونسوي، تُضيء إبراهيم زوايا مظلمة ومُهمَلة في التفسير التقليدي الذي غلب عليه المنظور الذكوري.
وهي بذلك لا تُصحح الصورة النمطية السائدة بأن المرأة لا تستطيع التفسير أو تفتقر إلى العمق في هذا المجال فقط، بل تُحاول ان تُثبت قدرة النساء على فهم النصوص الدينية وتفسيرها على قدم المساواة مع الرجل.
هذا الجهد يعزز فكرة أن التفسير ليس حكراً على جنس واحد، بل هو مساحة مفتوحة لجميع من يمتلكون الأدوات والمنهجية اللازمة، وهذا ما يميز عملها ويمنحه أهمية خاصة.
في كتابها “النساء والجندر في القرآن” (2020)، تتحدث إبراهيم عن التهميش للباحثات في مجال الدراسات القرآنية، وترى أنه لا يرتبط بقدراتهن الفكرية او الروحية، وأن لهذا التهميش عوامل اجتماعية بحتة، ولا علاقة له بقدرة المرأة على الفهم أو التفسير.
وفي حوار خاص مع “الحرة”، تكشف إبراهيم عن المنهج الذي اتبعته في كتابها، والأسباب التي دفعتها لاختيار هذا الموضوع، بالإضافة إلى رؤاها حول مكانة المرأة في النص القرآني.
أهمية تفسير القرآن من قبل نساء، كما تشرحه إبراهيم في كتابها، يرتبط بضرورة “تفكيك الافتراضات وتصحيح الافكار المهينة التي تم ترسيخها حول المرأة في الفكر الديني”، بالإضافة إلى تقديم جوانب “مؤيدة للمرأة لم يتم تقديرها في معظم الدراسات السابقة.
بالنسبة لها، عملها في التفسير من منطلقات علمية، يتطلب تجنب الانخراط المباشر في مسائل المصدر الإلهي للقرآن، وتستخدم عبارات من مثل “القرآن يقول…”، أو “القرآن يحتوي على….”، لجعل عملها متاحاً لجمهور أوسع من الخلفيات اللاهوتية والعلمية المختلفة، والتعامل مع النص الديني بطريقة محايدة نوعاً ما، حتى مع خلفيتها اللاهوتية وايمانها الديني.
تقتبس إبراهيم من الباحثة والمفسّرة الجنوب أفريقية فاطمة سعدات، التي ترى أن إسهامات النساء في التفسير ليست مجرد “تصحيح تاريخي بسيط”، بل هي “إعادة موازنة ضرورية لمسار العلاقة بين الخالق والنص والمتلقي”.
في كتابها، تناقش سيلين إبراهيم تطور الشخصيات النسائية في القرآن، من الشخصية الأم الأولى (جدة الأنبياء) إلى النساء المعاصرات للنبي محمد.
تعتمد إبراهيم في تحليلها على المنهج الفيلولوجي (علم فقه اللغة) لدراسة الروايات القرآنية، مع التركيز على الخصائص اللغوية، والترابط النصي، والبنية الأدبية، لفهم كيف يعزز القرآن قضايا الجنسانية، والعلاقات الأسرية، وأصوات النساء.
تشير إبراهيم إلى أن الروايات القرآنية ليست مجرد قصص، بل هي وسيلة تربوية تهدف إلى تعليم دروس أخلاقية حول المسؤولية الفردية وحماية حقوق الآخرين. وتؤكد أن الشخصيات النسائية ليست ثانوية أو هامشية، بل هي جزء أساسي من الخطاب القرآني وتساهم بشكل كبير في رسالته الأخلاقية.
توصلت إبراهيم إلى أن النساء في القصص القرآنية يلعبن أدواراً محورية في روايات التاريخ المقدس وفي إظهار الحقائق الإلهية. وعلى الرغم من أن النساء لم يُسَمَّيْن صراحةً نبيات أو رسولات، غالبًا ما يعملن على تأكيد كلمة الله ووعوده، بطرق لا يفعلها الرجال. ومثال على ذلك، إنجاب مريم “كلمة الله” جسدياً.
تُظهر أبحاث إبراهيم أن القرآن يصور الشخصيات النسائية على أنهن يمتلكن القرار والمسؤولية في تشكيل مصائرهن، سواء للأفضل أو للأسوأ. وتوضح إبراهيم أن القرآن يحتفي بقدرات النساء في مجالات الروحانية والتقوى، وكذلك في حماية العلاقات الأسرية.
لم يكن اختيار إبراهيم لموضوع الكتاب عشوائياً أو بالصدفة، بل كان نابعاً من رؤية بحثية عميقة. تقول: “لقد كانت المناهج النصية هي نقطة انطلاقي، لأنني رأيت إمكانات غير مستغلة في فحص أبعاد تماسك القرآن، وفي الوقت نفسه استكشاف الآيات القرآنية التي تتناول الجنس البيولوجي والجنسانية والأدوار الأسرية”.
بمنهج متعدد التخصصات، يجمع بين التحليل اللغوي والنحوي والبلاغي والهيكلي، تصف إبراهيم نفسها بأنها “مفسرة مؤقتة”، وهو مصطلح يهدف إلى إفساح المجال للباحثات وللباحثين المعاصرين – وخاصة الأكاديميات – للمشاركة بشكل بناء مع التراث الفكري لتمكين هذا التراث من التحدث بلغة معاصرة.
تُظهر أبحاث إبراهيم أن الخطاب القرآني يمنح المرأة صوتا قويا ومؤثرا. فصوت المرأة في القرآن مؤطر بصلوات عميقة ومؤثرة، كما تشرح إبراهيم لـ “الحرة”. تبدأ تلك الصلوات في القرآن بدعاء امرأة عمران، وتُختتم بدعاء امرأة فرعون.
تُشير إبراهيم إلى أن أول خطاب لامرأة في القرآن (آل عمران 3: 35-36) هو دعاء يؤكد على قيمة الأنثى، بينما آخر خطاب لامرأة (التحريم 66: 11) هو دعاء يطلب النجاة من الظلم والفساد.
هذه الملاحظة تُظهر أن أصوات النساء في القرآن لا تقتصر على الأدوار الثانوية، بل تُقدم كأداة أساسية لمعالجة قضايا جوهرية مثل احترام الفرد ومقاومة الظلم.
وتُعد ملكة سبأ “أكثر الشخصيات النسائية فصاحة في القرآن”، حيث يتمتع خطابها “بجودة نبيلة وله رنين نبوي واضح”. وهي إشارة إلى أن النساء يمكنهن ان يكن نبيّات، وأنهن يتشاركن مع الأنبياء في التعبير عن التوبة والندم، وتلفت إبراهيم الانتباه إلى أن إعلان ملكة سبأ التوبة بالقول “إني ظلمت نفسي” (النمل 27: 44) يتردد صداه في السورة التالية على لسان موسى: “رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي” (القصص 28: 16). وعبر هذه المقارنة، تُحاول الباحثة ان تبرز فهم بعض نساء القرآن لطبيعة الرسالة الإلهية، وهذا الفهم هو سمة غالباً ما ترتبط بالأنبياء.
تقدم إبراهيم قراءة متعمقة للعلاقة التكاملية بين الشخصيات النسائية والذكورية في القرآن. فعلى سبيل المثال، تقارن بين زكريا ومريم: “يبكي زكريا من ألم عدم إنجاب طفل، لكن مريم تبكي من ألم إنجاب طفل: ‘يا ليتني مت قبل هذا…’”. وتوضح أن “كلاهما يصبح والداً لنبي بعد صلواتهما السرية”، وأن “كلاهما يكون في صلاة خاصة عندما تظهر لهما الملائكة”.
وتؤكد إبراهيم أن الفرق بين الشخصيات النسائية المثالية والشخصيات الذكورية التي نالت لقب “نبي” يكمن في “المهام المحددة التي يكلفهم الله بها، وليس في صدق عبادتهم، أو قدرتهم على الإيمان، أو درجة تقواهم”. فالقرآن يصف أم موسى بأنها تلقت “وحيًا” (القصص 28: 7)، مما يثبت أن النساء يتلقين وحياً إلهياً أيضاً.
تُبين إبراهيم أن الله في القرآن خاطب النساء مباشرة في عدة مناسبات، فـ”تتحدث زوجة آدم إلى الله في انسجام مع زوجها”، وهي المرة الوحيدة التي يصلي فيها آدم إلى الله في القرآن. كما أن نساء عائلة النبي محمد (في سورة الأحزاب) وزوجة آدم (في عدة سور) هن “شخصيات نسائية يخاطبها الله مباشرة”.
وتؤكد إبراهيم على تفرد شخصية مريم، فهي “الشخصية التي أجرت أكبر عدد من المحادثات مع الرسل الإلهيين (الملائكة)” بعد النبي محمد. كما تشير إلى تفصيل دقيق، وهو أن “القرآن يذكر مصطلح (بنات) في عدة مناسبات، ولكنه يستخدم مصطلح (ابنة) بصيغة المفرد مرة واحدة فقط في سياق اسم مريم: مريم ابنة عمران (التحريم 66: 12).
ترفض إبراهيم اختزال مكانة المرأة في الإسلام، وتؤكد أن كتابها يساهم في تقديم فهم أعمق وأكثر عدلاً للموضوع. فعلى الرغم من أن بعض الجماعات المتطرفة قد تسيء تفسير القرآن لمعاملة المرأة بشكل سيء، فإن عملها يهدف إلى إظهار أن النص القرآني نفسه يقدم صورة مغايرة تماماً.
وفي إجابتها على سؤال حول ما إذا كانت ترى أن القرآن يعامل الرجال والنساء على قدم المساواة، تشير إلى أن هناك “اختلافاً في المهام”، لكن “الفرق لا يكمن في إخلاص عبادتهم، أو قدرتهم على الإيمان، أو درجة تقواهم”، وأن الاختلاف في الأدوار لا يعني التفاوت في القيمة الروحية أو الإنسانية، وهو ما تحاول البرهنة عليه في كتابها.
وترى إبراهيم، كخلاصة لبحوثها، أن القرآن يعترف بالفروق الفسيولوجية بين الرجال والنساء، وخاصة في مجال التكاثر، وأن هذه الفروق لها تأثيرات على العالم الاجتماعي. ومع ذلك، تؤكد أن القرآن يقدم “منظورات إيجابية” حول وكالة المرأة وقدرتها.
لا يوجد نموذج نمطي واحد للنساء في القرآن؛ كما تستنتج إبراهيم، بل هن يظهرن على طيف بين التقوى والتمرد، بين الحكمة والجهل، وبين القوة والضعف. القرآن يذكر أمثلة على نساء مؤمنات ملهمات، وأيضًا نساء فاسدات، مما يدل على أن المرأة، مثل الرجل، تتحمل المسؤولية الأخلاقية عن أفعالها.
تعترف إبراهيم أن هناك كثيرا من الجوانب التي لم تتمكن من استكشافها بالكامل في كتابها، مثل الدراسات الحديثة للذكورة في القرآن، والتي يمكن أن تزيد من تعقيد مفاهيم الذكورية السائدة، وتوفر مجالاً واعداً للبحث المستقبلي.
الكاتب
رامي الأمين
كاتب وصحافي لبناني يعيش في الولايات المتحدة الأميركية. حائز درجة ماجستير في العلاقات الإسلامية والمسيحية من كلية العلوم الدينية في جامعة القديس يوسف في بيروت. صدر له ديوان شعري بعنوان "أنا شاعر كبير" (دار النهضة العربية - 2007)، وكتيب سياسيّ بعنوان "يا علي لم نعد أهل الجنوب" (خطط لبنانية - 2008)، وكتاب عن مواقع التواصل الاجتماعي بعنوان "معشر الفسابكة" (دار الجديد - 2012) وكتاب بعنوان "الباكيتان- سيرة تمثال" (دار النهضة العربية- ٢٠٢٤)