روايتها الأخيرة "إقناع" تظهر بعد عام من موت الكاتبة لـ"تقنع" قراءها بفرادتها
ملخص
تعتبر رواية "إقناع" للكاتبة الإنجليزية جين أوستن نوعاً من "وصية" يتجاوز حضورها المجال الأدبي للكاتبة، ليطاول شخصيتها ومواقفها العامة من بلادها وحياتها وقضية المرأة ومكانها في العائلة وقضايا الزواج والعلاقات الطبقية، التي نعرف أنها شديدة التعقيد في مجتمع معقد كالمجتمع البريطاني
من ناحية مبدئية، لا يمكننا أن نحدد تماماً اللحظة التي تحولت فيها الكاتبة الإنجليزية جين أوستن (1775 - 1817) إلى ظاهرة اجتماعية، بل حتى "كونية" يطغى حضورها على الحياة الأدبية في عدد كبير من المناطق الناطقة والقارئة تحديداً باللغة الإنجليزية، ولا سيما في الولايات المتحدة، بعدما كانت، وفي الأقل كما يصفها الباحث باتريك بارندر في كتابه المميز "الأمة والرواية" (المترجم بصورة استثنائية إلى العربية عن المركز القومي للترجمة في القاهرة، قبل سنوات) بكون رواياتها "تتشارك مع روايات إميلي برونتي في الخلفية الريفية والإنكليكانية لكل منهما، بما تبديانه من المشاعر الوطنية وبالنظام الأبوي وبالمثل الرعوية وبالمسؤولية الأخلاقية للفرد"، مؤكداً أن "المشاعر الوطنية أقوى عند أوستن وبرونتي منها عند معظم الروائيات الإنجليزيات قبلهما أو بعدهما".
والحقيقة أن السؤال الأساس هنا يتعلق بالخلفية التي "خرجت" بها جين أوستن تحديداً (ما دام أنها هي موضوع حديثنا هنا) من "العباءة الوطنية" التي تكاد تكون ضيقة، إلى رحابة الاهتمام الكوني، حيث تنتشر منذ عقود نواد خاصة بها لقارئات يقرأنها بانتظام، وتتتابع الاقتباسات السينمائية لأعمالها بوتيرة مدهشة، بل تقتبس أعمالها للتلفزة بصور وأساليب فنية متنوعة، ناهيك بمحاولات توصف أحياناً بغرابة الأطوار لتحويل نصوصها إلى روايات رعب ونصوص بوليسية، وربما حكايات للصغار من دون أن يكون فيها، وبحسب تحليل بارندر في الأقل، ما يعد قراءها لذلك التحوير؟
لقد قلناها أول هذه السطور ولا بد من استعادتها: لا يمكننا أن نحدد تلك اللحظة، لكن في إمكاننا أن نذكر عام موتها الذي تلاه في العام التالي له ظهور آخر رواية كتبتها، وهي "إقناع"، التي منذ نشرها في عام 1818 راحت تبدل من مستوى علاقة القراء والنقاد ومؤرخي هذه الكاتبة بها تبديلاً استغرق نحو قرن قبل أن يكتمل.
في سياق عادي!
ومع ذلك لا يمكن القول إن في الرواية نفسها ما يتميز عما في روايات الكاتبة الأخرى التي كانت واصلت حضورها، في المقروئية المحلية ثم على مستوى العالم الأنغلوفوني، طوال حياة الكاتبة ونشاطها الأدبي الذي دام خلال المرحلة الأخيرة من حياتها القصيرة، أي خلال ما لا يزيد على ست أو سبع سنوات، وكان من أبرز علاماته كما نعرف "إيما" و"العقل والعاطفة" و"الكبرياء والهوى" و"مانسفيلد بارك"، وأخيراً "كاترين مورلاند" التي شاركت "إقناع" في كونها آخر ما كتبته أوستن، وكان من حظهما أن تنشرا تباعاً بعد موت الكاتبة.
وعلى رغم أن الروايتين نشرتا متأخرتين، فإن "إقناع" ستحظى دائماً باهتمام خاص لكونها، على عكس الرواية الأخرى، لم يكن أحد يعرف شيئاً عنها عندما رحلت كاتبتها، بينما اعتبرت "كاترين مورلاند" عملاً يأتي في سياق ما هو معروف من أدب الكاتبة الشابة. وربما من هنا، اعتبرت نوعاً من "وصية" يتجاوز حضورها المجال الأدبي للكاتبة، ليطاول شخصيتها ومواقفها العامة من بلادها وحياتها وقضية المرأة ومكانها في العائلة وقضايا الزواج والعلاقات الطبقية، التي نعرف أنها شديدة التعقيد في مجتمع معقد كالمجتمع البريطاني. ومن هنا الافتراض بأن في عام ظهور هذه الرواية بدأت مسيرة التحول الطويلة في وجود جين أوستن بعد الرحيل، وجوداً كان هو ما حولها إلى ظاهرة.
حكاية عائلية كالعادة
ففي رواية "إقناع" وعلى عكس ما يحدث في روايات أوستن السابقة، حيث تتبدى أول ما تتبدى أهمية التأثير الذي تمارسه "الجماعة" في الفرد، ولا يمكن لهذا الأخير حين يتخذ حتى قراراته الأكثر خصوصية بل حميمية - كاختيار شخص معين كزوج أو زوجة تبعاً للمصلحة الجماعية والعائلية تحديداً، فإذا حصل غير ذلك يعتبر الأمر ثورة انقلابية يصعب تقبلها - ثمة مكانة أساسية للقرارات الشخصية بصرف النظر عما قد تراه الجماعة أكثر ملاءمة للفرد منها، لمجرد أنه يتلاءم أكثر مع تطلعاتها، ولنقل مصالحها الخاصة.
هنا، في "إقناع"، تلعب الفردية الدور الأكثر حسماً، كما يمكننا أن نكتشف من خلال أي تلخيص للرواية، فالأحداث تتمحور هنا من حول عائلة السير والتر إليوت، وهو من كبار رجال المجتمع في منطقة باث، الريفية الإنجليزية، غير البعيدة من لندن كما الحال دائماً في روايات جين أوستن.
والسير إليوت الفخور إلى حد الإفراط بجدوده والمحب لعائلته يعيش محاطاً ببناته الثلاث، آن واليزابيث وماري. ولئن كانت هذه الأخيرة متزوجة من تشارلز ماسغروف، والسير والتر أرمل منذ فترة ما، فإن التركيز هنا يكون على آن التي يعهد بها أبوها إلى أصدقاء له من أسرة قريبة كي يتولوا تربيتها لعجزه هو عن ذلك بعد غياب زوجته، لكن آن على رغم صغر سنها تغرم بضابط شاب في البحرية هو فردريك منتوورث، الذي ستخطب إليه لبعض الوقت، أي قبل أن يتكشف عن ابن مفلس لعائلة تعاني مشكلات مالية على رغم أرستقراطيتها المعلنة.
وبسبب ذلك الوضع تنصاع آن، ولو مكرهة، لنصيحة صديقة لعائلتها هي الليدي راسل، فتفسخ خطوبتها مع "حبيبها"، ولكن من دون أن تتخلى عن التفكير فيه وهي في حيرة من أمرها. ولا سيما وأن فردريك يرحل بعيداً، وقد آلى على نفسه أن يبدل من أوضاعه وأوضاع عائلته.
حين يعود الحب
وبالفعل فإن الضابط الشاب سرعان ما يحقق في المهجر ما عجز عن تحقيقه في الوطن، إذ ها هو الآن بعد حين يجمع ثروة كبيرة تعيده للوطن، ولكن بينما آن قد بقيت وفية لحبه ولذكراه طوال فترة غيابه، فإنه هو لم يشعر بشيء من ذلك، بل سيبدو عليه منذ عودته أنه لم يعد يفكر بها على الإطلاق، بل ها هو يسعى إلى علاقة جديدة، وبالتالي إلى تكوين عائلة تعوض عليه بعض حرمان كان قد عاشه في مستهل شبابه. وتشاء المقادير أن تكون الفتاة الأولى التي يبدأ بمغازلتها واحدة من شقيقات صهر آن، أي زوج اختها ماري. وهذا ما يعيد جمعه، من طريق النسب هذه المرة بآن، مستعيداً بعد لقائه بها شغفه القديم.
وفي الوقت نفسه لا بد أن نقول هنا إننا لن ننسى الشقيقة الثالثة لآن وماري، اليزابيث التي ها هي عند هذا المستوى من الرواية تلتقي في حكاية حب موعودة - من جانبها هي في الأقل - مع قريبها الشاب ويليام والتر اليوت، الذي تشاء الأقدار هذه المرة أنه هو الذي يرث لقب عمه وما تجمع لهذا الأخير من ثروة. غير أن هذا القريب الشاب يفضل، كما يبدو، آن. أو أن ذلك ما ستكون الأمور عليه حين يصل فردريك إلى دارة عائلة اليوت في باث، ليجد حبيبته آن محاصرة من كل زاوية بمغازلة ويليام لها.
وهنا، في نهاية الأمر وكما يحدث في مثل هذه الظروف عادة، ولكي تستعيد الحياة مجراها الطبيعي، لا بد أن ينكشف زيف الوارث الوصولي وأكاذيبه، ولا سيما في نظر آن التي كانت بدأت تستعد لتقبل اقترابه منها، فيزول بفعل انفضاح شأنه، الحاجز الذي كان يفصل بين آن وفردريك ويتزوجان في النهاية، ولكن زواج حب حقيقي هذه المرة لا زواج طبقي مبني على المصالح العائلية أو التضحيات الفردية على مذبح التفاهمات الاجتماعية.
الرواية / الوصية
ومهما يكن من أمر هنا، حتى وإن اعتبر النقاد - وقراء أوستن المعتادون على مدى ثلاثة أو أربعة أجيال تالية - هذه الرواية منساقة في الإيقاع العام لحكايات هذه الكاتبة العائلية و"النسوية" بصورة أو بأخرى، فإنهم وفي السياق نفسه اعتبروها نوعاً من تلخيص لأدبها ككل، ثم ثورة على ذلك الأدب، ولو من داخله. ثورة تقوم على التعمق في دراسة الشخصيات والمواقف والعلاقات الاجتماعية، ولكن هذه المرة من منظور بالغ الفردية. وهو ما أضفى على الرواية، وانطلاقاً منها على التطوير الذي كشفت عنه هذه الرواية في أدب جين أوستن سمتين أساسيتين: سمة تبجيل الفردية على حساب الأبعاد الاجتماعية، وسمة تبجيل الحب ليس كفعل اجتماعي، بل كحق فردي من دون أن يتسم بذلك القدر من الفجائعية المعتادة في حكايات الحب السابقة. ولربما كانت هاتان السمتان في خلفية تلك الكونية التي باتت ملتصقة بأدب جين أوستن منذ رحيلها وبصورة أكثر حسماً منذ ظهور "إقناع" كرواية / وصية.
إبراهيم العريس باحث وكاتب