لم ينفك العراق عن الضغوط الاقتصادية المتصاعدة، التي تلقي بظلالها الثقيلة على حياة المواطنين، نتيجة ارتفاع الأسعار وتفاقم معدلات التضخم، في وقت تحافظ فيه الأجور والرواتب على حالها من دون تعديل يتناسب مع ارتفاع تكاليف المعيشة. ورغم امتلاك البلد لمقومات اقتصادية كبيرة بفضل موارده النفطية، إلا أن الاعتماد شبه الكامل على الريع النفطي وغياب التنويع الاقتصادي جعلا الاقتصاد هشاً أمام أي صدمات داخلية أو خارجية.
وتتحدث الحكومة عن خطط للمعالجة والإصلاح، لكن خبراء يؤكدون أن مواجهة الأزمة تتطلب إصلاحات عميقة تشمل السياسة النقدية والمالية، ودعماً مباشراً للأسر ذات الدخل المحدود، إلى جانب تفعيل الرقابة على الأسواق ومنع الاحتكار.
ومن المرجح أن تستمر مظاهر الأزمة الاقتصادية في العراق خلال الفترة المقبلة، لاسيما في ظل اعتماد الاقتصاد على النفط، حيث أن إحداث التحول الهيكلي المطلوب لتعزيز مظاهر التوازن في أي اقتصاد تحتاج إلى عقود طويلة.
وتحاصر الاقتصاد مؤشرات حمراء عديدة، في تراجع الإيرادات وتصاعد النفقات، ما يعني تفاقم العجز المالي.
ويعاني المواطن من ضغوط اقتصادية متزايدة نتيجة ارتفاع أسعار السلع الأساسية والخدمات، في وقت تبقى الرواتب ثابتة، ما يضاعف صعوبة تلبية الاحتياجات اليومية للأسر، خاصة العائلات التي لديها أطفال.
وتدفع ظروف الحياة الاقتصادية بعض الموظفين لممارسة أعمالاً إضافية لسد النفقات، ولا يقتصر الأمر على الرجال وحسب، بل حتى النساء الموظفات يزاولن أعمالاً أخرى بعد انتهاء الدوام حتى وإن من داخل المنزل.
ويشير خبراء اقتصاد ومواطنون إلى أن ارتفاع الأسعار يعود إلى تراجع قيمة الدينار، ضعف الرقابة على السوق، والأزمات الاقتصادية العالمية، ما يجعل التدخل الحكومي العاجل ضرورياً لضبط الأسعار وحماية القدرة الشرائية للمواطنين.
يقول المواطن حسين محمد علي، إن "ارتفاع الأسعار أصبح عبئاً كبيراً على الأسر، وخصوصاً العوائل التي لديها أطفال، إذ لم تعد الرواتب اليومية تكفي لتغطية الاحتياجات الأساسية لهم. كل يوم نجد أن أسعار الأكل والماء والكهرباء ترتفع، بينما الدخل يبقى ثابتاً، وهذا يجعل توفير احتياجات الأطفال الأساسية صعباً للغاية".
ويضيف حسين في حديث لـ"طريق الشعب"، ان هناك جشعاً كبيرا في الأسواق: فالباعة يرفعون الأسعار، التجار أيضا. وهذا ما يزيد من معاناة كثير من العائلات، ويجعل تلبية أبسط الاحتياجات صعبة.
ويؤكد أن "الوضع الحالي يتطلب تدخل الحكومة بشكل عاجل لضبط الأسعار وتقديم الدعم للأسر المتضررة، خاصة العوائل التي تعتمد على دخل محدود، لأن الأطفال هم أكثر من يتأثر بهذا الغلاء المستمر".
أسباب الارتفاع!
وقال الخبير الاقتصادي عبدالله نجم، ارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية وبعض المواد الغذائية في الفترة الأخيرة يعود إلى عدة عوامل متشابكة، أبرزها تراجع قيمة الدينار مقابل الدولار، الأمر الذي يزيد من تكلفة استيراد المواد الأساسية ويؤثر مباشرة على أسعارها محلياً.
وأضاف نجم، أن ضعف الرواتب وعدم مراجعة سلم الأجور في القطاعين العام والخاص ساهم في تقليص قدرة المواطنين على مواجهة هذه الزيادات، حيث أصبحت المصاريف اليومية مثل الغذاء والكهرباء والمياه والخدمات الصحية تشكل عبئاً كبيراً على الأسرة.
وأشار نجم في حديث لـ"طريق الشعب"، إلى أن الأزمات العالمية وارتفاع أسعار المواد الغذائية عالمياً ضاعف من الضغوط على الأسواق المحلية، فيما أدى ضعف الرقابة الحكومية على الأسعار إلى ارتفاع بعض السلع الأساسية بشكل غير مبرر. وأوضح أن هذه العوامل مجتمعة تتسبب في تآكل القوة الشرائية، وزيادة معدلات الفقر، وارتفاع التضخم المحلي، فضلاً عن التأثير السلبي على حركة السوق والاستثمار وفرص العمل.
وأكد نجم، أن مواجهة هذه التحديات تتطلب تدخلات سريعة من الحكومة، تشمل مراجعة سلم الرواتب بما يتناسب مع مستوى المعيشة، وضع ضوابط لأسعار السلع الأساسية، وتقديم دعم مباشر للأسر الأكثر تضرراً، بالإضافة إلى تعزيز الرقابة على الأسواق لضمان استقرار الأسعار وتقليل الأعباء الاقتصادية عن المواطنين.
ويعاني الاقتصاد الوطني من معدلات تضخم مرتفعة تعتبر خطيرة مقارنة بالمقومات الاقتصادية التي يمتلكها البلد، وفقاً للباحث الاقتصادي أحمد عيد.
وقال عيد لـ"طريق الشعب"، إن ظاهرة التضخم في العراق ليست وليدة اللحظة، بل تعود جذورها إلى تدهور الاقتصاد العراقي على مدى العقود السابقة، وخاصة في فترة ما قبل الاحتلال عام 2003.
وأضاف عيد، أن انخفاض القيمة الحقيقية للدينار العراقي في السوق المحلية، والتحول إلى نظام اقتصادي ريعي يعتمد بشكل كامل على إيرادات النفط، من أبرز الأسباب التي أدت إلى ارتفاع معدلات التضخم والاسعار. كما ساهمت مشكلات الصناعة وسوء التخطيط الإداري، إلى جانب انكماش الإنتاج الزراعي المحلي، في زيادة الاعتماد على الاستيراد للمنتجات التي كان العراق يُصدرها سابقاً، مثل الحبوب والفواكه.
وتابع أن اعتماد السلطة الحاكمة على الاقتصاد الموجه أدى إلى إلغاء دور القطاع الخاص في التنمية الاقتصادية، بينما أصبح القطاع العام بيئة خصبة للفساد المالي والإداري والمحاباة، مع تراجع الإنتاجية وجودة المنتجات بشكل عام.
ومن أبرز المشاكل التي يواجهها المواطن، بحسب عيد، هي ثبات الأجور والرواتب التي لا تراعي تقلبات السوق وارتفاع أسعار السلع والخدمات، ما جعل متابعة معدلات التضخم مهمة صعبة نظراً للزيادة المستمرة في الأسعار.
ولاحظ أن هناك تضارباً كبيراً بين نسب التضخم المعلنة رسمياً من قبل الجهاز المركزي للإحصاء والبنك المركزي العراقي وما يلاحظه المواطن على أرض الواقع، مؤكدا أن الاقتصاد العراقي يواجه أيضاً ظاهرة الاقتصاد الخفي، الذي يشمل مجمل العمليات الاقتصادية غير الرسمية، مثل تهريب العملة والوقود والمخدرات.
ويمثل هذا النوع من الاقتصاد، خطراً كبيراً لأنه غير خاضع لسياسات الدولة النقدية والاقتصادية.
وخلص عيد الى الدعوة لـ"تطبيق سياسات مالية ونقدية سليمة، لتحقيق الاستقرار الاقتصادي، من خلال تحديد مستويات ومخصصات الضرائب والنفقات الحكومية، وتقليل الإنفاق العام، وفتح مجالات التنمية المستدامة، والعمل على ثبات الأسعار كي لا تثقل المواطنين.