عبثية الحروب عبر التاريخ
منذ الحياة البدائية للإنسان، لم تكن الحروب سوى لعنة متكررة تلاحق البشرية، وتفرض نفسها على حياة المجموعات والقبائل والشعوب.
دوافعها الأساسية، في الغالب، أسباب واهية تجعل الساسة الذين تحكمهم عُقَد نفسية خطيرة ومكبوتات مرضية يتخذون قرارات شنّ الحروب إرضاءً لشعورهم المرضي بالقوّة والنرجسية، وبحثًا عن المجد الذي سيخلد أسماءهم في التاريخ كقادة أفذاذ حققوا انتصارات عُظمى، لكن بأي ثمن؟
الثمن، للأسف، يكون دائمًا دماء الأبرياء، وخرابًا ينسف حياة البشر واستقرارهم وأمنهم.
وها إن التاريخ يشهد ويقدّم البرهان والأدلة على أن أية حرب لم تجلب للشعوب قط، لا خيرًا ولا سلامًا، ولا رخاءً، بل خلّفت وراءها القتلى والمعاقين والأرامل واليتامى، وتركت المدن رمادًا، والأراضي قاحلة، وأثقلت كواهل المجتمعات بالفقر والمجاعة واليأس، مثلما حدث في الحربين العالميتين اللتين لم تُخلِّفا غير المقابر الجماعية، وملايين اللاجئين، والمدن المحترقة، والاقتصادات المنهارة.
الحروب في جوهرها لا تمثل صراعًا بين الشعوب، بل بين نُخب حاكمة تُخفي مصالحها وأمراضها وراء الشعارات التي تُرفع منادية بالولاء للوطن، والدين، أو الأيديولوجيا، كما تخفي جوعها المرضي للسلطة، وتوقها المهووس للسيطرة، حتى لو كان الثمن هو التضحية بأجيال كاملة.
لذلك يظل السؤال المطروح دائمًا وبإلحاح: "لماذا لا يتعلم الحكّام والسياسيون من دروس التاريخ التي أثبتت أن كل حرب وقعت، ومهما كانت نتائجها، هي إعلان إفلاس للسياسة، وفشل للإنسانية؟"
لكن مَن يتعظ؟ وكل مَن يجلس على كرسي السلطة، مهما كان نوعها، تتلبّس به الشياطين فيغادر إنسانيته، لتتكرر مآسي الحروب بكل ما تحمله من عبثية وقسوة وفوضى وظلم للأبرياء، مثلما يشهد العالم ببرود قاهر ما يحدث الآن في غزّة وفلسطين.
لامبالاة الجندي شفيك مرآة لغباء السلطة
في هذا السياق، نستعيد قراءة رواية "مغامرات الجندي الشجاع شفيك"، التي تدور أحداثها على شكل رواية اعتمدت الكوميديا السوداء كأسلوب فني، وتدور أحداثها أثناء الحرب العالمية الأولى، وهي للكاتب التشيكي ياروسلاف هاشيك.
شكلت هذه الرواية الساخرة علامة فارقة في الأدب العالمي، فهي التي أدانت فكرة الحرب عبر خطاب مباشر وواضح وهجاء لشعاراتها التقليدية، بأسلوب أدبي ساخر يفضح عُقم الحروب مهما كانت دوافعها، ويعرّي اللاعقلانية التي تحكم قادة الجيوش والقيادات السياسية.
هذه الرواية لا تصور الحرب باعتبارها مأساة خطيرة للإنسانية فحسب، بل تكشف خفايا بشاعتها، وقُبح نتائجها، وترفع ستارة مسرحها العبثي الضخم، حيث يتصارع ويتخبط الجنود والضباط والبيروقراطيون في دوامة من الأوامر المتناقضة والحماقات المتكررة، بحيث يتحوّل القتل والدمار إلى نتيجة منطقية لغباء متواصل يفتقد أدنى درجات المنطق.
من هنا تأتي أهمية هذا العمل الروائي، الذي يُعَد بحق واحدًا من أبرز النصوص الساخرة التي أُنتجت في القرن العشرين، وأحد أعمدة الأدب التشيكي الذي تجاوز حدوده الوطنية ليصبح تراثًا إنسانيًا مشتركًا.
رواية "الجندي الشجاع شفيك" هي أكثر رواية تُرجمت من الأدب التشيكي. ترجمها إلى العربية أول مرة توفيق الأسدي، من خلال الترجمة الإنكليزية للرواية، وذلك سنة 1986 عن وزارة الثقافة السورية. وفي سنة 2008، صدرت طبعة حديثة للرواية عن دار الخيال في بيروت.
تنقسم الرواية إلى أربعة أجزاء، وإن كانت غير مكتملة بسبب وفاة مؤلفها المبكرة عام 1923، لكنها على الرغم من عدم اكتمالها بلَّغت ما أراد الكاتب إيصاله للقارئ عن مأساة الحرب التي اختار الحديث عنها بأسلوبه الكوميدي، وهو الأكثر تبليغًا وتأثيرًا في المتلقي الذي يضحك كرد فعل للمفارقات الكوميدية التي يقع فيها البطل شفيك، كما كل إنسان وهو في أتون الوجع، لذلك كله ظلت عملًا روائيًا متماسكًا في رؤيته العامة.
تبدأ أحداث الرواية عقب اغتيال ولي عهد النمسا الأرشيدوق فرانز فرديناند، حيث يُلقى القبض على شفيك بتهمة الخيانة، لمجرد تعليقاته البسيطة والساذجة حول الوضع السياسي الذي انقلبت موازينه فاندلعت شرارة الحرب العالمية الأولى، ثم يُستدعى لاحقًا للخدمة العسكرية على الرغم من تسريحه سابقًا بسبب اعتباره "أبله بعد الاعتراف به رسميًا".
ومنذ هذه اللحظة، تبدأ رحلة هذا الجندي البسيط في عالم عسكري معقد وفوضوي، حيث تتوالى المفارقات والمغامرات العبثية التي يواجه فيها شفيك ضباطًا بيروقراطيين تسكنهم المصلحة الذاتية والفساد، وأوامر غير منطقية، ينفذها شفيك ببلاهته وتلقائيته، لتولّد مواقف كوميدية تنتهي دائمًا إلى فضح خواء المؤسسة العسكرية التي تبدو مرعبة في ظاهرها بجديتها وصرامتها، بينما هي تخفي داخل البدلة الرسمية ذات النياشين الرنانة والرُتب العسكرية المُغرية إنسانًا يضعُف، ويحب، ويكره، ويطمع، ويبحث عن مصلحته الذاتية.
ومع انتقاله مع وحدته إلى الجبهة، يصبح مسرح الأحداث أكثر قتامة وأكثر سخرية، إذ تتجلى الفوضى الحقيقية للحرب بين أفراد المؤسسة العسكرية، وفي انعكاسها على الناس، ويستمر شفيك في التعامل مع كل ما يحدث من خلال براءته الساخرة، فتتوالد تلك المواقف المضحكة والناقدة للحرب.
ويبدو استعماله اللامبالاة والتلقائية كمن يلبس زيًا حديديًا من الأزياء الحربية التي كان يرتديها جنود الحرب في القرون الوسطى، صلبة وقوية ليواجه بها أهوال الحرب.
تُعدُّ شخصية شفيك قلب الرواية ومحركها الأساسي، فهي شخصية تبدو في ظاهرها غبية، أو محدودة الذكاء، لكنها في العُمق تحمل قدرة هائلة على تعرية التناقضات، وكشف اللامعقول من خلال الطاعة المطلقة التي تتحول إلى نوع من التهكم الخفي.
شفيك لا يعترض على الأوامر، ولا يثور في وجه رؤسائه، بل ينفذ الأوامر بحماسة مفرطة، مثل آلة طيّعة، لكن هذه الطاعة ذاتها هي التي تضعه في مواقف غير منتظرة، بل هي غالبًا عكس المطلوب تمامًا، مما يمنحها فرصة فضح عبثية تلك الأوامر، وكشف عجز المؤسسة العسكرية.
بهذا المعنى، يتحول شفيك إلى تجسيد للسخرية التي وظفها ياروسلاف لمواجهة عنجهية السلطة، حيث تبدو براءة الجندي مثل مرآة تُظهر الغباء الكامن في الأنظمة الحاكمة.
وما يجعل مثل هذه الشخصية خالدة هو قدرتها على الاستمرار في السخرية، حتى وهي في قلب الكارثة، فالضحك سلاح لا يقل فعالية عن البنادق والدبابات، بل ربما أكثر تأثيرًا، لأنه يزعزع صورة السلطة، ويقوّض هيبتها المهيمنة.
هاشيك وسرفانتس وشابلن: أبطال الكوميديا السوداء
ياروسلاف هاشيك، الكاتب والصحفي، والممثل الهزلي التشيكي، وُلد في براغ سنة 1883، وتوفي في 1923. عاش حياة قصيرة، لكنها مثيرة وغنية بالتجارب. عمل في شبابه في مهن هامشية متعددة، وانخرط في السياسة لفترة قصيرة (الحزب الشيوعي)، وكان دائم الترحال والتشرد في المدن الأوروبية، على هامش الحياة الشعبية البسيطة، منغمسًا في الأوساط الهامشية التي وفّرت له مخزونًا إنسانيًا كبيرًا استثمره في كتاباته.
اشتهر هاشيك بقصصه القصيرة الساخرة التي تناولت التناقضات الاجتماعية والسياسية، وامتلك أسلوبًا خاصًا يجمع بين السخرية السوداء والواقعية الشعبية، بحيث يقدّم المأساة الإنسانية في قالب ضاحك، لكنه مرير، ويحوّل الشخصيات الهامشية والعادية إلى مرايا تكشف فساد المؤسسات وضياع القيم.
هذا الأسلوب يصل إلى ذروته في "الجندي شفيك"، حيث يوظف شخصية ساذجة، أو متظاهرة بالسذاجة، كي يبرز حقيقة أهم، وهي أن الحرب ليست بطولة تنتهي بالنصر، بل هي في حقيقة الواقع عبث منظم في مجتمع مُصغر وفق قوانين المؤسسة العسكرية، وأن السلطة على اختلاف أشكالها لا علاقة لها البتّة بالحكمة، بل هي نتاج ظروف معينة وسلسلة من الأخطاء المتراكمة التي يرتكبها من هو في موقع السلطة، مدفوعًا بتضخم ذاته وكُرة العُقد التي ما فتئت تتراكم عبر مراحل حياته مثل كرة الثلج، حتى بلغ موقعه ذاك في السلطة.
استُدعي ياروسلاف سنة 1915 للخدمة العسكرية في جيش الإمبراطورية النمساوية في الحرب العالمية الأولى، وخدم على الجبهة الشرقية، حيث وقع في أسر الجيش الروسي، وهذه الفترة التي عاش فيها في المؤسسة العسكرية، وجرب ظروف الحرب حتى محاولة اغتياله، هي التي منحته المادة الأساسية ليتناولها بأسلوبه الساخر في عمله الأدبي هذا الذي يُعد الأهم في تجربته كروائي وقاص.
نشر ياروسلاف هذه الرواية على أجزاء في صحيفة محلية، وتوفي بمرض السل. وقد ساهم إفراطه في تعاطي الكحول في تدهور صحته، مما عجل في رحيله قبل أن ينهيها.
الشيء المحوري في هذه الرواية يتمثل في أسلوبها الذي اعتمده الكاتب، وهو الكوميديا السوداء التي تُضحك القارئ، لكنها تترك في داخله مرارة عميقة، لأنها تستمد مادتها من المآسي الحقيقية.
فالمواقف التي يواجهها شفيك مضحكة بلا شك، لأنها تكشف أن حياة الجنود تُدار بقرارات تافهة، وأن مصير الناس يُحدد بخطأ في الأوراق، أو نزوة ضابط متعجرف. هذا النوع من الكوميديا السوداء يمنح الرواية طابعًا مزدوجًا: فهي في لحظات كثيرة تُثير الضحك الصاخب، لكنها في الوقت نفسه تجعل القارئ يتأمل بجدية مأساوية الحرب وعبثية وجودها.
يمكن القول إن الضحك في هذه الرواية ليس مجرد أداة للتسلية، بل وسيلة مقاومة نفسية، مثل درع يواجه به الأفراد قسوة الواقع الذي فُرض عليهم.
كما تُعد "مغامرات الجندي الشجاع شفيك" نصًا روائيًا يجمع بين البُنية التقليدية للرواية الواقعية، وتقنيات الأسلوب الكوميدي الساخر، مما يجعلها تُصنف في أدب العبث.
فهي تقدم تفاصيل دقيقة عن الحياة العسكرية والسياسية في الإمبراطورية النمساوية المجرية خلال الحرب العالمية الأولى، لكنها في الوقت نفسه تقوّض جديّة هذا العالم عبر سلسلة لا تنتهي من المواقف الكوميدية. وبهذا تخلق الرواية توازنًا بين التسجيل التاريخي والأسلوب الأدبي الكوميدي، كما تقدم شهادة حيةً على عصرها، مثلما تصبح أيضًا نقدًا يتجاوز حدود الزمن ليكشف عبثية الحروب في كل زمان ومكان.
إن قيمة هذه الرواية لا تكمن فقط في كونها وثيقة ساخرة عن الحرب العالمية الأولى، بل في قدرتها على أن تظل معاصرة حتى اليوم، لأن الحروب ما زالت تتكرر، والدوافع المرضية للساسة لم تتغير كثيرًا، وما زالت الشعوب تدفع ثمن نزوات الزعماء مثلما حدث قديمًا ويحدث في عدد من الحروب الحديثة التي دمرت وتُدمر الأوطان، وتُشرد الملايين باسم شعارات زائفة.
من هنا، تبدو شخصية شفيك وكأنها تعيش بيننا، تمشي في مخيمات اللاجئين في غزة، أو في أحياء المدن المدمرة في أوكرانيا، لتقول لنا بضحكة ساخرة إن الحرب ستظل أغبى ما اخترعته البشرية.
وبالنظر إلى البُعد الفني للرواية، يمكن القول إن هاشيك قدّم نموذجًا آخر للكوميديا السوداء في الأدب الحديث، قبل أن ينتشر هذا المفهوم على نطاق واسع في المسرح والسينما والأدب الغربي في النصف الثاني من القرن العشرين. الكوميديا السوداء هنا ليست مجرد تقنية جمالية، بل هي موقف فلسفي يرى أن مواجهة المأساة بالضحك قد تكون السبيل الوحيد للاحتفاظ بالإنسانية في زمن القسوة.
شفيك ليس بطلًا تقليديًا يحقق الانتصارات، أو يتحدى الأعداء، بل هو بطل ساخر يكشف أن البطولة الحقيقية تكمن في القدرة على الاحتفاظ بالقيم الإنسانيّة رغم كل ما من شأنه أن يحدث، وفي القدرة على الضحك حتى في اللحظات السوداء حين ينهار العالم ويتداعى بكل قيمه ومبادئه.
إن ياروسلاف هاشيك، بفضل هذه الرواية، لم يكتب فقط نصًا أدبيًا خالدًا، بل مَنح الأدب العالمي نموذجًا يبرز أن السخرية يمكن أن تكون أداة للمقاومة، وأن الضحك يمكن أن يكون أعمق وأجدى من البكاء، وأن النقد الأدبي لا يحتاج دائمًا إلى لغة خطابية خشبية، بل يمكن أن يتجسد من خلال شخصية تبدو تافهة وخفيفة الظل، لكنها أكثر حكمة من قادتها.
اختيار الكاتب التشيكي هاشيك أسلوب الكوميديا السوداء لنقد الإنسان والسلطة وكل المؤسسات الوضعية يُحيل إلى رائعة الكاتب الإسباني سرفانتس "دون كيشوت"، التي كُتبت قبل ذلك بكثير في القرن السادس عشر، ولعل هاشيك اطلع عليها، وهي التي تستعمل ذات الأسلوب في الكشف عن انحطاط السلطة وتدهور الأخلاق، كما يُحيل هذان العملان على تجربة الفنان والممثل الكبير شارلي شابلن التي انطلقت في فترة الحرب العالمية الأولى، وتواصلت حتى ثلاثينيات القرن العشرين.
وقد اختار شابلن الكتابة الكوميدية بلغة الجسد في السينما الصامتة التي كرّسها كفن له جمهور لم يندثر مع الزمن، بل لعله كَبُر ويكبر في ظل هذه الفوضى العارمة التي غمرت العالم حاليًا، وحوّلته إلى مجرد صورة بشعة على شاشة.
إنها رواية تكشف أنّ السخرية ممّا يحدث من عجائب غالبًا ما تكون أصدق من المواقف الجدية التي تزيد من تشنّج الانفعالات وتدمير النفوس، وأن الكوميديا السوداء هي أحيانًا الطريقة الأجدى للتعامل مع المأساة.