حلقات "نسوية" عن الروائية الإنجليزية جين أوستن وعائلتها
نشر بواسطة: mod1
السبت 27-09-2025
 
   
اندبندنت عربية-إبراهيم العريس

معالجة درامية تلفزيونية عن صاحبة "الكبرياء والعاطفة" من طريق شقيقتها

ملخص

اللافت أن العمل، المقروء والمصور، يتصدى هنا، وربما على خطى ما يفعل جورج برنارد شو في مسرحيته الشهيرة "بيغماليون"، لمسألة العلاقة بين المبدع والموديل الذي يخلقه في عمله، بقدر ما يتصدى للعلاقات العميقة بين الإخوة والأخوات، وربما على النقيض مما تصفه جين أوستن بنفسها في رواياتها التي تقوم أصلاً على تحري ما يختبئ عادة خلف تلك العلاقة.

خلال النصف الأول من هذا الشهر الجاري، كان التركيز الإبداعي على التلفزة في فرنسا منصباً، من خلال المحطة الثقافية التي لا تزال حتى الآن، وبعد مرور أكثر من ربع قرن على إنشائها، شراكة بين فرنسا وألمانيا، تعتبر الأكثر جدية وجمالاً ونخبوية في العالم، "آرتي"، على الكاتبة الإنجليزية جين أوستن التي نعرف على أية حال أن إبداع الأزمنة التي نعيشها لم يقصر في حقها أبداً. ولقد اتخذ هذا التركيز، هذه المرة، صورة أربع حلقات تلفزيونية من إنتاج التلفزة البريطانية، بثت تحت عنوان غريب بعض الشيء على بساطته هو "الآنسة أوستن".

ولعل ما يبرر بساطته هو أن الآنسة المقصودة في هذه الحلقات الأربع التي يتألف منها المسلسل ليست جين أوستن نفسها، بل شقيقتها كاساندرا. ولكن مهلاً هنا، إذ قبل أن يخيل إلى القارئ أن ثمة اكتشافاً أدبياً جديداً ومفاجئاً يحاول أن يخبرنا أن جين كانت لها شقيقة تعيش في الظل ثم جرى اكتشاف أنها كانت هي الأخرى ذات باع في الكتابة، نوضح أن المسلسل لا يقول أي شيء من هذا، فكاساندرا لم تكن كاتبة ولا مبدعة في أي مجال، كانت فقط أخت الكاتبة الكبيرة. كل ما في الأمر أن صناع المسلسل بدءاً من كاتبة النص الذي انطلق منه كما سنرى، وجدوا من الطريف، بل من الأمور ذات الدلالة، أن يتحروا حياة جين وأعمالها الروائية من خلال تلك الأخت بعدما قيل لنا كثيراً، في عشرات الكتب وعدد كبير من الأفلام والمسلسلات، عن صاحبة الروايات التي طبعت القرن الـ19، جاعلة من جين أوستن أبرز كاتبة إنجليزية في جيلها، إذاً هو أسلوب فني اتبعه هذا المسلسل، ويقيناً أنه نجح في تحقيق غايته منه.

نظرة خارجية حميمة، والحقيقة أن الغاية لم تكن تختلف عما سبق أن درست، ومن خلاله حياة صاحبة تلك الروايات التي يزداد التركيز على نسويتها وأبعادها الاجتماعية أكثر وأكثر، بعدما أمضت قرناً ونصف قرن تعتبر مجرد نصوص تقرأ بمتعة وتكشف عن جوانب عديدة من أخلاقيات المجتمعات الريفية والمدينية في الريف الإنجليزي القريب من العاصمة، كما في لندن وبعض المدن والدساكر الإنجليزية الأخرى، مساهمة في ذلك الأدب الذي سيقول عنه دارسو الحالة الروائية، إنه كان دائماً ذا مساهمات أساسية في بناء الذهنيات البريطانية، وتحديداً الذهنيات الإمبراطورية ولا سيما خلال القرون الأربعة أو الثلاثة الأخيرة.

ونعرف طبعاً أن النصف الثاني من القرن الـ20، وعلى ضوء تجذر الدراسات الاجتماعية لتطاول، بصورة خاصة، أدب المرأة في القرن الـ19، كما في حال "الأخوات برونتي" وجورج إليوت وحتى آن ريدكليف، وصولاً إلى جين أوستن، ولنكتشف كون جين أوستن، ومن دون أن تدري هي بذلك، على الأرجح، الأكثر تماشياً، بصورة مبكرة، مع "قوانين الأدب النسوي الإنجليزي"، كما صيغت منذ ستينيات وسبعينيات القرن الـ20 من طريق مناضلات باحثات أميركيات وإنجليزيات. واليوم بعد أن أشبع هذا التوجه بحثاً في استقاء مباشر، عبر السينما الروائية، بخاصة في أفلام أتت أمينة لنصوص الكاتبة، وبعدما تحولت هذه الأخيرة إلى واحدة من ظواهر الحياة الأدبية عبر مقروئية لم تكن متوقعة، ها هو قد بدا للتلفزة أن الوقت قد حان لتفحص تلك الظاهرة، من الداخل، أي انطلاقاً من الحميمية العائلية، وليس عبر ما يمكن أن تقوله جين أوستن عن نفسها، بل تحديداً عبر ما كان يمكن أن تقوله أختها كاساندرا عنها، وهي التي واكبتها وقرأت أعمالها باكراً، وكانت لها كما يبدو مواقف عدة منها سجلتها في مناقشات وسجالات وضروب عتب وخناقات، فهل ثمة مرجع موثوق تولى تسجيل ذلك كله وإيصاله إلينا؟

خيال روائي من الخارج على الإطلاق، ففي نهاية الأمر لم تترك كاساندرا، وهي بالطبع "الآنسة أوستن" المعنية في المسلسل الذي نحن في صدده، من النصوص أو حتى من اليوميات، ما كان من شأنه أن يسمح بتلك الإطلالة الحميمة على الحياة العائلية لشقيقتها المبدعة. كل ما في الأمر أن الحكاية، أو حكاية الحكاية هنا، هي حكاية الكاتبة جيل هورنباي التي يبدو أن فكرة أتتها، ذات يوم، وهي تمعن في قراءة نصوص جين أوستن وما كتب عنها، فكرة فحواها سؤال بسيط: ترى كيف كانت عائلة الكاتبة تنظر إليها وإلى أدبها؟ وفي غياب أية مرجعية في هذا المضمار يمكن العودة لها، وجدت هورنباي أن عليها هي، إن كانت حقاً في حاجة إلى الحصول على جواب، أن تعيد اختراع الشيء الجوهري، وبالتحديد إيجاد نص يقول لنا، ومن منطق افتراضي، كيف كان يمكن لتلك النظرة أن تبدو.

وهي لئن وقع اختيارها على كاساندرا فما ذلك إلا لأن ثمة تاريخاً ما يفيد بأنها كانت الأقرب إلى جين، أو لربما تكون هورنباي قد اخترعت هذا "الواقع" الافتراضي لزوم الرواية التي راحت، ومنذ عثرت على الفكرة، تكتبها لتحقق من النجاح ما جعلها تطبع مرات عديدة وتوزع بوفرة في البلدان القارئة بالإنجليزية وتترجم إلى لغات عديدة أخرى قبل أن تحصل على التتويج البصري في هذا المسلسل ذي الحلقات الأربع، الذي يعد في ختام حلقته الأخيرة بأن الحكاية لن تتوقف هنا، بمعنى أن ثمة "مواسم" أخرى ستتبع! ومن الواضح أن ما يهمنا هنا هو هذا الموسم الأول بالذات، والفكرة الطريفة، إنما المنطقية التي أطلقته رواية ثم مسلسلاً. إخوة وأخوات بالجملة، والحقيقة أن الدافع الأول الذي حدا بهورنباي إلى "اختراع" تلك النظرة، وكما ستقول بنفسها لاحقاً، هو امتلاء روايات جين أوستن بإخوة وأخوات تلعب العلاقات بينهم أدواراً أساسية في الحبكات الروائية للكاتبة. ففي "الكبرياء والهوى" لدينا الشقيقتان بينيت، ثم لدينا الشقيقتان الأخريان ماريان وإليانور داشوود في "العقل والعاطفة"، وإليانور تيلني وأخوها هنري في "نورثانغر آبي". وهذا ما يدفع إلى التساؤل: ترى أفلا يكشف لنا هذا الحضور المكثف للعلاقات الأخوية، التي تلعب ببعدها النسوي دوراً كبيراً جداً في صلب الحبكات الروائية، عن أهمية العلاقات القوية التي كانت جين أوستن تعيشها مع شقيقاتها وأشقائها أيضاً، وهي علاقات قد تقوم على التنافس وقد تنتهي بتضحيات ولا سيما في عالم الزيجات والعلاقات الغرامية وما شابه ذلك؟ والحقيقة أيضاً هي أن المنطق سيقول لنا إن جين أوستن، وبالنظر إلى ما هو معروف تاريخياً من عزلتها في حياتها العائلية، عزلة تحرمها من العثور على موديلات لرواياتها لدى الأقارب والجيران، كانت مضطرة على الدوام إلى أن تستقي تلك الموديلات في أجوائها العائلية، ومن هنا لن يكون غريباً أن يخبرنا المسلسل كيف أن كاساندرا نفسها كانت موديلاً ما لأدب أختها. وهذا ما كان يتسبب في خناقات تنتهي بالصلح بعد مقاطعة ويمتلئ بها المسلسل، لكننا غالباً ما نتلمسها من خلال نظرة كاساندرا لا نظرة جين نفسها إليها، وهو على أية حال، البعد الأكثر طرافة وجدة في النص الروائي، كما في المسلسل الذي غالباً ما يقف في صف كاساندرا، على خطى ما تفعل الرواية على أية حال، معطياً إياها الحق الطبيعي في أن تقف بالمرصاد لأية إساءة قد ترصدها في توصيف أختها للشخصيات المستعارة منها.

واللافت أن العمل، المقروء والمصور، يتصدى هنا، وربما على خطى ما يفعل جورج برنارد شو في مسرحيته الشهيرة "بيغماليون"، لمسألة العلاقة بين المبدع والموديل الذي يخلقه في عمله، بقدر ما يتصدى للعلاقات العميقة بين الإخوة والأخوات، وربما على النقيض مما تصفه جين أوستن بنفسها في رواياتها، التي تقوم أصلاً على تحري ما يختبئ عادة خلف تلك العلاقة. ولا شك في أن نجاح المسلسل في هذين البعدين يجعل منه عملاً في غاية العمق، ويفسر جزءاً كبيراً من أسباب النجاح الجماهيري، إنما النخبوي الذي حققه حتى اليوم.

باحث وكاتب

 
   
 



 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced