لم تعد قاعات المحاكم في العراق مجرد فضاء لإبرام عقود الزواج أو تسجيل حالات الطلاق، بل تحولت في السنوات الأخيرة إلى مرآة تعكس حجم التحديات الاجتماعية والقانونية والاقتصادية التي تهدد استقرار الأسرة. ومع كل إحصائية جديدة عن ارتفاع معدلات الانفصال، تتزايد الأسئلة حول جدوى تعديلات قانون الأحوال الشخصية، ودور القضاء، وتأثير الضغوط المعيشية على العلاقات الزوجية.
واطّلعت “المدى” على آخر إحصائية كشف عنها مجلس القضاء الأعلى حول حالات الطلاق في العراق، حيث أشار إلى أن إجمالي حالات الطلاق لشهر آب الماضي بلغ 6214 حالة.
وحلّ قضاء الكرخ في المرتبة الأولى من حيث عدد حالات الطلاق بـ1225 حالة، تلته الرصافة بـ1139 حالة، ثم محافظة البصرة بـ636 حالة.
قالت الناشطة الحقوقية إسراء سلمان إن تعديل قانون الأحوال الشخصية في العراق أفرز تداعيات خطيرة على حقوق النساء واستقرار المجتمع، مؤكدة أن الإحصاءات الرسمية بعد التعديل لم تعد تتضمن بيانات أساسية تتعلق بظاهرتين مهمتين: الزواج خارج المحاكم الذي يُعقد غالباً للقاصرات عند رجال الدين، والطلاق الخارجي الذي يجري من دون موافقة الزوجة. واعتبرت أن اختفاء هاتين الإحصاءتين من السجلات الرسمية يوحي وكأن هذه الممارسات لم تعد موجودة، في حين أن القانون الجديد لم يجرّمها، بل فتح المجال أمامها من دون رادع.
وأضافت سلمان لـ”المدى” أن “التعديل على القانون، الذي رُوّج له من قبل بعض النواب والجهات المؤيدة على أنه خطوة لتقليل نسب الطلاق، ساهم عملياً في زيادة حالات الطلاق”، موضحة أن الادعاءات التي قدّمها المؤيدون لم تكن منطقية أو قانونية، لأن الطلاق في العراق ما يزال بيد الزوج حصراً، باستثناء حالات التفريق القضائي للضرر، وهو بدوره متوقف أو معطَّل في كثير من الأحيان.
وأشارت إلى أن المحاكم اليوم تواجه أزمة حقيقية، إذ أصبح القضاة يترددون في اتخاذ قراراتهم مباشرة، ويلجؤون إلى الاستشارة الدينية قبل البت في القضايا المتعلقة بالزواج والطلاق، الأمر الذي أدى إلى إضعاف سلطة القضاء والقانون على حد وصفها.
وتابعت، أن نتائج هذا التعديل لم تتوقف عند حدود الطلاق، بل أدت إلى ارتفاع حالات زواج القاصرات، وزيادة تفكك المجتمع، وتوسيع الهوّة بين مكوناته الاجتماعية والطائفية. كما لفتت إلى أن القانون سمح بقدر من التلاعب بأثر رجعي في بعض القضايا، على الرغم من أن نصوصه لا تمتد بطبيعتها إلى الماضي، وهو ما عدّه الناشطون تجاوزاً خطيراً على مسار العدالة ومكتسبات عقود طويلة.
وبحسب سلمان، فإن الغاية الوحيدة التي سعى إليها المشرّعون من وراء التعديل هي “الحد من الطلاق”، لكن الواقع أثبت العكس تماماً، إذ استمرت الحالات بالارتفاع مقابل تعقيد أوضاع النساء وزيادة هشاشة المجتمع.
غياب الحماية القانونية!
ذكرت الناشطة النسوية مرح إياد أن ارتفاع نسب الطلاق في العراق لم يعد مجرد قضية أسرية بين زوجين، بل أصبح انعكاساً واضحاً لخلل اجتماعي وقانوني عميق. وأوضحت في حديثها لـ”المدى” أن الأسباب الشائعة مثل “عدم التفاهم أو الخلافات العادية” ليست كافية لتفسير الظاهرة، مشيرة إلى أن المشاكل الاقتصادية وارتفاع نسب الفقر والبطالة تضيف ضغوطاً هائلة على الأسر، وتحوّل الخلافات اليومية إلى أسباب مباشرة للانفصال.
وأضافت: “غياب الأمان القانوني للمرأة، وضعف الحماية القضائية، والتدخل الديني في شؤون الأسرة، كلها عوامل تجعل الزواج هشّاً منذ بدايته، والطلاق غالباً النتيجة الطبيعية وليس الاستثناء”.
وأكدت إياد أن مواجهة هذه الظاهرة لا تكون بسن قوانين إضافية تزيد القيود أو تُعقّد الحياة الأسرية، بل عبر تعديلات قانونية حقيقية تنظم المشاكل الاجتماعية، وتحمي الأسرة، وتضمن حقوق النساء. وتابعت: “المجتمع بحاجة إلى إصلاح تشريعي متكامل يعيد الثقة بالمؤسسات القضائية، ويضع ضوابط واضحة للزواج والطلاق، ويخفف الضغوط الاقتصادية على الأسر، بدلاً من ترك الفجوات القانونية تتحكم في حياتهم اليومية”.
وتابعت بالقول: “إذا أردنا فعلاً مواجهة الظاهرة، فعلينا أن نقرأ الطلاق لا كفشل أفراد، بل كرسالة واضحة بأن المجتمع بحاجة إلى إعادة صياغة عقده الاجتماعي والقانوني من الأساس”.
ضعف السلطة القضائية!
وقال الخبير القانوني مصطفى البياتي إن أسباب ارتفاع معدلات الطلاق في العراق لا يمكن اختزالها بعامل واحد، بل هي نتيجة تداخل اجتماعي واقتصادي وتشريعي معقد. وأوضح أن الضائقة المعيشية وانعدام فرص العمل يعدّان من أبرز الدوافع، حيث “تحوّل الخلافات المالية اليومية إلى شرارة سريعة لانهيار الحياة الزوجية”.
وأضاف لـ”المدى” أن “التغيرات الاجتماعية، مثل ضعف الوعي الأسري، وضغط العادات، وانتشار الزواج المبكر، تجعل الكثير من الزيجات هشّة منذ بدايتها، في حين تظل النساء الطرف الأضعف في مواجهة الطلاق بسبب محدودية حقوقهن القانونية وصعوبة الوصول إلى الحماية القضائية”.
وأشار البياتي إلى أن القانون نفسه يمثل سبباً غير مباشر، فبعض الثغرات والتعديلات الأخيرة على قانون الأحوال الشخصية شجّعت على الطلاق الخارجي، وزادت من تعقيد إجراءات التفريق القضائي، ما جعل الطلاق في كثير من الأحيان قراراً أحادياً بيد الزوج، من دون ضوابط كافية لحماية الأسرة.
وبيّن أن التدخل الديني في مسار المحاكم “أضعف سلطة القضاء وأوجد تبايناً في تطبيق القوانين، الأمر الذي يربك المتقاضين ويطيل أمد النزاعات”. وأكد أن هذه العوامل مجتمعة أدت إلى أن يصبح الطلاق اليوم “ليس مجرد مشكلة أسرية، بل ظاهرة اجتماعية تكشف تصدّع البنية القانونية والاقتصادية والثقافية للمجتمع”.
وأضاف قائلاً: “مواجهة هذه الظاهرة تتطلب معالجة جذرية تبدأ من إصلاح التشريعات، وتمكين المرأة، ونشر الوعي الأسري، وتخفيف الضغوط الاقتصادية، وصولاً إلى إعادة الاعتبار لسلطة القضاء باعتباره الضامن الوحيد لحقوق جميع الأطراف”.