أفلام عربية وعالمية ترسخ الهوية الفنية للمرأة وتحية إلى نساء غزة
ملخص
بعد خمسة أعوام من تأسيسه، يواصل مهرجان "بعيونهن – Regards de Femmes" ترسيخ مكانته كأحد أبرز المواعيد الثقافية في تونس، مخصصاً برامجه بالكامل للسينما التي تحمل توقيع المخرجات والكاتبات والمنتجات.
تقام الدورة السادسة من المهرجان السينمائي في نابل التونسية من الـ11 إلى الـ15 من أكتوبر (تشرين الأول) الجاري، تحت شعار "إنا هنا باقيات وباقون"، شعار مستلهم من قصيدة الشاعر الفلسطيني توفيق زياد، مما يؤكد أن السينما مساحة للصمود وذاكرة للمستقبل. يعيد المهرجان تأكيد رهانه الأساس، جعل الكاميرا وسيلة تعبير بعيون النساء، ومختبراً يعكس تعدد الرؤى والزوايا التي قد تغيب عن السينما السائدة.
لم يعد حضور المرأة في السينما مجرد مسألة رمزية أو مطلب حقوقي، بل أصبح مسألة جمالية ومعرفية أيضاً، وهذا ما يسعى المهرجان إلى تكريسه، من خلال فتح مساحة لأعمال تحمل بصمات مبدعات من تونس والعالم العربي وأوروبا وأفريقيا. هكذا يتحول "بعيونهن" إلى منصة للتبادل الثقافي، حيث تتجاور قصص وتجارب نسائية في تنوعها وتناقضها، وتعيد صياغة الأسئلة التي تطرحها مجتمعاتنا حول الحرية والذاكرة والهوية.
استمرارية الذاكرة
تأتي دورة هذا العام لتؤكد البعد التأسيسي الذي ميز المهرجان منذ انطلاقه، من خلال مسابقة رسمية مخصصة للأفلام القصيرة التي لا تتجاوز مدتها 30 دقيقة، شرط أن تكون من إنتاج ما بعد ديسمبر (كانون الأول) 2023. هذه الصيغة الصارمة لا تقرأ فقط كإطار تنظيمي، بل كخيار جمالي يفتح الباب أمام مخرجات شابات لضخ دماء جديدة وإبراز رؤاهن في فضاء دولي يتسع للتجريب والتجديد.
لا تكتفي البرمجة بعرض الأعمال، بل تذهب أبعد عبر إقامة فنية موجهة لمخرجات عربيات لتطوير مشاريعهن الروائية أو الوثائقية. هذه الإقامة تتجاوز الجانب التقني البحت، لتتحول إلى مختبر جماعي يتيح صقل النصوص السينمائية وتبادل الخبرات مع مهنيين في الإخراج والإنتاج والكتابة، وبذلك يصبح المهرجان شريكاً في صناعة مشاريع المستقبل، لا مجرد واجهة لعرض منجزات سابقة.
هذا التوجه وجد جذوره في الدورة الخامسة التي قدمت مزيجاً غنياً من الأفلام القادمة من تونس ولبنان والمغرب وفرنسا، وطرحت قضايا الذاكرة والمنفى والهوية. وأفسح المجال حينها لبرامج موازية مكنت مخرجات شابات من النقاش المباشر مع الجمهور، في لحظة أثبتت أن السينما النسائية لم تعد استثناءً عابراً، بل باتت جزءاً متجذراً في المشهد السينمائي المتوسطي والعالمي.
من هذه الاستمرارية تنبثق دورة 2025، بحيث لا تبنى البرمجة من فراغ، بل من ذاكرة قريبة عززت مكانة "بعيونهن" كتظاهرة ثقافية راسخة في الأجندة التونسية، وكمختبر سينمائي يربط بين الماضي القريب وما يصاغ من آفاق جديدة.
فلسطين في قلب الدورة السادسة
هذا العام يتخذ المهرجان من فلسطين مركزاً روحياً ومعنوياً لدورته، في إهداء مباشر إلى نساء غزة اللاتي يجسدن بمعاناتهن اليومية معنى البقاء في وجه الإبادة. إعلان المهرجان جاء واضحاً "نهدي هذه الدورة إلى فلسطين، وإلى نضالات نساء غزة اللاتي يمنحن أجسادهن وأصواتهن معنى البقاء في وجه المحو".
الانفتاح على التجارب الدولية والانغراس في محيطه التونسي، فهو من جهة يفتح فضاءه لمبدعات من أوروبا وأفريقيا والعالم العربي ليعرضن رؤاهن وقصصهن، ومن جهة أخرى يشرك جمعيات ثقافية محلية وطلبة مدارس السينما في ورشاته وأنشطته، هذه الازدواجية تمنح المهرجان بعداً مزدوجاً: عالمياً في الرؤية، ومحلياً في الأثر.
ولا يقتصر الأمر على العروض السينمائية، بل يمتد إلى طبيعة المواضيع التي تطرقها الأفلام المشاركة، إذ تتناول قضايا راهنة كالعنف ضد النساء، والحرية الفردية، والهجرة، والذاكرة الجماعية، لكن بقوالب بصرية مبتكرة تكسر المباشرة التقليدية وتفتح أفقاً جديداً للتلقي، بذلك لا يصبح حضور المرأة مجرد فعل احتجاجي، بل مساحة للإبداع وإعادة صياغة الحدود الجمالية للسرد السينمائي.
ويوفر المهرجان ورشات تدريبية موجهة للشابات للتعرف إلى آليات إنتاج الأفلام وتوزيعها في سوق عالمية شديدة التنافس، فضلاً عن جلسات نقاش تجمع المخرجات والنقاد والجمهور في حوار مفتوح حول السينما النسائية وإمكاناتها. هذا الجانب التكويني يعزز دور المهرجان كمنصة لا تكتفي بعرض الأفلام، بل تسهم في صناعة جيل جديد من المبدعات.
بعد خمسة أعوام من التراكم والخبرة المتزايدة، يبدو أن مهرجان "بعيونهن" لم يعد مجرد حدث احتفالي، بل يتحول تدريجاً إلى منصة إقليمية مرجعية للسينما النسائية. لم يعد دوره يقتصر على عرض الأفلام النسائية أو تكريم المخرجات، بل أصبح يسهم بصورة فعالة في إعادة رسم خريطة السينما النسائية في المنطقة. التوسع في المشاركة الدولية، الذي شهد انضمام أفلام من دول عربية وأوروبية وأفريقية، يتيح للمهرجان أن يصبح ملتقى لتلاقح الأفكار والاتجاهات السينمائية، حيث تتبادل المخرجات التجارب وتقنيات السرد ووجهات النظر المختلفة حول قضايا النساء في المجتمع.
إضافة إلى ذلك يعكس تكامل البرنامج بين العروض والمسابقات والإقامات الفنية رؤية استراتيجية للمهرجان، تتجاوز مجرد الاحتفاء بالمنجز نحو الاستثمار في صنع المستقبل. الإقامات الفنية، على سبيل المثال، توفر للمخرجات فرصاً لتطوير مشاريع جديدة، والالتقاء باختصاصيين دوليين، وبناء شبكات مهنية تساعدهن على توسيع دائرة إنتاجهن وعرض أعمالهن على مستوى أوسع، أما المسابقات فهي لا تقتصر على منح الجوائز، بل تشكل منصة لتقييم التجارب، وتبادل النقد البناء، والتعرف إلى أشكال سرد جديدة تواكب التحولات الاجتماعية والثقافية.
في هذا السياق يمكن القول إن "بعيونهن" يسهم في صناعة ما يمكن تسميته "مساراً مهنياً مستداماً" للسينما النسائية، حيث يربط بين الإبداع والاحتراف، وبين المحلية والانفتاح الدولي. ومع مرور الأعوام، ومع اتساع شبكة الشراكات والفعاليات، يصبح المهرجان نقطة محورية في الإقليم لتطوير صناعة السينما النسائية، وتأكيد حضورها الفني والفكري على الساحة العالمية، بما يعكس دور الفن في تحريك النقاشات الاجتماعية وتمكين الأصوات النسائية من صناعة الأفلام.
كاتب تونسي