"الكتب تعتني بنا": العلاج بالقراءة
نشر بواسطة: mod1
الأربعاء 08-10-2025
 
   
ضفة ثالثة- بوعلام رمضاني

عرفت الباحثة النفسانية والروائية ريجين دوتامبيل في عزِّ جائحةِ كورونا، بينما كنت محجورًا في بيتي بباريس. يومها، كنت مُنكبًّا على تحرير كتابي "أنوار في ليل كورونا"، الذي احتوى مقالًا عن النداء غير المسبوق، والذي وجَّهته إلى الممثلين والممثلات والطلبة والصحافيين. كان ذلك في إطار مشروعِ تأسيس شبكة "كورونا قُراء"، التي أرادت من خلالها قراءة رواياتٍ عبر الهاتف على المسنين القابعين في بيوتهم، وخاصة على الذين يُعانون من ضعف البصر.

هذه السيدة الاستثنائية تعودُ اليوم إلى صدارةِ الأحداث الثقافية بكتابٍ صغير الحجم، كبير المعاني والدلالات، في زمن تراجعت فيه القراءة التقليدية التي خلدتها، في كتابها "الكتب تعتني بنا: من أجل مكتبة علاجية إبداعية"، والصادر عن دار "أكت سود" في سلسلة "بابل" لكتب الجيب. الكتاب العميق فكريًا واللذيذ أدبيًا، والبسيط تعبيريًا، يقع في 149 صفحة من القطع الصغير، ويتوجه إلى الفئات الاجتماعية والعمرية كافة، ليُبين كيف يُمكن مُعالجة أنفسنا بدنيًا ونفسيًا بالقراءة التي تنفعُ الإنسان صحيًا لحظة لمسه صفحاتِ ورقة تُحدث تطهيرًا ينسيه كل أنواع الآلام، ولو مؤقتًا، ناهيك عن تزويده بالمعرفة المتعددة الأنواع التي يجنيها من القراءة بتحويل الكتاب إلى صديق مطلق وأبدي.

الكتب التي تعتني بنا

في مقدمة كلها تشويق، تدفعنا الكاتبة إلى قراءة ما يُثبت صحة طرحها العلمي، والذي يثبت أن أطباء في دول أنغلوساكسونية يكتبون في الوصفة عناوين كتبٍ لمرضى يعانون من الانهيار البدني والنفسي. الكتاب لا يعالج الأمراض العضوية حتمًا حسب الكاتبة ريجين، لكنه يلعب دورًا حاسمًا في تخفيف الآلام على مرضى يَدخلون في علاقة روحية مع أبطال روايات بديعة، ومع أحداثٍ ترمي بهم في عالم يتركهم يُسافرون وهم على كراسيهم، أو على أسرتهم. الكتب التي تعتني بالمرضى وبغير المرضى، هي الكتبُ التي ليست لها علاقة بموضوع كتاب المؤلفة، وبكتبٍ عالج أصحابها كيفياتِ تأثيرِ القراءة على الناس بالشكل الذي يُنقذ كثيرًا منهم من بئس المصير، كما جاء في المقدمة، وفي متن الكتاب، من خلال شهادات كتاب كلاسيكيين تركوا بصماتهم في تاريخ الكتابة، وآخرين معاصرين أكدوا صحة ما جاء به الأوائل.

استندت الكاتبة ريجين على عشرات الكتب البحثية والروايات والدواوين الشعرية والمقولات والشهادات التي تثبت صحة الدور العلاجي للقراءة في علاقة الجسم بالنفس والعقل. من بين الكتب التي لاقت رواجًا كبيرًا قبل أخرى قديمة "قصة قراءة" لألبيرتو منغويل، الذي صدر عن دار "أكت سود" أيضًا، و"القراءة تُعالج" لمارك آلان واغنين، الذي رأى أن القراءة أعلى الحركات الروحية، و"المتعة الشعرية والمتعة العضلية" لأندري سبير، الذي أكد أن القراءة تؤثر إيجابيًا على الجسد، وأنها ليست نشاطًا فكريًا ساكنًا ومحضًا.

الكاتبة دنيال سالناف اهتمت هي الأخرى بسلطة الكتاب وقوته العلاجية بوجه عام، وبالرواية والشعر بوجه خاص، وميشيل بيكار الذي جمع نصوصَ مُلتقى "كيف يؤثر الأدب فينا" في كتاب، ولوييز أل لمبريكس، التي أكدت قدرة الأدب على علاج الآلام، ومارييل ماسي التي اشتغلت على كيفيات تأثير القراءة على حياتنا اليومية بالشكل الذي يضمن أرقى أنواع الوجود.

القارئ للكتاب يلاحظ أن المؤلفة ريجين اعتمدت في كثير من الأحيان على اسم بارز في مجال تخصصها، ألا وهي الباحثة الأنتروبولوجية البارزة ميشيل بوتيه. كتبت هذه الباحثة عام 2002 "مديح القراءةِ" عن بناءَ النفس ذاتيًا، و"فنُّ القراءة"، وهو الكتابُ الذي راج بفعل قدرة الكاتبة على تأكيدِ الدور العلاجي للكتابِ بدرجة علمية أقوى من تلك جاءت في الكتب المذكورة.

القراءةُ كسلاحٍ في الحياة

"لم يكن في إمكاني الوقوع في الحب لولا قراءتي رواية ’بحثًا عن الزمن المفقود’" لمارسيل بروست"- إنها شهادة المحللة النفسية كاترين مييه، وهي الشهادة التي افتتحت بها المؤلفة ريجين مقالها الأول في الكتاب، لتؤكد كيف تُصبح القراءة سلاحًا ضد الشقاء في حياة الإنسان، وضمانةً للسعادة التي لا تُقدر بثمن. والقراءة كسلاح في الحياة، حقيقةٌ عزَّزتها المؤلفة بشهادات فرانسوا دو لاروشفوكو، وأندريه جيد، وسادي باترسون دولاني، وأكدت هذه الأخيرة شفاء المُحاربين الذين شاركوا في الحرب العالمية الأولى من الانهيار النفسي بفضل القراءة.

والقراءة التي أصبح يعالج بها الأطباء هواجس واضطرابات المرضى النفسية في البلدان الأنغلوساكسونية قبل فرنسا، أضحت حقيقة علمية شامخة من خلال شهادات قديمة جاءت قبل عقود في كتاب "الأغذية الأرضية" لأندريه جيد، وهو من الكتبِ التي نصحَ بقراءتها المحلل النفساني موريس كوركوس، والأمرُ نفسه ينطبقُ على كتاب "في مواجهة الظلمات" لوليام ستيرون.

القراءة كدواء علاجي كانت موضوع دكتوراة بيار أندريه بونيه عام 2012، بعد أن استطلع آراء 500 شخص عانوا من الانهيارِ النفسي، وكثيرٍ من هؤلاء أكدوا أن روايات البرازيلي الشهير باولو كويلو، صاحب رائعة "الكيميائي"، قد ساهمت في تغييرِ مزاجهم وتحسين نفسياتهم، وبفضل هذا الكتاب لم يكونوا وحدهم. العظيم مونتسكيو قال من جهته لتأكيد فضل القراءة على الإنسان: "ساعة من القراءة تَقضي على كل أشجاني". أما المحلل النفساني النمساوي الشهير سيغموند فرويد فقال: "سبقني دائمًا شاعر إلى القيام بعملي". السعادة التي تضمنها القراءة تنتجُ عن لمس ورق الكتب التي يجدُ المرضى فيها أنفسهم. وبحسب الطبيب والروائي الأميركي مارتان وينكلر، الذي عمل في كلية الطب بكنساس سيتي في ميسوري، فإن قراءة أعمال كثير من الروائيين قد أكدت صحَّة قُدرة القراءة على معالجة القراء نفسيًا، ومن الذين أوصى بقراءة أعمالهم "خورخي لويس بورخيس، أنطون تشيخوف، مرغريت أتوود، بابلو نيرودا، آرثر كونان دويل، فضلًا عن أسماء أطباء كتاب معروفين في فرنسا".

القراءة كحياة جديدة

"كوليت" اعتذرت لزوجها الثاني، ولم تلتحق به بسبب رعايتها نبتة "الصبار" إثر كتابتها "ولادة اليوم"، وهو الكتابُ الذي "أجبرها" على التضحية بحب رجل: "كان عليَّ أن أعيشَ أو أموتَ من دون أن تُصبح حياتي، أو يصبح موتي، وقفًا على حبٍّ".

الكتابة مثل القراءة، وهما وجهان لعملة واحدة، والأثرُ العلاجي الذي تُحدثه الأولى، هو نفسه الأثر الذي تحدثه القراءة كما تبين من خلال "كوليت"، ولا انفصال بينهما ما دام الأمر مستحيلًا، والذي لا يقرأ، لا يُمكن أن يكتب، والفعل العلاجي حاضر في الحالتين حسب المؤلفة ريجين دوتامبيل، لأنهُما يُشكلان حياة جديدة تتجاوز المعاناة النفسية المرتبطة في كثير من الأحيان بالمعاناة الجسدية.

تستطرد المؤلفة في الفصول اللاحقة (16)، وتتجرأ على القول بأن القراءة أقوى من العذابِ في أحيان كثيرة، مستشهدة بقول والدٍ فقد ابنه إثر قراءته تحفة الكاتبة الكبيرة مرغريت دوراس "سد ضد المحيط"، وكتَبَ الوالد الذي كاد أن ينتحر: "لم أقتل نفسي، لأنَّني وقعْتُ على هذا الكتاب مُصادفة". فيليب فوريست الروائي قال الشيء نفسه إثر وفاة ابنته بعد قراءته روايات الياباني أوييه الذي تخصص في الكتابة عن حب الوالد للأبناء، وتجاوز فوريست مأساة فُقدان ابنته بدرسِ الكاتب الياباني الذي تأثر بابنه الذي ولد معوقًا. فوريست الذي يرفض أن يُصبح الكتابَ حارسًا طبيًا، أخذ العبرة رغم أنفه من الياباني الذي لقَّنه درسَ تجاوز الحِداد بغرض التشبث بالحياة التي توزع الشقاء على الجميع من دون استثناء.

من أرقى أنواع الأدب المعالج نفسيًا الشعر، وهو ما أكدت عليه المؤلفة في فصل "الشعر كعلاج"، وهو الشعر الذي دفع مؤخرًا بشاعرة فرنسية إلى فتح عيادة في ضاحية باريسية لتعالج بالشعر، الأمر الذي اقتنصه كاتب هذه السطور كموضوع صحافي لاحق.

الشاعر الألماني الكبير غوته عالج نفسه شعريًا في سن الرابعة والسبعين، إثر وقوعه في انهيار نفسي بعد أن رفض والدا عشيقَته ارتباطها به، ولجأ إلى قراءة أبياتِ الشِّعر التي من شأنها التخفيف من ألمِ أمثاله، ومن بينها بيت: "ماذا لو يُسكت الإنسانُ ألمه، إله منحني هذه السلطة التي تسمح لي بالتعبير عن عذابي". ومن الكتب المؤهلة لتخفيف آلام المنهارين نفسيًا، حسب الكاتبة: كورناي، وراسين، وبوالو، ولا فونتين، وفيكتور هوغو، ولامارتين، وبودلير، وفيرلان، وروستان.

شهرزاد الطبيبة

كما كان متوقعًا (وفعلت ذلك مُجبرة وغير مُخيرة في تقديرنا)، وقفت المؤلفة ريجين دوتامبيل عند "ألف ليلة وليلة"، الكتاب البديع الفارسي الهندي، وغير الأوروبي، لتأكيد قدرة الكتاب على العلاج النفسي كما مر معنا، من خلال الأمثلة التي اقتصرت على الكتاب الأوروبيين. بعد أن عَرَّجَت على أرسطو، وبول ريكور، وستندال، وجان ماري لوكليزيو، لتعميق قُدرة الشعر على تطهير النفوس من الآلام الموجعة، أفردت المؤلفة فصلًا للكتاب الذي أوصت بقراءته أيضًا في عز جائحة كورونا، والذي أوصى بقراءته أيضًا الصحافي الجزائري توفيق حاكم من خلال حصة إذاعية بثتها قناة "فرانس كلتور (فرنسا الثقافة)" على الجمهور المحجور. تحت عنوان "الاستماع إلى شهرزاد"، راحت المؤلفة تُثبت أن شهرزاد لعبت دور الطبيبة النفسية في "ألف ليلة وليلة"، بسردها الحكايات التي كان ينتظرها على أحر من الجمر شهريار الذي تألم وجُنَّ جُنونه بعد تأكده من خيانة زوجته مع عبد زنجي. قتلها وقتل العبد، وتحوّل إلى أسير في يد شهرزاد التي كان ينتظر قصصها قبل طلوع الفجر ساعة إعدامه جارية عذراء كما كان يُفترض.

شهريار الذي أصبح غير قادر على النوم بعد أن استولى عليه الأرق، عالج هوسه المرضي وحقده بصوت شهرزاد التي فوَّتت عليه فُرصة إعدام العشيقات العذارى. شهرزاد الساردة الرائعة منحته الحُلم والنسيان، وقضت على ضغينته بتجسيدِها مقولة بول ريكور: "فهم نصٍّ يعني فهم النفس أمامه". استمع شهريار إلى حكايات شهرزاد فاستمع إلى نفسه من خلال صوتها الشجي. شهرزاد بحسب صاحب كتاب "القراءة علاج": "كانت مُحرّرة شهريار بفكرها الوقاد من الماضي القريب الأليم، ومفتاح باب مستقبل صحي أفضل".

 
   
 



 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced