كثير من العراقيين الذين يعتزون بانتمائهم وبهويتهم الوطنية، يملؤهم الأمل في أن يتعافى العراق سريعا وأن يعود إلى وضعه الطبيعي كبلد فاعل ومؤثر في محيطه، والكثير أيضا يؤمن أننا شعب حي وصاحب حضارة عريقة تمتد لآلاف السنين، وكأن ما أنجزه الأولون حجاب يمنع عنا الانزلاق في مهالك التدهور، والكثير منا أيضا حفظ عبارات مدرسية فيها من الضبابية الشيء الكثير- العراق أول من عرف القراءة والكتابة،
وأول من سن القوانين- وهذه بالتأكيد حقائق لا يمكن نكرانها، أما ضبابيتها فتأتي من أنها: هل تتحدث هذه العبارات عنا نحن العراقيين الحاليين كأحفاد لأولئك المتحضرين في أزمانهم، أم عن الذين سكنوا هذه الأرض قديما، قبل أن يأتي أجدادنا الحقيقيون بعدهم فيمسخوا تلك الحضارات، وهذا الأمر ينطبق أيضا على المصريين أصحاب الحضارة الفرعونية، فالعراقيون الأوائل بنوا الجنائن المعلقة، فيما بنى المصريون الأهرامات وهذه وتلك من عجائب الدنيا السبع التي حيرت الكثيرين وما زالت الأسئلة قائمة مثلا عن كيفية بنائها في ذلك الزمان وبإمكانات وعقول غير معروفة ولكنها مذهله.
ومهما تكن الإجابة، رغم أنها حسب معرفتي، لا علاقة لنا بها نحن الذين نعيش على أرض العراق الآن وكذلك المصريين، إلا أن الحضارات تصنعها الشعوب وليس العكس، والعالم اليوم مليء بالشواهد، وأميركا أقوى دليل حي، شعب خليط وحديث التكوين لا يزيد عمره على أربعة قرون، ولكنه أنشأ حضارة غيرت مجرى التاريخ، ومازالت ، تؤثر بقدر أكبر مما تتأثر هي بالآخرين، أما نحن فكجزء من العرب لم نتمكن من بناء حضارة قوية بقدر ما استطعنا أن نبني ذات يوم دولة قوية، ولم يكن بناؤها آنذاك قائماً على أسس قومية بل كان على أسس دينية، ولهذا السبب لم يطلق عليها وعلى ما أنجزته بالحضارة العربية بل وضعت تاريخيا تحت خانة الحضارة الإسلامية، فلم تكن تلك الدولة عربية بالمعنى القومي وإن كان مؤسسوها الأوائل (الأمويون والعباسيون) عرباً من قريش، ولكن التاريخ ليس هو من يحسم فاعلية الشعوب وحقيقتها وقدرتها على التفاعل والفعل والإنتاج، فإسرائيل مثلا، شعب مكون من مهاجرين لا يجمعهم سوى الانتماء الديني كشكل ظاهر، ولكن المصالح هي الدافع الحقيقي لتضامنهم وتقدمهم، مثلهم مثل استراليا التي لا تملك أي مقومات قومية، فشعبها أيضا مهاجرون من مختلف بقاع العالم، ولكنهم جميعا متضامنون بدوافع المصالح وفق نظام اجتماعي عادل يحقق للفرد كرامته وحريته ويضمن مستقبله، ناهيك عن المثال الأعلى في هذا الجانب وهو المجتمع الأميركي.. وإلى جوارنا تقع تركيا، التي نسفت تاريخها الإسلامي كله فجأة بعد الحرب العالمية الأولى واستطاعت بفضل رجل واحد أن تنتمي إلى العالم الحديث وأن تصبح دولة قوية متحركة وفاعلة، فـ (كمال أتاتورك) الذي نظر إليه المتشددون الإسلاميون مطلع القرن الماضي كخائن للإسلام حين أمر بتحييد الدين وتقييد تعليمه وتتريك العبادات وتحديدها دون منعها بشكل تام، وجد أن الحل الوحيد لدولة متعددة المذاهب والأديان والقوميات هو في جعل نقاط الخلاف مسائل ثانوية أمام عجلة التقدم والنمو لذلك فقد ألغى كل القوانين الإسلامية واتجه إلى القوانين السويسرية والايطالية والألمانية، حتى اللغة جعلها بالأحرف اللاتينية كي يزيد من وشائج الاتصال بالغرب وبالمجتمع الأوروبي المجاور له، ونقل إلى تركيا تقاليد وثقافة أوروبا وفنونها وموسيقاها. وتاريخ العراق الحديث يشير إلى أن سياسيين عراقيين عديدين ممن عاصروا كمال أتاتورك وتأثروا به، حاولوا أن ينقلوا تجربته إلى العراق غير أنهم لم يكونوا بذلك القدر الكافي من التأثير ومن الشعبية لتحظى خطواتهم تلك بالنجاح، إضافة إلى أن تمسك العراقيين بدينهم وتقاليدهم أقوى وأعمق من تمسك الأتراك، فماتت أحلام أولئك السياسيين وضاعت على العراق أيضا فرصة أن يبني دولة حديثة أسوة بالشعب التركي المجاور الذي لم يفقد بالنتيجة دينه خصوصا وأن العراق كان يعيش وضعا سياسيا متقدما على المنطقة آنذاك.. وعلى أية حال فلسنا الشعب الوحيد الذي يتألف من قوميات ومذاهب وطوائف متعددة، ولكننا الشعب الوحيد الذي يسعى إلى نقاط الخلاف أكثر من سعيه إلى نقاط التضامن والتآلف، وقدراتنا على افتعال الأزمات وخلق العقبات حيوية إلى درجة أننا نجد لكل خلاف مبررات معقولة، ومرتكزات تأخذ أبعادا اجتماعية وقانونية والى حد ما دستورية كما يحلو للبعض أن يردد هذه الأيام.. فالعرب السنة كانوا إلى وقت قريب من أشد الناس تمسكا بوحدة العراق، وأكثرهم دفاعا عن هويته وكانوا أيضا يتهمون من يسعى أو يدعوا إلى إقامة الأقاليم بالخيانة أو العمالة وغير ذلك ويعتبرون الدعوات إلى إقامة إقليم في الجنوب مؤامرة وكارثة تهدد البلاد.. إلا أنهم اليوم أشد العراقيين اندفاعا نحو أقلمة البلاد وتقسيمها بحجج أقواها أن الدستور يضمن للمحافظات هذه الحقوق، متناسين أنهم لم يكونوا مقتنعين بالدستور ولم يكونوا من الذين صوتوا لصالحه، غير أنهم اليوم يتمسكون به ولا يعتبرون توجههم لإقامة إقليم مؤامرة أو خيانة كما كانوا يصفونها، في نفس الوقت فإنهم غير مدركين أن إقامة إقليم للمحافظات السنية ستخلق قاعدة منطقية وقانونية وسياسية لإقامة إقليم للمحافظات الشيعية وتنتهي وحدة البلاد ويصبح العراق الواحد في خبر كان.
لقد انتهى زمن الأيديولوجيات، وولى عصر الأفكار الثورية، وأثبتت الأفكار القومية العربية خطأها بالدعوة لوحدة بين شعوب لا تملك مقومات التماسك، ولكن العالم اليوم يعيش زمن المصالح، سواء مصالح فردية أو جماعية، ولذلك فان الجميع يعمل على قاعدة ما يفيد يجب الحفاظ عليه وتقويته وتنميته وما يضر يجب تجاوزه وإغفاله، وبهذه الطريقة تقدمت المجتمعات ونمت وأصبح لها ثقلها وتأثيرها الحضاري دون أن يكون لبعض منها إرث حضاري أو إنجاز مسجل كعجائب الدنيا السبع، ولكننا للأسف مازلنا نستند إلى تاريخ ولى وربما لا نمتلكه أصلا، ونخلط بين كل هذه الأشياء، أما سلوك الكثير من السياسيين والقادة الاجتماعيين فهو سلوك منافق فحديثهم لا ينطبق مع أفعالهم ومصالحهم الشخصية تقودهم وتدفعهم وإن اقتضى الأمر تدمير البلاد وتعطيل حركة المجتمع نحو الانسجام والتقدم والنمو.. ولا اعتقد أن أحدا منهم يستطيع أن ينكر مستوى الفساد الذي اغرقوا البلاد فيه، ولا يستطيع أي منهم كذلك أن ينكر أن مشاكلنا السياسية لم ولن تحل إلا بتدخل أجنبي يضمن مصالح الأطراف المتدخلة وليس مصلحة العراق أو بصفقات غير شريفة بين الأطراف السياسية الفاعلة غالبا ما يكون الشعب العراقي هو الضحية لها وهو في النهاية من يدفع الثمن سواء بدماء أبنائه أو مستقبل أجياله أو بثرواته المهدورة أصلا والتي اختطفت أخيرا لتكون مصرف جيب للصوص ممن امتهنوا السياسية بطابع طائفي.. متى إذن يمكننا أن نفكر كما يفكر الآخرون الذين تقدموا وأنجزوا حضارتهم حين اكتشفوا ما يجمعهم ويضمن انسجامهم واستمرار وجودهم وليس عما يفرقهم ويدمر كيانهم ويؤخرهم ويعرقل تطلعاتهم؟
 كاتب وإعلامي عراقي مقيم في أستراليا
كتب بتأريخ : السبت 19-11-2011
عدد القراء : 1816
عدد التعليقات : 0