العملية السياسية وغياب المشروع الوطني العراقي
بقلم : جرجيس كوليزادة
العودة الى صفحة المقالات

تأزم المشهد السياسي العراقي خلق فرصة جديدة لعودة الارهاب بعملياته الانتحارية الى ساحات بغداد المكشوفة والمكتظة بالمدنيين العزل لتفتك بأرواح المئات من الابرياء بين شهيد ومصاب وجريح، والغريب في الامر سرعة نقل فعل الخلاف السياسي بين قائمة العراقية وتحالف دولة القانون وبين رئيس الوزراء نوري المالكي ونائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي ونائب رئيس الوزراء صالح المطلك



والتي لم تتجاوز ثمانية وأربعين ساعة الى فعل إرهابي كبير الحجم مستهدفا مدنيين عراقيين بالمئات في شوارع وساحات العاصمة بغداد التي فقدت معنى كلمة السلام المرافقة لها في الادبيات السياسية منذ استيلاء البعث المباد على الحكم بعد مقتل الزعيم عبدالكريم قاسم.
والمؤلم فيما نشهده على مسار العملية السياسية التي اخذت طريقها بعد سقوط صنم الاستبداد وانتهاء بالخلاف السياسي المستعصي الراهن بين المالكي وكتلته وعلاوي وقائمته، هو افتقار المسار الى مشروع عراقي وطني لخدمة العراقيين واخراجهم من حالة الأزمات الحياتية والسياسية والاجتماعية التي يعيشونها في العهد الجديد، وهي نفس الحالة التي عاشها العراقيون بغياب المشروع الوطني في العقود الماضية في ظل أنظمة الحكم المتعددة التي توالت على حكم العراق منذ القضاء على العهد الملكي. وعند العودة الى ذاكرة العراق الحديث، نجد ان الانظمة التي استولت على كرسي الحكم، ابتداء من أول حكومة في العهد الملكي وانتهاء بحكومة ونظام المعدوم صدام حسين، لم تسر ولم تنتهج اي مشروع وطني جدي لارساء اسس مؤسساتية في ادارة الدولة العراقية، وبالرغم من رفعها شعارات وخطابات وبرامج حزبية مبرمجة الا انها في جوهرها كانت فارغة من الجهد الوطني لخدمة العراق وامته، وبقدر ما كانت النزعة الفردية مسيطرة على مسار الحكم لم تكن النزعة الوطنية دافعا للافعال والاعمال التي قامت بها تلك الأنظمة، ولهذا لم يثمر مسار ادارة الدولة العراقية الحديثة منذ تأسيسها بعد الحرب العالمية الاولى ولحد الآن عن ولادة قائد وطني حكيم ولا قيادة حكيمة لإيصال العراق الى بر الأمان. والمشكلة الجوهرية منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة، ان العراق تم تأسيسه بتخطيط وجهد بريطاني من ثلاثة مكونات غير متشابهة في خصائص حياتها وحضورها ووجودها، وخاصة الجمع بين مكونين لهما مذهبان مختلفان يمتد خلافهما الى أكثر من الف سنة وهما المكونان السني والشيعي، وفوق هذا جمع الاحتلال الانكليزي بين مكونين قوميين لهما خصائص قومية مختلفة كل الاختلاف عن الآخر وهما العرب والكرد، والمؤلم ان الجمع بين هذه المكونات لم تكن على اسس وطنية عراقية بحتة بل كانت تلبية لمصالح اقليمية ودولة استعمارية، ولهذا نجد ومن خلال الجمع بين هذه التناقضات المذهبية والقومية ان العراق صنع من الاساس لكي يتربع على حقول مشحونة باستمرار بالخلافات، وما ساعد على تعميق هذه التناقضات وتواصل الخلافات هو سياسة الانكار التي انتهجتها انظمة الحكم التي توالت على سدة الحكم في بغداد تجاه أحد المكونات الأساسية للوجود العراقي.  والمؤسف ان نشهد بعد مرور تسعين عاما على تأسيس الدولة العراقية الحديثة عودة الواقع العراقي لنقل مظاهر نفس الخلافات المتناقضة السابقة الى المشهد السياسي وبسخونة شديدة لتتحكم باتجاهات الكيانات السياسية التي تولدت من خلال الانتخابات البرلمانية في عهد ما بعد سقوط النظام المباد والتي اتفقت فيما بينها على توزيع الامتيازات والمصالح بطريقة التوافق السياسي ودون الاعتماد والاتفاق على اسس وطنية لاصلاح الوضع العام في العراق، والمواطن الذي يعيش تحت أزمة متواصلة من عقود طوال لم يجد شيئا جديدا ولا تغييرا ملموسا ولا جهدا جديا من قبل الكيانات التي تتحكم بالمشهد السياسي العراقي وخاصة تحالف دولة القانون والقائمة العراقية، وبقي الانسان على حاله في العهد الجديد هدفا غير رئيسي كما كان في الأنظمة السابقة بسبب غياب المشروع العراقي الوطني.
ولكن ما يميز الواقع الجديد ان الصراع السياسي بدأ ينحصر في مكونين رئيسيين هما تحالف دولة القانون الذي يمثل أغلب الكيانات الحزبية والتيارات الشيعية والقائمة العراقية التي تضم أغلب الكيانات الحزبية والتيارات السنية، ولهما اغلبية برلمانية تقارب تسعين مقعدا وبفارق مقعدين بين الكتلتين في البرلمان، والاحداث التي مرت بها الساحة العراقية بعد الاستفتاء على الدستور الدائم عام الفين وخمسة والانتخابات البرلمانية الثانية اثبتت ان المكونين السياسيين الرئيسيين في المشهد الراهن لم يرسما برنامجيهما على أساس المشروع العراقي الوطني، وكذلك الحال بالنسبة لبقية الكتل والاحزاب السياسية العراقية، والكل يعلم لولا مبادرة الكرد توازيا مع الجهد الأمريكي لما تولدت حكومة الشراكة الحالية برئاسة نوري المالكي التي جمعت بين جميع الكتل البرلمانية في مجلس النواب وفق استحقاقاتها الانتخابية.
وفي ظل الواقع الذي يمر به العراق في المشهد الراهن، نجد ان الاوضاع السياسية بدأت بالتدهور وبتسارع شديد بعد عودة رئيس الحكومة نوري المالكي من واشنطن بثوب جديد وقلب جامد ليضع القائمة العراقية برئاسة اياد علاوي امام خيارات صعبة وطرق حرجة لم يترك امامها مجالا للمناورة فاختارت قائمة المكون السني تعليق مشاركتها في مجلس النواب والحكومة الاتحادية لتضع العملية السياسية والشراكة في الحكم امام طريق مجهول تاركة تحالف المكون الشيعي امام واقع مفاجئ لم يتوقعه بهذا التعاقب السريع للاحداث والمواقف، وبهذا الخيار وجه المالكي ضربة قوية الى العراقية، ولكن من حقنا ان نسأل الرجل الاول في حزب الدعوة هل حسب هذه الضربة الموجعة بدقة ومنطق سياسي يراعي مجمل الحسابات العراقية والاقليمية والدولية ؟
وكما يبدو من الاحداث ان العصا والضربة القاضية التي ضرب بها المالكي قائمة علاوي هي ملف الارهاب، وبهذا العمل كشف المستور عن أول خبايا الواقع الرهيب الذي عاشه العراق منذ سقوط صنم الاستبداد، واستند رئيس الوزراء في ضربته الموجعة للعراقية الى تحقيقات قضائية حول عمليات ارهابية شهدتها الساحة في الفترة الاخيرة ومنها تفجير البرلمان العراقي الذي اعتبر خرقا كبيرا للطوق الامني المحيط بالبرلمان وبرئاسته، والتحقيق الذي اجري عن هذا العمل الارهابي كان القشة التي قصمت ظهر البعير لقائمة علاوي، وكان القطرة الساحرة في بودق التفاعلات التي كشفت بواطن الامور حول الشكوك التي احيطت ببعض قيادات العراقية ومنهم طارق الهاشمي ورافع العيساوي وصالح المطلك، وما اعلن من اعترافات على الفضائية الحكومية عن اشراف الهاشمي على مجموعة عمليات ارهابية شكلت صدمة كبيرة للمتابعين ولمجرى العملية السياسية في العراق.
والمعروف ان مبادرة الطاولة المستديرة لرئيس اقليم كردستان مسعود بارزاني لعبت دورها في انفراج ازمة البرلمان الجديد وتشكيل الحكومة العراقية بعد انتخابات الفين وتسعة، ودخول العملية السياسية في مسار متواصل، والاتفاق الذي توصل اليه القادة شكل انجازا سياسيا كبيرا لتحديد حاضر العراق، ولكنه بمرور الوقت تعرض الاتفاق الى مصاعب وخلافات متواصلة تطورت بالأخير الى أزمات قائمة ومستمرة بين قائمة العراقية وتحالف دولة القانون، وتوجت الازمة بالصدمة السياسية الانفجارية التي عقبت عملية التفجير الارهابية في مجلس النواب، فانطلقت شرارة أزمة عميقة وخطيرة على الساحة العراقية نتج عنها تعليق جلسات البرلمان والحكومة التي شكلت بمشاركة جميع الكتل البرلمانية.
وهذا يعني تعرض العملية السياسية لادارة الدولة العراقية الى اخفاق شديد، ويتبين من هذا الاخفاق الكبير والشرخ العميق ان القيادات العراقية مازالت بعيدة كل البعد عن الوصول الى مخرج وطني لوضع ارضية متينة لحل الخلافات والقضاء على الازمات السياسية وتفعيل حكومة المشاركة للبدء بالبناء والاعمار والتنمية وتوفير الخدمات والاصلاح لخلق واقع جديد للعراقيين يأخذ طريقه الى الساحة السياسية من خلال مساهمة عامة وفاعلة لكل القوى والاحزاب للتعامل مع الاحداث والوقائع العراقية بموضوعية وواقعية ومسؤولية وطنية.
والحقيقة المؤلمة ان مشاركة الاطراف السياسية بالارهاب غير محصورة بطرف معين بل هي تشمل أطرافا عديدة في الواقع العراقي الذي حصل بعد احتلاله من قبل القوات الامريكية، ودفع المالكي لحصر تهمة الارهاب بجهات ممثلة للمكون السني من خلال اتهام الهاشمي وبعض القيادات في العراقية عملية خطيرة جدا ولعبة نار شديدة الاحتراق لحاضر ومستقبل العراق، لان حصر هذا الاتهام بجهة معينة لا يعني براءة الجهات الاخرى ومنها بعض القيادات والاطراف المحسوبة على المكون الشيعي من واقع العنف الدموي الذي حصل في العراق، وان كانت هنالك تحقيقات قضائية على شخصيات معينة فمن الأجدر للحكومة والمالكي والجهات القضائية اجراؤها على جميع الشخصيات الحزبية والقيادية المشكوك بها في الكيانات السياسية الممثلة للمكونين الشيعي والسني. والأمر الجديد في المعادلة السياسية الراهنة في العراق هو الزيارة التي قام بها رئيس الحكومة الى الولايات المتحدة الامريكية، وما نجده في هذه الزيارة بعد عودته ان مالكي اليوم ليس مالكي الغد، بدليل ضربة الصدمة التي وجهها الى القائمة العراقية لاحتوائها وتثبيت سياسة السيطرة المطلقة لرئيس الوزراء على امور الدولة، ولكن هل يعقل ان تجري سفينة القيادة بما يشتهيه المالكي، لاشك ان الايام الاتية ستجيب على هذا السؤال. ولكن توزايا مع الاحداث الجارية لابد من تبني رؤية سياسية وطنية حاسمة من قبل القادة لاخراج العراق وانقاذه من أزمته الراهنة الخطيرة والشبيهة ببركان على وشك الانفجار لاحراق البلد وتعرض العراقيين الى عواقب لا يحمد عقباها، وبسبب التأزم الحاصل بين المالكي وعلاي، فلا مفر من تدخل الرئيسين جلال طالباني ومسعود بارزاني للقيام بدور الوسيط والقيام بمهام عاجلة لانقاذ العراق من الازمة السياسية الخطيرة التي وقع فيها، ودفع الطرفين المتأزمين القائمة العراقية وتحالف دولة القانون الى المصالحة السياسية وتبني رؤية موزونة لتبنيها من قبل قيادات الكتل السياسية لضرورات سياسية عاجلة يمر بها الواقع العراقي، رؤية اساسها المنطق ودافعها الواقعية للاعتماد عليها كخارطة طريق لتفعيل العملية السياسية والانطلاق بحكومة الشراكة وفق منظور وطني لحماية الامة العراقية من الانزلاقات السياسية التي تشهدها الساحة، والانتقال بواقعها الى مرحلة جديدة قادرة على تلبية الاحتياجات الحقيقية للعراقيين أمنيا وحياتيا وانسانيا واقتصاديا واجتماعيا.
وبهذا الصدد واستنادا الى القراءة السياسية التي ذهبنا اليها نطرح رؤية سياسية لاطلاق بادرة عراقية وطنية لحل الازمة الراهنة، وهي تتضمن ما يأتي:
اولا: حصر المضاعفات الناتجة عن قضية اتهام طارق الهاشمي وحمايته ومكتبه بالارهاب واحتوائها وتفريغها من المضمون السياسي وحصرها بالجانب القضائي من باب الضرورات العراقية الوطنية والحكمة والمنطق السليم.
ثانيا: تبني عقد مؤتمر عاجل بين قيادات الكتل والاطراف السياسية لرسم نموذج سياسي جديد في ادارة الدولة العراقية باشتراك كل الكتل وبقيادة قادرة على تبني مشروع وطني لمراعاة مصالح كافة المكونات السياسية التي حصلت على مقاعدها البرلمانية من خلال استحقاقاتها الانتخابية.
ثالثا: تأكيد جميع القوائم والكتل على الالتزام بمواد الدستور الدائم والاستناد اليها بشكل حاسم لحل الخلافات، والتعهد بعدم ايصال حالات اختلاف الموقف الى أزمة مستعصية بعيدة عن الحل.
رابعا: حل جميع الخلافات العالقة بين حكومة اقليم كردستان والحكومة الاتحادية في بغداد.
خامسا: تحديد برنامج عمل جديد وفعال للحكومة يستلهم اسسه من المعاناة والمشاكل والازمات الحياتية والمعيشية التي يعانيها منها العراقييون.
واستنادا الى هذه المبادرة، نكمل رؤيتنا المتواضعة بخصوص طرح معالجة جذرية للأزمات السياسية والحياتية والامنية والاجتماعية التي يعانيها منها العراق، ولضمان هذه المعالجة نطرح الأسس العامة لمشروع عراقي وطني لتبنيه من قبل القائمة العراقية وتحالف دولة القانون والتحالف الكردستاني ومن قبل الكيانات التي لها حضور فعال على الساحة السياسية العراقية، والأسس هي:
أولا: الالتزام التام بالدستور الدائم باعتباره الوثيقة الشرعية المدونة التي اتفق عليها الغالبية العظمى من العراقيين، والقناعة الكاملة بالمواد الواردة فيه وفصل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية بحد فاصل وحازم لمنع التدخلات فيما بينها.
ثانيا: المواطن هو الاساس والهدف الأول للدولة العراقية بسلطاتها الدستورية ومؤسساتها المدنية والعسكرية وبغض النظر عن القومية والدين والمذهب واللون والجنس.
ثالثا: الالتزام الكامل بنتائج الانتخابات المبنية على النزاهة والشفافية وتشكيل الحكومة الوطنية على اساس ما تفرزها اصوات الناخبين العراقيين.
رابعا: التزام الدولة وفق الاستحقاقات الدستورية بضمان حرية الفرد في الفكر والعقيدة والدين، وإبعاد الحكومة عن الممارسات ذات الطابع المذهبي.
خامسا: تنمية وانماء الانسان العراقي هدف استراتيجي للدولة والحكومة مع ضمان كل السبل والوسائل لتحقيقه. باختصار، هذه الرؤية السياسية المتواضعة المطروحة نرجو تبنيها من قبل الكيانات السياسية لدراستها وتعديلها حسب الضرورات الوطنية للخروج بمشروع وطني عراقي وطني لحل الأزمة القائمة وحصر مضاعفاتها الخطيرة، ونأمل الأخذ بها وهي نابعة من واقع العملية السياسية التي تمرّ بها البلاد لضمان برنامج سياسي وطني فعال وقادر على ضمان البيئة السليمة للم شمل العراقيين بجميع مكوناتهم السياسية والقومية والدينية والمذهبية للانطلاق بالعمل الجاد لإنقاذ العراق.
كاتب صحفي – كردستان العراق
المداخلة التي ألقيت في ندوة جريدة المدى في اربيل بعنوان " الانسحاب الاميركي من العراق .. آفاق المستقبل "

  كتب بتأريخ :  الإثنين 26-12-2011     عدد القراء :  1844       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced