إمرأة من نقيع الرازقي
بقلم : فيحاء السامرائي
العودة الى صفحة المقالات

يفوح بهاؤها ويذيع صيتها في مدينتنا الوديعة، أمدّ رأسي الصغير بفضول من خلف ظهر أمي، أتطلع اليها...يقارب شبَه ملحوظ، بينها وبين فنانة مصرية محبوبة، كما كان يشاع...تقول أمي عنها بزهو: هاهي إمرأة من مدينتي تعمل مثلي، العمل يا ابنتي للمرأة، عبادة...تغبطها إمرأة وتتحسر: لوعندي جرأة كافية أو زوج متعلم متفهم، أو حتى أخ يساندني لكنت اليوم مثلها...تستهجن أخرى أَنوف بترفع: عشنا وشفنا نساءً يشتغلن غير شغل البيت، وزد على ذلك، يقحمن أنفسهن في السياسة، ماذا تركن للرجال إذاً؟...أفكّرُ بحزم وثبات: حينما أكبر، أصبح مثلها ومثل أمي.
في ظهيرة عراقية فارهة، تنمو الى تثاؤب وقيلولة، أقتربُ بوجل وتهيب من دارها...يبدو البيت الكبير شائخاً منكمشاً ، كما بيوت عراقية كثيرة، تقطعت أوصالها ناساً وأرضاً، تفرعنت وتفرّعت منها ملاحق وبنايات صغيرة تابعة، يسكن فيها إبن أو مستأجر...يغدو ما بقي منه جدراناً وأبواباً لاغير، وشاهداً هرماً يلوذ بذاكرةِ لوعة وأحجارِ دمع، يتكأ بمهابة على جسم زمن جسيم، كان يضجّ بمشاغل وتفاصيل يومية لعائلة، وجَلَبة لأولاد وبنات، يفتح ذراعيه لمناكداتهم وضحكاتهم ودموعهم وأسرارهم وتطلعاتهم، تجمعهم مائدة ومودّة واحدة، وتُحصنّهم حصافة أب، وضمة صدر أمّ...يتناثرون اليوم في دروب حياة متطلبة، بعضهم في أصقاع عالم شاسع، يغلّفون ماض يبهت ويكاد ينطفيء، بأوراق تذكر مزركشة وأشتياق عاجز. 
من الباب، في حديقة ابتلعت تربتها شمساً عراقية، وعافتها حمائم وبلابل وعصافير...أبصرُها...قصيرة، ضئيلة، تناهز التسعين، منكفأة على حنفية ماء الحديقة، تغسل ثوباً لها...أدنو منها، أتلمسها بأنامل قلبي، فيضطرم موقدُ توقٍ ما خبا.
تتسع وجنتان رحبتان لخالة (فَطَم) بابتسامة سخيّة، تقدّم لي شاياً، وكعكة عملتها بيدها...تؤكد مفعمة الحيوية بوثوق:
- تمارين تقوية الذاكرة والحركة الدؤوب، سرّ سلامتي الذهنية ونشاطي البدني.
نرقى باتساق نحو سماء حكايات ملوّنة...تتحدث عن انخراطها في العمل النسوي وفي رابطة المرأة العراقية، عن صور لها مع زعيم أول جمهورية عراقية، عن اختمار عجين ثقافتها بتأثير زوجها رفيقها، وأخته صديقتها، عن دفء أجواء تسود العراق آنذاك، عن عملها و حرفتها، عن تربية نموذجية لأولاد وبنات تفتخر بهم، عن مواقف شجاعة لها، عن دور للمرأة في المجتمع آمنت به وسعت لتفعيله، عن ذاكرة نحاسية تحتفظ  بها لأصل وسيرة عائلتي...تنهض للمطبخ محملّة بشعور التقصير عن ضيافة عراقية أصيلة، تزيح غطاءً عن قدر دولمة فوق مدفأة (علاء الدين)، تفتح الثلاجة، تناولني عصيراً، أرحل معها في صور، كتب، أثاث، تاريخ، تراث، حياة  مرّت بالأمس من هنا...تبتسم، لا تأبه كثيراً بأمراض شيخوخة أو تتذمر...تعلن بجذل عازمة:
- أظن حان الوقت لكتابة مذكراتي، إيماني بعظَمة الحياة وبأس الانسان، لا ينضب، رغم كل الظروف.
يا سيدةً مُنيفةً، تحمل رحم قمح وزنابق الى السحاب، فيهطل رحيقاً وسنابل، ويخضّر خبزاً وبراعماً، على زمن جفاف ومجاعة حلّت بنفوس بشر...أنحني إجلالاً لجلالك، وتنحني لك رسالات سماوية وروائح مسك وسلالات نخيل وجذور ثيّل ومغزى ماء وملح أرض وبريق نياشين وأبّهة جوائز وقصائد حب وإيثار شموع...ننحني كلنا لياقوت قدميك، ولفضّة شعرك، وليدين من ذهب، حملتِ بها طفلاً ورسالة سرمدية للبشرية...لكِ طول عمر وعافية، وسجدات من أسمى الكلمات.
أودّع  إمرأةً منقوعة بماء القلب والرازقي، متوهجة الوجدان، ساطعة الذاكرة، ينخفض مساءٌ مرصّع بنجوم نحوها...
يحييّها.

  كتب بتأريخ :  الأحد 08-04-2012     عدد القراء :  1953       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced