ملفّ "الهوية الوطنية في مهبّ الهويات الصغرى" .. حتى لا تنتحر الحضارة
بقلم : نادية الآلوسي
العودة الى صفحة المقالات


تقع على عاتق المثقف العراقي الحرّ مسؤولية كبيرة لأن عليه مخاطبة الجمهور بطريقة تفكّ عنه القيود المكبّلة لفكره وتساعده على التحرر من ضغوط العشيرة والطائفة. وحتى يعود طريق الحرير يمر عبر بغداد مزهراً بالثراء المعرفي والرخاء ليحمل خطى العراقيين إلى أرض المستقبل .



لم نكد نفيق من صدمة الاجتياح العسكري الأميركي للعراق الذي أسقط واحدة من أعتى الدكتاتوريات في العالم المعاصر، حتى وجدنا أنفسنا وسط مشهد ملتبس الخطوط حافل بصور مشوشة معالمها طغى القاتم من ألوانها على المشرق والمبهج منها .
  لقد تناول العراقيون جرعة الحرية دفعة واحدة بعد حرمان طويل وما تحقق نتيجة التحول المرتبك نحو النظام الديمقراطي سبب صدمة أخرى لا قل في حجمها عن صدمة التحرر من الدكتاتورية . وليست الصدمة في أن ما تحقق لم يكن بمستوى طموح العراقيين ، فذلك مفهوم لكون الديمقراطية عملية تراكمية تحتاج  إلى زمن وممارسة لتنمو وترسخ ، لكنها في الفوضى وحجم الخراب الذي اجتاح معظم مدن العراق ولم يكن متوقعا ، وتمثل في عدة أوجه أشدها خطورة الانقسامات الإثنية والمذهبية وتشتت الهوية العراقية إلى هويات فرعية ، ولم يعد الانتماء إلى الوطن يوازي في أهميته وثقله  الانتماء إلى القومية أو العشيرة أو الطائفة .
  إن سرعة تفتت هوية الأمة العراقية الكبرى إلى هويات فرعية صغرى إثنية وطائفية تقابل مقدار الكبت والقهر الذي عاناه الشعب العراقي طوال ما يزيد على أربعة عقود من الاستبداد والتسلط من قبل أنظمة حاكمة مختلفة . فالنظم الاستبدادية  في العراق بمساعدة السلطة الدينية خلقت على مدى تلك العقود جيلا مغيب العقل والإرادة لا يرى مرغما إلا ما تراه هاتان السلطتان.
  وسواء كان التفتّت الذي أصاب الهوية العراقية الكبرى بفعل عوامل خارجية أم داخلية، بنوايا مبيتة أم فرضتها الهزة الكبيرة التي ضربت المجتمع العراقي بعد تحرره ، فهو مشروع سياسي دائم ولا شأن له بالمشروع الثقافي للمجتمع. فالأمة العراقية طالما كانت وحدة متماسكة فريدة ومتميزة لكونها ضمت تحت جناحيها تنوعا بشريا وثقافيا جميلا وخلاقا صنع في ماضيه حضارة أصيلة نشأت في ميزوبوتاميا، بين النهرين، وانفتحت إلى العالم متفاعلة مع الحضارات الأخرى ومؤثرة فيها . وهناك تمازج لغوي بين العراقيين دون أن يعني انتماؤهم إلى قومية واحدة ودوما كانت الوسطية الدينية هي نهجهم ، والتناغم في الطبائع يدل على أن حضارة العراق قائمة على أسس ثقافية غير شوفينية ، ولم تفلح الاجتياحات الثقافية على مر العصور في التأثير الفاعل سلبا على هذه الخصائص المميزة.
  لكن الأنظمة الحاكمة والأيديولوجيات السياسية والدينية تدخلت في تحديد هوية المجتمع ، وكانت حتمية سيادة القومية العربية التي همشت القوميات الأخرى وساندت أيديولوجية دينية على حساب ايدولوجيا مغايرة ، ثم قسر الأفراد على أن يذوبوا في كيان واحد تحت مسمى الهوية الوطنية أسبابا مباشرة في تدمير الذات الفردية وبحث الفرد عن هوية له بديلة . فالفرد مسلوب الإرادة والذي لا يقيم على أساس ثقافته وعلمه وإبداعه تضعف شخصيته ويفقد إحساسه بقيمة عقله ويتملكه هاجس الخوف وسط مجتمعه فيندفع إلى عشيرته أو طائفته باحثا عن القوة التي تحمي ضعفه . لكن الانتماء للعشيرة أو الطائفة لهذه الأسباب زاد الفرد ضعفاً وتغييباً لعقله بسبب الضغوط التي يتعرض لها لكي لا يتميز خارجهما.
والإنسان بمجرد انخراطه في الجمهور بهذه الطريقة يهبط إلى درجة أدنى وتتلاشى شخصيته وتمتص الجماعة نشاطه الفكري ويتحول إلى فرد غريزي وربما همجي وتصبح تصرفاته عفوية وأحيانا عدائية.
وساهمت الحرية المكتسبة بعد إسقاط النظام الدكتاتوري في إطلاق كل ذلك وساهم في تغذيته إفلاس الأحزاب السياسية كثيرة العدد وخلوها من أفكار مستقبلية لبناء الدولة العراقية المدنية، فتعكزت الأحزاب القومية على الهوية القومية والدينية على الهوية المذهبية.
لقيت هذه الأحزاب استجابة واسعة ضمنت لها النجاح في الانتخابات لأن الاستعداد لدى الأفراد كان قائماً، وصار أقوى لأنه حقق لكثير من المؤيدين مكاسب مادية كبيرة لن يتم التخلي عنها بسهولة .
  لكن الدولة المدنية لكي تقوم وتقوى تحتاج إلى مجتمع سليم يتمتع الفرد فيه بشخصية قوية وعقل مستنير قادر على التفكير والخلق ، لأن العقل هو الذي يشكل الهوية الحقيقية للفرد واستمرار تغييب العقل بهذه الصورة يعني أن حضارتنا تنتحر. وعلى عاتق المثقف العراقي الحر تقع مسؤولية كبيرة ومعركته شرسة. لأن عليه مخاطبة الجمهور بطريقة تفك عنه القيود المكبلة لفكره ويساعده على التحرر من ضغوط العشيرة والطائفة التي لا تريد تحريره لأنها تقوى به.
  ويجب أن يكون المثقف هو المبادر الأول بأية طريقة ولا ينتظر المبادرة من أحد، لكن بالممارسة وليس بالخطاب الموجه فقط. الاندماج مع الناس، توظيف الدراما بشكل يعيد الشخصية العراقية الأصيلة، تجنب المجاملات في مناسبات ثقافية تكرس أبعاداً طائفية وإثنية. الفنان المسرحي جندي مهم في هذه المعركة الصعبة، فمسرح الشارع يمكن أن يوظف بصبر ليجذب اهتمام العامة، الموسيقى العراقية الأصيلة والمتميزة أين اختفت؟
لا يجب أن ينتظر المثقف أن يقوم السياسي بدور ما  لتخليص العراق من محنة تشتت الهوية ، فالسياسي يعمل بقدر ما تمليه عليه مصلحته وما يراه في ساحته ولن يكون لديه خيال مطلق التفكير مثلما المثقف الذي يعايش هموم مجتمعه وينظر إلى مصير وطنه بعين لا يمتلك نظرتها السياسي . ما على السياسي فقط هو  العمل على تأسيس دولة المواطنة التي تساوي بين جميع مكونات الوطن الواحد تحت مظلة قانون عادل ومحترم .
وحتى لو كان المثقف يميل إلى تأييد جهة سياسية معينة وله مطلق الحرية في ذلك، فإن عليه أن يكون فاعلاً داخلها بطريقة تصحح مسارها إذا رأى المثقف أن السياسيّ يحيد عن الصواب.
المهمة صعبة والطريق طويل وشائك ومهما طال الزمن ومهما كانت الاستجابة لجهد المثقف بطيئة، فإن الغاية تستحق الجهد والمحاولة، ولا بأس إن كانت عودة إلى الوراء وليتها تكون إلى الوراء الميزوبوتامي، ولكن عودة من أجل أن نبدأ من جديد ونحرق كل مرحلة هادمة لبناء الإنسان العراقي الجديد، إنسان المستقبل.

  كتب بتأريخ :  الثلاثاء 17-04-2012     عدد القراء :  1761       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced