أم الشهيد
بقلم : سلام عبود
العودة الى صفحة المقالات

تحت هذه السماء الموحشة، التي نبذتها الملائكة، كان أكثر ما يقلق ”أم الشهيد” هو أن تكون حقا قد أصيبت بالجنون. كانت أم ماجد الزاير،”أم الشهيد”، جالسة كعادتها في أحد أركان حديقة مستشفى الأمراض العقلية. وهو الركن الذي اعتادت أن تجلس فيه وحيدة، ساكنة، باكية، كئيبة الروح، عازفة عن كل شيء. عازفة عن ملاقاة البشر، بعد أن قضت الفترة الأولى من دخولها مستشفى الأمراض العقلية تشرح للجميع، لمن هب ودب، لمن تعرفه أو لا تعرفه، لمن يريد أو لا يريد، تشرح لهم كيف أنها شاهدت ابنها الشهيد حيا، وأنهم ألقوا بها هنا كرها لكي يمنعوها من لقائه. كانوا دائما يستمعون اليها مبتسمين بإشفاق، فــ "الشهداء لا يعودون الى الحياة، وإن عادوا فإن ذلك لا يحدث إلا في الحلم أو في أخيلة المجانين...". وحينما أفضت ”أم الشهيد” بكل آلامها للجميع، من أطباء وممرضين ومستخدمين وزوار، لم يتبق لديها سوى نزلاء المستشفى من المرضى. ولم يوقفها إدراكها التام بأنهم لا يعقلون من أن تفضي اليهم بمكنوناتها. كانت ”أم طالب” هي آخر من اعتادت الحديث اليه. و”أم طالب” هي أكثر المرضى وداعة وغرابة، المرأة التي لا تعرف سوى شيئين وحيدين: الابتسام والقياس. فقد اعتادت ”أم طالب” أن تنزل من سريرها كلما أتيحت لها الفرصة، لتبدأ بقياس الجدران، فاردة أصابع كفها الخمس، مبتدئة من حيث تجلس، متجهة ­ دائما ­ نحو بوابة المستشفى الحديدية الكبيرة. وفي فترات الاستراحة تبدي ”أم طالب” نشاطا مضاعفاً، حيث يتاح لها أن تقيس كل المسافات المؤدية الى البوابة الرئيسية. وهنا ­ في البوابة ­ ينتظرها دائما حراس المستشفى الغلاظ، ولكن لا يجرؤ أحد منهم على المساس بوداعتها، أو حرمانها من متعة القياس. حتى أكثر الحراس غلظة لم يكن يفعل إلا ما كان الجميع يفعله معها: يوقفونها بصمت وهدوء، ثم يديرون اتجاه جسدها وجهة جديدة، فتنطلق في هذا الاتجاه، واضعة كفها المفتوحة على كل سياج أو جدار تمر به. كانت ”أم طالب” أكثر الجميع حضورا في هذا المستشفى الكبير. وربما كان أكثر ما يميزها، ليس فقط عاداتها العجيبة في قياس الجدران، بل ابتسامتها الرقيقة. تلك الابتسامة الوديعة، التي كانت تقابل بها كل من تصطدم به في الطريق من الواقفين أو الماشين، ممن تقابلهم أثناء رحلة القياس اليومية، ملقية على مسامعهم جملتها الوحيدة اليتيمة، التي كانت تنطقها بدماثة لامثيل لها، قائلة : ” العفو... العفو... اعذرني.. لم أرك... ”، ” العفو... العفو... اعذرني... لم أرك...”. كانت جملتها تلك هي الإشارة الوحيدة الناطقة، التي لولاها لما صدق أحد أن ”أم طالب” قادرة على الكلام والنطق. وكانت تلك الجملة السحرية مثار شغف بعض المرضى. فقد اعتاد كثير من المرضى ذوي المزاج الحسن أن يدعوها تنطقها أمامهم. حتى أن بعضهم كان يتعمد الوقوف في طريقها لكي يسمع منها جملة:"العفو.... العفو... اعذرني.... لم أرك... "، مصحوبة بتلك الابتسامة المحيّرة. حتى الأستاذ شوكت الدملوجي، ابن الأعيان، ووريث المجد السابق، البائد، الذي لم يبق لديه منه سوى الاسم، النزيل القديم في مستشفى الأمراض العقلية ببغداد، وأكبر الشكاكين في تاريخ الأمراض العقلية، حتى الأستاذ الدملوجي هذا بدأ في الآونة الأخيرة يخفف من حدة وساوسه وشكوكه في ”أم طالب”. فلم يعد يتعقبها، كما دأب أن يفعل، هامسا ،موشوشا ، بحذر في أذن أول من يصادفه من المارة: ” انظر! انظر! هذا هو الدليل. إنها كذابة... إنها لا تفعل هذا لوجه الله. فلا أحد يقيس بالمجان في هذه الأيام... لدي الدليل... انظر أيها السيد المحترم! ها ... ها... انظر! هذا هو البرهان... إنها مرسلة من قبلهم... ”؛ أو أن يقول: " انظر، لاحظ من فضلك أيها السيد المحترم كيف انها تتعمد الاصطدام بذلك الطويل المجنون! لاحظ جيدا أيها السيد المحترم كيف أنها تبتسم له بمكر ودهاء مدعية أنها لم تقصد الاصطدام به! إنها تتعمد ذلك، لقد سلطوها علينا، إنها مرسلة من قبلهم ". حتى شوكت الدملوجي هذا، تخلى في الآونة الأخيرة عن شكوكه الدائمة فيها، وأصبح يتقبل اصطدامها به على مضض، دون أن يقول شيئا، ودون أن يلاحقها مساررا الآخرين بشكوكه. فقد بدأ يكتفي بتقطيب جبينه مظهرا علامات غريبة، ربما كان يقصد بها الدهشة ليس إلا؛ مما جعل الطبيب المشرف على علاجه يعتبر ذلك التحول في سلوك الدملوجي انجازا هاما على المستوى الصحي في حالة المريض المستعصية، النزيل القديم، الذي لم تفلح معه لا الهيبة الزائفة التي تتمتع بها عائلته، ولا ثقافتهم وعاداتهم الارستقراطية، الأوروبية، التي ما انفكوا يتمسكون بها، ولا علم الأطباء وجلسات العلاج الطويلة. لم يفلح كل ذلك في تخليص الدملوجي من عقدة الشك المستحكمة فيه، الشك في كل شيء، حتى في أهله وأقاربه، الذين رغم كل هذا، ثابروا وواصلوا على زيارته بانتظام طوال عقود. على الرغم من أن هذه الزيارات كانت تنتهي في الغالب بخصام. يبدأ الخصام، كما هو معروف لدى الجميع، من طرف الأستاذ شوكت، الذي تهاجمه الرغبة العظيمة في ايجاد البرهان، وفي معرفة ما يكمن تحت الرماد. فيبادر زائره بالسؤال المألوف عن الغرض الحقيقي الذي يكمن وراء هذه الزيارة، أو عن الغرض من احضار الزائر هذا النوع من الفواكه أو الهدايا. وتنتهي الزيارة ­ كالعادة ­ بفرار الزائر حزينا، خجلا، بينما يشرع الدملوجي بالمرور على نزلاء القسم والانفراد بهم واحدا واحدا لشرح موقفه، هامسا في آذانهم: ” لقد رأيت! لقد شاهدت بنفسك هذه المرة أيها السيد المحترم! لقد حدث ذلك أمام الجميع. لقد رأيت الدليل بنفسك. لقد سمعت كيف كان يسأل ذلك السؤال الخبيث المبطن... لقد أرسلوه. إنهم يقفون خلف مجيئه... فقد دفعوه لاقتفاء أثري...”. كان تخلى الدملوجي عن بعض شكوكه لصالح ابتسامة ”أم طالب” نصرا صحيا نسبه الأطباء لهذه المرأة الوديعة الغامضة، المدمنة على الابتسام والاعتذار وقياس الجدران بأصابعها الخمس، ميممة دائما صوب البوابة الكبيرة لمستشفى الأمراض العقلية ببغداد. وحينما كانت ”أم الشهيد” جالسة في ركنها المنعزل، باكية، وحيدة، كسيرة الروح، كانت ”أم طالب” قد بدأت جولتها اليومية، وهي الآن متجهة صوب البوابة الكبيرة. كانت ”أم الشهيد” متكورة على نفسها في ركن من المقعد الخشبي المحاذي لصف الأشجار الطويل الملاصق لسور المستشفى. كان يتعين على ”أم طالب” ­ لكي تتجه نحو البوابة ­ أن تمر من خلف ”أم الشهيد”. وهذا أمر لا حياد فيه، فهي تسير نحو هدفها بثبات، سالكة الدروب ذاتها. بين المقعد الذي تجلس عليه ”أم الشهيد” وصف الأشجار ممر ضيق، لكنه كاف لكي تمر منه ”أم طالب”. فكرت ”أم الشهيد” في ذلك. شيء ما، قوي، وعنيف يلح عليها، ويطلب منها أن تستوقفها. ”ربما سيجلب ذلك لي العار، لو أن أحدا شاهدني أفعل ما يفعله المجانين، أقوم باعتراض طريقها. ستكون تلك مصيبة كبيرة تقع على رأسي، خاصة لو شاهدني أحد أولئك الممرضين الذين لا يرحمون، ممن يتلقون هدايا ورشاوى زوجي. سيقولون إنني مجنونة بحق، وإن ذلك الكلب الذي رمى بي في هذه البئر العميقة كان محقا في اتهامه لي بالجنون”. بدأت ”أم طالب” تقترب أكثر فأكثر من ”أم الشهيد”. وحينما أصبحت خلفها تماما، مدت ”أم الشهيد” يدها، من غير أن تعي، ودون أن تعدل من جلستها، مغلقة الطريق على ”أم طالب”، التي اصطدمت باليد الجافة المتصلبة الممتدة أمامها. ­ العفو.. العفو... سامحيني... لم أرك. نطقت ”أم طالب” وهي تبتسم. جذبتها ”أم الشهيد” من ثوبها وأجلستها على المقعد، ثم ابتدرتها قائلة: ­ إنك دائما تنسين بسرعة يا ”أم طالب”، لماذا لاتأتين إليّ يا أختي حينما تخرجين الى الحديقة. وضعت كفها على فخذ ”أم طالب” ملاطفة ومسدتها بحنان، ثم ربتت عليها بود وهي تقول : ­ لماذا لا تسلمين عليّ ؟ ­ العفو... العفو... سامحيني... لم أرك. ­ هل تعرفينني يا ”أم طالب” ؟ هزتها بعنف:
- هل تعرفين من أنا يا ”أم طالب”؟ نظرت ”أم طالب” اليها بوجه طفل مرح، ونطقت بحروف مفككة: ­ ”أم الشهيد”. نطقت الحروف وهي تبتسم وتحاول أن تنهض، محولة بصرها نحو البوابة الكبيرة. أجلستها ”أم الشهيد” وهي تقول : ­ ”أم طالب”، أختي ”أم طالب”، أتعرفين قصتي أم لا ؟ ­ العفو... العفو... سامحيني.. لم أرك .. أم الـ شهيـ د. ­ ”أم الشهيد” ! ”أم الشهيد” ! أي شهيد يا أختي هذا الذي تتحدثين عنه. يا أختي لا هو شهيد ولا أي شيء من هذا. كل هذا زور... كيف يكون الإنسان شهيدا وهو حي يرزق! لقد رأيته... لقد رأيته بعيني هاتين اللتين ستأكلهما الديدان. إنه شاحب وحزين، وربما هومريض. كان يعرج في مشيته قليلا ، فلذة كبدي! لكنه لم يكن ميتا، ولا شهيدا. إنه حي، إنه موجود. لكنهم لايريدون أن يصدقوا ذلك. إنهم لايريدونه. ثرواتهم ومكانتهم أهم وأغلى منه. حتى الأستاذ دملوجي قال لي إنه يصدقني، وإنه لديه الدليل. تصوري حتى هذا المجنون يعرف أنني على حق! إنهم قساة، كفرة، ينكرون خلق الله، يتنكرون لهم وهم هدية الرحمن. فلذة كبدي، إنه حي، ولم يستشهد كما يدعون . نظرت ”أم الشهيد” الى جليستها فلم تجدها. كانت ”أم طالب” قد انسلت خلسة بخفتها المعهودة متجهة صوب البوابة. أحست أم ماجد باضطراب وحرج. التفتت الى كل الاتجاهات. "ربما يكون أحدهم قد سمعني وأنا أكلم نفسي! ستكون تلك مصيبة لو أنهم سمعوا. ماذا عساهم يقولون؟ لا ينقصني سوى هذا. سيقولون: انظروا الى المجنونة! إنها مجنونة بحق! تكلم المجانين، تكلم نفسها "، ”" ماذا جرى لى حقا؟ ماذا دهاني حتى بت أكلم حتى المجانين وأصدقهم، حتى هذا المجنون الأستاذ دملوجي. ترى هل جننت بحق، هل أنا مجنونة كما يقولون! ” "أين هو الصواب؟ الأطباء والممرضون والصحافيون الذين زارونا، كل الذين أعرفهم من الأهل والأقارب، كل الناس الذين حضروا الى بيتنا، أكلهم كانوا على خطأ؟ وهل أنا وحدي التي تقف على جادة الصواب؟ هل يصح هذا؟ لا، أبدا. ولكن كيف يمكن لي أن أكذب نفسي؟ كيف يمكن للمرء أن يكذب نفسه؟ لقد رأيته، لقد رأيته بعيني هاتين اللتين ستأكلهما الديدان. كان شاحبا وحزينا. كان يعرج في مشيته، لكنه لم يكن ميتا، لم يكن شهيدا ... وإنني لم أكن مجنونة حينما مزقت صورته المكللة بالسواد ورميتها في صندوق القمامة، قائلة لهم: إنه ليس ولدي، إن فلذة كبدي ماجد ما زال حيا. ليس للمرء أن يكذب نفسه ويصدق الآخرين! كيف يستطيع المرء أن يكذب نفسه!؟ كيف؟” "ولكن أية نفس! أية نفس هذه! لم تعد للإنسان حتى روح يعيش بها، لم تعد له نفس يحيا بها. فكيف يستطيع الإنسان أن يتأكد، أن يعرف؟ كيف يستطيع الإنسان أن يصدق أن كل أولئك الناس على خطأ، وأنهم لم يعودوا كما كانوا؛ أنهم جميعا، بطرفة عين أصبحوا غير ما كانوا، أنهم لم يعودوا هم أنفسهم؟ كيف يمكن للمرء أن يصدق أن العالم بأجمعه قد تبدل! الأصدقاء، الأهل، المعارف، جميعهم، جميعهم، قد تغيرت ملامحهم، وتبدلت طبائعهم وضمائرهم...! الطيبة هي الطيبة في كل مكان وزمان. والصدق والحق هما الصدق والحق في كل مكان وزمان. إنها محنة مابعدها محنة. كيف يخلط الإنسان بين الشر والخير، بين الفاسد والطيب، بين الحق والباطل، بين الصدق والكذب، بين الموت والحياة، بين الشيء وضده، كيف؟ ترى هل أنا هي التي عجزت عن فهم مايدور حولها، فرأت الناس على غير حقيقتهم؟ رأتهم كلهم بوجوه جديدة وضمائر جديدة لا تعرفها! هل أنا هي التي لا تقدر على فهم الناس، أم أن الناس أنفسهم قد تغيروا، حتى انني لم أعد أميز بين خبيثهم وطيبهم، بين صادقهم وكاذبهم، بين ابتسامة لئيمة تقود الى قبر، وبين ابتسامة طيبة تشفي القلب، بين عدو يلقيك في هذه البئر المظلمة، وبين يد حنون تريد إخراجك من ظلمتك الماحقة !؟ كيف لي أن أخرج من هذه المحنة ؟ أعني يارب! انجدني يا داحي باب خيبر! اخرجني من هذه السماء الحارقة، وأجبني كيف يكون الأحياء شهداء في شريعتك المقدسة؟ كيف يكون البشر شهداء وهم لم يقتلوا بعد؟ انجدني يارب، أيها السميع العليم! ”. لبثت ”أم الشهيد” متقرفصة، متسربلة بالحزن والكآبة، التي اعتاد الجميع أن يروها فيها في الآونة الأخيرة. وهي الحالة التي شخصها الأطباء على أنها تحول جدي في حالة المريضة النفسية، ربما تنقلها من حالة عدم التصديق والوهم وفقدان اليقين، التي اعترتها عقب استشهاد ابنها ماجد، الى حالة الكآبة التامة. وهي الطور الأكثر خطورة في سير تطور حالة المريضة. فهي على حافة الفقدان التام للرغبة في الاتصال بالعالم المحيط. لقد فقدت حتى الاعتناء بنفسها. إنها سائرة نحو استنزاف آخر مايربطها بعالم البشر. امتدت يد، حطت على كتف أم ماجد وهزتها عدة مرات. انتبهت أم ماجد وسحبت نفسها من البئر العميقة. التفتت الى صاحب اليد. إنه الممرض المراقب. ابتسم لها قائلا: ­ أم ماجد، لديك زائر من أهل بيتك. همت بأن تسأل من يكون هذا الزائر، وهي تفكر:" لربما يكون ذلك الكلب قد جاء بمكيدة جديدة ”.
بيد أن الممرض بادر الى القول : ­ الأستاذ كاظم، عم الشهيد. ترددت لحظات. لكنها ابتسمت ابتسامة غامضة. "أن تحدثي إنسانا عاقلا أفضل من أن تحدثي المجانين، أو أن تكلمي نفسك ، رغم أن المجانين أكثر رحمة” ­ أين هو؟ نطقت. وحينما سمع الممرض السؤال، لم يجب، بل القى كلمات مبعثرة على عجل وسارع بالانصراف مهرولا ، كأنه خشي أن تبدل رأيها: ­ سأتي به حالا . .. سأتي به حالا هنا. أخذت أم ماجد تصلح شيئا من هيئتها. مدت يدها نحو وجهها. تحسست تقاطيع وجهها، كمن يحاول أن يرى وجهه بيديه. "ربما يكون في هذا الإنسان بعض بقايا الخير! فهو مظلوم مثلي، وهو أعز أصدقاء ماجد". نهضت لملاقاة شقيق زوجها، الذي كان يتجه نحوها وهو يقول : ­ ما هذا! ما هذا التطور! عظيم، عظيم! إنني أراك بأحسن حال! نطق ذلك وهويصطنع ابتسامة مفضوحة، بينما كانت يده تصافح يد أم ماجد؛ اليد المعروقة، الجافة، النافرة العروق، التي انسحبت بغتة من بين يديه، محدثة صدمة مفاجئة في كيانه. ­ أأنت أيضا منافق مثلهم؟ نطقت كلماتها بغضب، وهي تسحب يدها بعنف. ­ كلا، كلا. لماذا تتهمينني بهذا يا أم ماجد؟ خرجت الكلمات من فمه تائهة. قالها وهو يتلعثم، بينما وقفت أم ماجد تهتز من فرط الغضب، كما تهتز سكين حادة مقذوفة بقوة، منغرزة في جسم صلب. ­ لو قدر لي أن أكون بأحسن حال، وأنا على هذه الحال، لو قدر لي أن أتطور وأنا ملقاة في هذه البئر العميقة المظلمة، فاني أكون حقا قد فقدت عقلي. كيف يمكن لامرأة مثلي أن تكون بأحسن حال وهي سجينة بين المجانين؟ كيف يمكن لامرأة مثلي أن تكون بأحسن حال وهم يسلبونها ابنها وعقلها وحياتها، كيف ؟ صرخت في وجه كاظم الذي ازداد ارتباكا واكفهرارا .
فكر كاظم: "إنها أعقل من الجميع”، قال في سره، بينما واصلت هي صراخها في وجهه : ­ وهل لديك شك في هذا؟ قالتها بغضب وعنف، فامتقع وجه كاظم، وحاول مداراة الخجل الذي اعتراه. فقد شعر بنفسه كمن انكشفت عورته. صرخت مرة ثانية في الوجه الممتقع وجسدها يواصل اهتزازه من فرط الانفعال: ­هل لديك شك في هذا؟ ثاب كاظم الى رشده. حاول أن يمسك بزمام الموقف، ساعيا الى السيطرة على وعيه ومشاعره المضطربة. فبادر الى تغيير دفة الحديث قائلا : ­ لدي أخبار سارة. ­ سارة ! وهل بقى في هذه الأرض ما هو سار؟ ­ نعم لدي أخبار مهمة، وقد جئت الى هنا لهذا الغرض. تبادلا النظر، هو الى وجهها الكئيب، الصلب، العصبي، المليء بالأحزان، وهي الى وجهه المضطرب، ومشاعره المشوشة، وابتسامته الخائفة. كانت تلك لحظة هدنة منحها المتحاربون لأنفسهم عقب معركة مباغتة أعادت الى كليهما شيئا من الهدوء، مما جعل أم ماجد تبادر الى القول : ­ اجلس، تفضل بالجلوس.
أشارت الى المقعد الطويل، وأضافت: ­ ما الأخبار التي لديك؟ ­ لدي أخبارمهمة... ولكنني قبل كل شئ أريد أن أعرف حقيقة رأيك بي؟ فأنا لا أريد أن أفرض نفسي عليك. وإذا كان لديك شك في أنني لست واحدا منهم، وأنني أقف الى جانبك وجانب ماجد، فأنا لست على استعداد لأن أعود لزيارتك مجددا . ­ أنت تعرف بأنني أعرفك جيدا، أعرف من أنت، وأعرف صلتك بماجد، وأعرف ماضيك، وأعرف ماذا يريدون منك. ولكن، يجب عليك أن تعرف بالمقابل أن كل شيء في هذا العالم قد تغير، وأن الأشياء قد اختلطت ببعضها، وأنه لم يعد بمقدور الإنسان أن يميز بين الصالح والطالح، وسط عالم لا يُعرف فيه مجانينه من عقّاله. قال بحزن وانكسار: ­ وهل بدأت تشكين فيّ أيضا؟ ­ أنا لا أشك فيك. ولكني بدأت ­ والحق يقال ­ أشك حتى في نفسي. بدأت أسأل نفسي هل أنا مجنونة بحق! لكنني أعرف أن القلوب الطيبة لا بد أن تلتقي وأن تتوحد. إنني أعرف هذا وأعرف أنني أستطيع أن أضع أملي فيك ولا أخطئ في هذا. ­ هذا رائع! إن القلوب الطيبة لا بد لها أن تلتقي، ولهذا جئت إليك، وسأبقى الى جوارك. ­ وماهي أخبارك السارة؟ - نعم، الأخبار السارة، إنني بدأت، بمساعدة شخص قريب وصديق قديم، في البحث عن الوثائق المتعلقة بالحرب والمصابين والمفقودين... ­ ولكن ألا ترى أن هذا الأمر خطير ومستحيل؟ ­ نعم. هو كذلك، ولكن يجب على المرء أن يبدأ من نقطة ما لكي يصل. ­ وكيف ستصل، وأنت تعرف أن عدد المصابين والموتى والأسرى لم يعد ألفا أو ألفين بل زاد على نصف مليون؟ كيف تستطيع التأكد من هوية الموتى في الوقت الذي أصبحت الجثث تدفن متعفنة، ويرسل البعض الى ذويه كما ترسل الرسائل الغامضة!؟ كيف ستبدأ ؟ ­ لقد نشأ لدي أمل أن أبدأ من نقطة واحدة واضحة ومحددة. وقد فكرت في ذلك وقتا طويلا. إن بدايتي ستكون من ذلك اليوم الذي شاهدت فيه ماجدا. ولهذا أود منك أن تعيدي عليّ بدقة كل ما شاهدتيه ذلك المساء. ­ وماذا أعيد ؟ لقد أعدت ذلك آلاف المرات، لقد كررته حتى على رؤوس المجانين، ماذا أعيد؟ ­ أريد أن أتأكد من نقطة واحدة، سأقولها لك فيما بعد، ولكن أود الآن أن أعرف كيف بدت حالته لك حينما شاهدتيه. ­ فلذة كبدي، كان شاحبا وحزينا، لكنه كان حيا . فلا يمكن للمرء أن يخطئ في معرفة شلو منه. لقد كان هزيلا . ­ وماذا كان يفعل في تلك اللحظة؟ ­ كان يسير، في مشيته شيء من العرج. نعم، كان يسحب رجله اليمنى ببطء. لقد وقع بصري عليه فجأة. كان يسير مع مجموعة من الناس بينهم امرأة. للحظات ظهرت صورته كبيرة، كبيرة على شاشة التلفزيون. نظر الى الأمام، كأنما كان ينظر الى وجهي. كان ساهما شاحبا وهزيلا . نظر اليّ ثم اختفى في الزحام . ­ هذا هو ما أريد الوصول اليه. أنت متأكدة من أنه كان يعرج في مشيته. ­ وماذا يفيد هذا؟ ­ سأنطلق من هذه النقطة. فلو أن هذا الشخص هو ماجد حقا، فان وجود العرج يدل على وجود إصابة في رجله. ومهمتي الآن هى البحث في الأفلام التلفزيونية، التي صورت الجرحى في تلك الفترة. ورغم أن الأفلام التلفزيونية كانت كثيرة في تلك الفترة، إلا أنني سأسعى للحصول عليها ومشاهدتها، سأحاول أن أجد خيطا ما يقودني. إنني أعرف أن هذه المهمة لاتخلو من الخيال والمخاطرة، ولكن لا بد لنا من ايجاد نقطة ضوء نسير على هديها، ولدي أصدقاء سيساعدونني في مهمتي. ­ وهل تثق بهم؟ ­ نعم. قال بتردد، ثم أضاف بلهجة الواثق : نعم، نعم، إننا أصدقاء، تربطنا صداقة قديمة... حميمة. رفعت أم ماجد وجهها نحو الوجه المضطرب الكئيب، الوجه الخائف، الوجه الحالم، الذي بدا لها أنه يخلط خلطا عجيبا بين اليأس والأمل. نظرت اليه كمن يحاول أن يفهم من أين يبدأ الأمل، وأين ينتهي اليأس! أو ربما كمن يحاول أن يعرف أيهما هو اليأس وأيهما هو الأمل. ­ سر على بركة الله. قالت بصوت حازم، لكنه حزين. صوت ربما يكون صادرا عن أمل عظيم، أو عن يأس لا محيط له. # الفصل الثاني من رواية ”سماء من حجر”، الصادرة عام 1994 للكاتب العراقي سلام عبود. والرواية أول عمل روائي عراقي يصور الحرب العراقية الإيرانية من موقع معارض للحرب. وهي صورة لم تكن متاحة، للأدب العراقي، الذي كتب داخل العراق بسبب شدة هيمنة السلطة الديكتاتورية.

  كتب بتأريخ :  الإثنين 12-10-2009     عدد القراء :  2351       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced