حين نحاول إيجاد تعريف مضمون، اقرب للصواب، عما يسمى بــ" الانتخابات الديمقراطية " فإننا لا نجد غير تعريف واحد محدد هو (الاختيار الحر) بمعنى أن المحكومين يختارون حكامهم ومشرعي قوانين بلدهم اختيارا قائما على قانون عام يتيح الجمع الحر بين حقوق الناخب والمرشح بصورة واضحة، اعتمادا على تصميم مفردات هذه الحقوق وفق رؤى ديمقراطية، لا لبس فيها ولا فضاء، كي لا يسمح لأحد بالدوران حول أفكار الناخبين الذين لا تتطابق رؤاهم مع رؤيا بعض المرشحين.
لذلك يمكنني أن أقول بثقة تامة أن (الاختيار الحر) لا يمكن أن يجد تعبيره الواقعي في المجتمع من دون وجود أدوات قانونية متكاملة النصوص، من دون وجود مؤسسة انتخابية (مفوضية الانتخابات) متكاملة الأغراض والوسائل والأهداف ليست فقط قائمة على مبادئ الديمقراطية، بل يجب أن تقوم بنيتها التفصيلية الكاملة، في كل محافظات العراق، على أسس النزاهة والحياد التام بين كتل وقوائم المرشحين كافة، من جهة، وبين المرشحين والناخبين، أيضا، من جهة ثانية، لكي تكون أفكار المفوضية وسلوكها العملي متلائمين مع تدرج التطبيق الفعلي لنصوص قانون الانتخابات، تطبيقا واعيا، قادرا على رفع مستوى الديمقراطية الجديدة إلى ذرى أعلى.
كما هو معروف فأن الحياد والنزاهة لا يخضعان إلى الأماني المجردة أو إلى الخيال المجرد أو إلى الادعاءات المجردة، بل أن سيطرة الأخلاق والمواصفات الحيادية النزيهة لا يمكن تحقيقها أو تحقيق أهدافها بلا معايير كمية ونوعية في الممارسة والتطبيق تجعل من عمل قيادة مفوضية الانتخابات وأفرادها، جميعا، خطى قائمة على أنظمة إدارية صلبة، ينبغي المحافظة على بقاء سيرها في الطريق الديمقراطي وعدم السماح لها، أو لجزء منها، التحول خلال العمل، إلى ممرات بيروقراطية ضيقة تنقل العمل الحيادي من الفضاء الأبيض الشامل إلى فضاء مشوش الألوان يطعن بديمقراطية سلوك المؤسسة المشرفة على الانتخابات إذا ما أتيحت الفرص لبعض التلاعب السلوكي أو الرقمي أو الدعائي في عملها أو عمل بعض أفرادها، سرا أو علنا، لصالح بعض القوائم الكبرى.
إن أي أشراف انتخابي نزيه يتطلب سعيا إبداعيا نزيها ومبادرات منهجية، على المستوى الوطني وعلى مستوى طرائق العمل والأشراف في كل مركز انتخابي، وعلى الارتقاء بمستوى سلامة فرز الأصوات. كل هذه المهمات تتعلق مباشرة بالمهمة التطبيقية لقانون الانتخابات، فمن دون وجود تلاحم قوي بين قانون انتخابي ديمقراطي ومؤسسة إشراف ديمقراطي منظم على الانتخابات لا يمكن الحديث الواقعي الجاد عن الديمقراطية الانتخابية في العراق، وبالتالي لا يمكن تصور وجود ديمقراطية برلمانية.
في فترة الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، أي في زمن الرئيس الدكتاتور صدام حسين، جرت عدة انتخابات برلمانية (انتخابات المجلس الوطني) لكن بإمكان أي مواطن عراقي ذي مستوى ثقافي بسيط أن يدرك بسهولة انقطاع العلاقة التامة بين نماذج تلك (الانتخابات) وبين أبسط صور (الديمقراطية). كان المواطن العراقي في المدن والأرياف يعرف تمام المعرفة أن الانتخابات تلك لم تكن غير عملية تصويت (شكلية) فارغة من أي (مضمون) ديمقراطي حتى ولو بأبسط المستويات. لأن المواطن العراقي كان على علم تام أن نظام الحكم والبوليس الحزبي والحكومي، يسيطران بقوة وبأساليب ملتوية مختلفة على الانتخابات ونظامها وترشيحات المرشحين وكل تفاصيل البروتوكولات الانتخابية. كانت عناصر شبكة العنكبوت البوليسية التابعة لأنواع وخطط القيادات المختلفة في حزب البعث الحاكم متجهة نحو التخاطب البوليسي وليس التخاطب الديمقراطي مع جمهور الناخبين في كل مركز انتخابي بالمحافظات كافة.
لم يكن هذا التخاطب يقوم على فكرة تفضيل مرشح على آخر لأنهم جميعا من طينة واحدة، لكن القصد هو دفع الناس المغلوبين على أمرهم للمشاركة الشكلية في تصميمات الأجهزة الدكتاتورية لغاية (ترميز) وجود الديمقراطية في عراق صدام حسين أمام الرأي العام العربي والعالمي.
بصورة عامة لا يمكن التأشير إلى وجود نقص واضح في ثقافة غالبية الناخبين العراقيين الواقعين تحت مجتمع شمولي يقوده ويتحكم فيه حزب واحد، حزب البعث، بأساليب قمعية واسعة النطاق، يجري فيه غسيل أدمغة الناس، ليلا ونهارا، عبر كل مستويات الأجهزة الإعلامية والحزبية والبوليسية، لخلق حالة من عدم وجود التعارض بين الدولة الصدامية والمجتمع كله، لكن من المؤكد أن العملية الانتخابية الإجبارية كانت مفروضة بسبب شيوع (ثقافة الخوف) وهي الثقافة التي كان نظام الحكم آنذاك يفرضها على المواطنين أمام كل بيت وفي مدخل كل زقاق مصممة لاستخدامها في انتخابات المجلس الوطني وفي التصويت ألاستفتائي الرئاسي.
في الثامن من نوفمبر 2009 وافق البرلمان العراقي على نص قانون الانتخابات العراقية لعام 2010 في زمن يعاني فيه التنوع الثقافي العراقي أزمة كبيرة مثلما تعاني فيه التنمية الاقتصادية أزمة خانقة. كان الشعب العراقي منتظرا أن تسفر مناقشات أعضاء مجلس النواب في 11 جلسة من جلساتهم الساخنة على تعديلات القانون الانتخابي لعام 2005 بالصورة الديمقراطية التي توفر تضامنا انتخابيا حقيقيا عرقيا ودينيا بمستوى يحقق مساهمة هذا القانون في التماسك الاجتماعي مما يعزز نهج الديمقراطية وعلاقاتها بين القوى السياسية داخل البرلمان وخارجه عبر سياسات التعددية الثقافية وأنماط التنظيمات الاقتصادية القادرة على تعمير بلادنا وجعله مثالا ايجابيا بالنسبة لبلدان الشرق الأوسط.
السؤال الذي واجه جميع المواطنين وجميع القوى السياسية داخل البرلمان وخارجه : هل حقق القانون الانتخابي الجديد آثار الديمقراطية في نصوصه..؟ هل كثف القانون خلال نصوصه هدفا بتحقيق اندماج متكامل عادل بين مكونات الشعب العراقي..؟ هل اوجد صيغة تنظم كيان البرلمان القادم لتحقيق تعايش أكثر ديمقراطية بين ثقافات الكتل البرلمانية وتوحيد نضال النواب من أعضاء البرلمان لسن القوانين القادرة على بناء مجتمع مدني حقيقي وضمان وقف حركة هجرة المواطنين العراقيين خاصة من أبناء الأقليات الدينية والقومية إلى خارج الوطن..؟
على الرغم من الفوران السياسي داخل البرلمان خلال 11 جلسة فأن نتائج مشروع القانون لم تكن كما كان يتوقعها الشعب العراقي وهو يجتاز العتبة الأخيرة من العقد الأول في الألفية الثالثة حيث تطورت اغلب اتجاهات برلمانات العالم نحو إرساء قواعد عملها وعلاقاتها على منظور تقدمي يلغي تنافر القوى البرلمانية، مثلما يلغي داخل البرلمان وجود قوى سائدة وأخرى مسودة، ووجود قوى مستعبــَدة ومستعبــِدة، وهو أمر لا يتصل بتقاليد البرلمانية الديمقراطية ولا بأساليب تحديثها.
مع الأسف الشديد خاب أمل الناس حين ظهرت نصوص في القانون بــ "المواد أولا وثالثا وخامسا " ليس فيها أي توازن بالحقوق الانتخابية، ليس في جوهرها أي نص فقهي نشيط يساعد في ترسيخ المساواة الديمقراطية بين المواطنين وممثليهم البرلمانيين وفقا لقانون اوجد حالة من سيطرة (الكتل البرلمانية الكبيرة) على الكتل المتوسطة والصغيرة مما أطلق عليها بعض الكتاب العراقيين المعارضين لبعض مواد القانون وفقراته لقب سيطرة الحيتان الكبيرة على الأسماك الصغيرة بمختلف أنواعها داخل البرلمان، خاصة وان نص القانون قد اغفل، تماما، عملية تنسيق ما يطلق عليه في اللغة الانتخابية (الأصوات الباقية) أو يطلقون عليها في بعض الدول الشمولية المعاصرة عنوان (البواقي) أي باقي أصوات المرشحين أو القوائم غير الفائزة وهي بالتأكيد (بواقي) ناتجة بالدرجة الأولى عن ظاهرة التعدد الثقافي.
بدلا من أن يفكر صائغو القانون الانتخابي بأشكال وصيغ الأسباب المتعلقة بظهور (البواقي) من الأصوات وتوزيعها بطريقة عابرة لنظام سيطرة الحيتان على الأسماك، أي توزيع هذه الأصوات على ما يحقق تعايشا حقيقيا بين مكونات الشعب أولا، ومكونات البرلمان نفسه ثانيا، مما يساهم مساهمة متواضعة في اندماج العملية البرلمانية بالديمقراطية واندماج الديمقراطية بالتالي في العملية السياسية لتوفير أفضل السبل وأوسعها، ليس فقط في تمثيل الثقافات العراقية المتنوعة تحت قبة البرلمان، بل لتحويل كل قرارات البرلمان وتشريعاته إلى حلول حقيقية لمعالجة كل الموروث السلبي في العراق ووضع بلادنا في طريق التطور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي وإنقاذها من الوجود في (هامش) الحياة المعاصرة حيث عاد العراق إلى مجتمع من مجتمعات القرن التاسع عشر رغم وجود الستالايت والفاكس والبريد الالكتروني والانترنت وأحدث الأجهزة الكهربائية. رغم توفر طاقة استيراد هائلة للبضائع الاستهلاكية فأن العراق ابتكر أول تقنيات تحوله من بلد مصدر للنفط الخام ومستورد بذات الوقت للمنتجات النفطية مثل البنزين والدهون والنفط الأبيض وغيرها. أنه أمر في غاية العجب حقا..!.
الشيء المؤكد في القانون الانتخابي أنه اوجد فجوات تمييزية بين القوى السياسية وبين الكتل البرلمانية المختلفة. لم يأخذ واضعو القانون، الظروف العراقية غير المتكافئة المحيطة بكل القوى السياسية المستعدة لخوض الانتخابات البرلمانية، خاصة ما يتعلق بحقوق الجماعات الاثنية والأقليات وحقوق الملايين من المواطنين العراقيين المهجرين والمهاجرين.
من هنا، من هذا الخلل، نرى إدانة واضحة لهذا الإجحاف بحقوق العراقيين، فقد صاغت العديد من القوى السياسية العراقية احتجاجات ونداءات ومواقف هدفها الحد من مخاطر سيادة مصالح القوى البرلمانية الأكبر على الأضعف ومخاطر (المركزية البرلمانية) ومخاطر الاتجاه نحو بلورة تبعية الأصغر للأكبر داخل البرلمان وخارجه، حيث أن جميع هذه الظواهر تضعف دور الديمقراطية وثقافتها، كما تفقد الروح القادرة على منع (الممارسة الديكتاتورية) في ظل (الديمقراطية البرلمانية) وهو أمر محتمل الحدوث بعد انتخابات عام 2010 تماما مثلما سادت الثقافات الساذجة والتافهة في اغلب مناقشات وقرارات مجالس المحافظات التي حصرت نفسها وأعمالها، خلال الأشهر العشرة الماضية، في نطاق الصراع بين تعددية اللاعبين ومراكز القوى، مما اضر ضررا بالغا بمسألة بناء مجتمع مدني والتوصل إلى تشييد أسس تنمية المصالح العامة.
ما أشبه الليلة بالبارحة. هذا قول يقوله الناس حين تتزامن أحداث من الماضي مع بعض أحداث في الحاضر وتتشابه في بعض أو كل جوانب صورتها أو قاعدتها. اليوم يعيش العراقيون في تشرين الثاني عام 2009 ويواجهون نفس ظروف البنية التحتية للشارع العراقي في تشرين الثاني عام 1952 ومكوناته في الاحتجاج وفي التظاهر وفي تقديم المذكرات إلى القصر الملكي حول قانون الانتخابات آنذاك والمطالبة بإلغاء مستوياته غير الديمقراطية. كما أن القوة التفاعلية الجماهيرية في الشارع العراقي يوم ذاك كانت معتمدة على التخاطب مع الحكام المتربعين على عرش السلطة على شعار جماهيري واسع النطاق (نريد انتخابات حرة). اليوم أيضا، نسمع ونقرأ ونرى تجليات القوى الجماهيرية التفاعلية تتحرك وفقا لنفس المطلب التواصلي داخل العراق وخارجه متركزا على (احترام إرادة الشعب العراقي في تشريع قانون يضمن حرية الناخبين ويحقق خطوة جديدة نحو ازدهار الديمقراطية البرلمانية). أود الإشارة، هنا، إلى بعض بيانات وآراء القوى السياسية والشخصيات الوطنية العراقية، الذين وقفوا على طرف آخر من المعادلة المجحفة التي أوجدها القانون الانتخابي الجديد : (1) قال تصريح المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي ما يلي : (قلص المجلس في المادة الأولى من القانون عدد المقاعد التعويضية، المخصصة أصلا للقوائم التي لا تحقق القاسم الانتخابي على صعيد المحافظات وتحققه على المستوى الوطني، من 45 في القانون الأصلي إلى حوالي 15 مقعدا فقط ! وحين نعلم أن هذه المقاعد ستخصص منها حصص لبعض المكونات القومية والطوائف (8 مقاعد)، وللنواب الذين ينتخبهم العراقيون المقيمون في الخارج والذين تزيد نسبتهم على 10 في المئة من سكان العراق، يتبين لنا كم هو اعتباطي هذا التقليص وغير مسئول. فالسبعة أو الثمانية مقاعد المتبقية لن تكفي حتى لتغطية أصوات الناخبين في الخارج.
من جانب آخر يصادر هذا التقليص عمليا كل حق للقوائم التي تحرز القاسم الوطني في الوصول إلى البرلمان. الأمر الذي يجسد مدى أنانية معظم الكتل المتنفذة و ضيقها ذرعا بالتعدد والتنوع في مجلس النواب، وسعيها إلى الاستحواذ الكامل على المجلس النيابي والسلطة كلها، واحتكارهما وتقاسمهما بعيدا عن الصيغ الديمقراطية المعهودة.
في المادة الثالثة من القانون ذهبت الكتل البرلمانية الكبيرة ابعد كثيرا في انتهاك الديمقراطية، والاستهانة السافرة بالناخبين وتحديهم. فقد فرضت مجددا منح المقاعد الشاغرة للقوائم الفائزة، بدل وضعها – كما تقضي الديمقراطية ويقتضي المنطق والعدل - تحت تصرف القوائم الحاصلة على أعلى الأصوات المتبقية. وبذلك فتحت الأبواب مجددا أمام تكرار التجربة سيئة الذكر في انتخابات مجالس المحافظات أوائل السنة الحالية، عندما ارتكبت الكتل الكبيرة الخطيئة بسلبها أصوات ما يزيد على مليونين وربع المليون ناخب اقترعوا لقوائم أخرى، واستخدمتها في انتزاع مقاعد إضافية في مجالس المحافظات دون وجه حق. ما يبعث على الاستغراب والاستنكار، أن الكتل المتنفذة تعيد الكرّة هنا رغم كل مظاهر الرفض الشعبي والاحتجاجات والإدانات، التي قوبلت بها آنذاك تلك الممارسة اللاديمقراطية. وواضح أنها تعيدها اليوم وهي تدرك تماما تعارضها مع مبادئ الدستور أيضا. كما أنها تفعل ذلك مع سبق الإصرار وبتحدّ ٍ صريح للناخبين وإرادتهم، ولحقهم الدستوري في اختيار من يريدون لتمثيلهم في البرلمان والأجهزة المنتخبة الأخرى.
(2) قال السيد عزة أبو التمن أن المادة ثالثا من قانون تعديل قانون الانتخابات لعام 2005 الذي اقره البرلمان الأحد الماضي تعد ضربة موجهة ومجحفة ضد الديمقراطية، واصفا إياها بـ”عملية سرقة أصوات الناخبين”، بحسب تعبيره. تنص المادة المذكورة على ان "تمنح المقاعد الشاغرة للقوائم الفائزة التي حصلت على عدد من المقاعد بحسب نسبة ما حصلت عليه من الأصوات".
أفاد أبو التمن أن عملية ملء المقاعد الشاغرة بالنسبة للدائرة الواحدة هو جمع عدد الأصوات الكلية في المحافظة وتقسم على عدد المقاعد الموجودة هناك، موضحا أن القانون القديم ينص على إعطاء المقعد إلى (أعلى الخاسرين) في حين توزع المقاعد الشاغرة بموجب القانون الجديد على (الفائزين) فقط.
(3) تبنّى نائب الرئيس طارق الهاشمي موقفا من حقوق الناخبين في الخارج تفسير وقال في بيان "لا بد من التنبيه على أنني أتحفظ على أي محاولة يراد منها النيل من أصوات الناخبين المهجرين خارج العراق".
(4) من جانبها، قالت رئيسة منظمة تموز السيدة (فيان الشيخ علي) إن قانون الانتخابات الذي أقر يوم 8 تشرين الثاني ينطوي على العديد من الثغرات والمشاكل التي تضمنها قانون مجالس المحافظات لاسيما تلك المتعلقة بطريقة توزيع الأصوات المتبقية على المشاركين بالانتخابات، في حين قال نواب إن القانون “منحاز” للكتل الكبيرة.
أضافت فيان الشيخ علي أن قانون الانتخابات يحتوي على “العديد من الثغرات والمشاكل التي كانت موجودة في قانون مجالس المحافظات”، مشيرة إلى أنها “تتمثل بتوزيع باقي الأصوات في كل محافظة على القوائم الفائزة فقط، وليس على القوائم التي حصلت على الباقي الأكبر”.
مما تقدم من أمثلة عارضت، بقوة، كما يبدو من قوة التصريحات الواردة فيها تشير بوضوح إلى سعة المعارضين للقانون الذين يمثلون اتجاهات سياسية مختلفة وهم جميعا ينتظرون الآن الموقف الرسمي من مؤسسة رئاسة الجمهورية المخولة بموجب الدستور العراقي الإشراف على القوانين التي يشرعها البرلمان برفضها أو التصديق عليها. لا شك أن الاستخدام الأخلاقي المحايد يفرض على مؤسسة الرئاسة أن تدرس جميع الاعتراضات وبواعثها الديمقراطية إذ ينبغي أن لا تكون صناعة القوانين العراقية شكلا من أشكال انفراد (قوى الأكثرية) بمصالحها على حساب مصالح الشعب كله. من الضروري أن تكون مؤسسة رئاسة الجمهورية واعية إلى قضية إخضاع الديمقراطية للمنفعة الحزبية التي هي في اقل الأحوال ضربة عنيفة للديمقراطية الحقيقية. لذلك فالمرجى من رئيس الجمهورية ونائبيه أن يتخذوا قرارا بإرجاع القانون إلى مجلس النواب لإعادة صياغته وفقا للمصلحة الوطنية الشاملة ولمصلحة (الحرية) التي يطالب بها غالبية أبناء الشعب.
الانتخابات في جوهرها ومفهوم عنوانها هي أسلوب من أساليب البحث عن (الحرية). متى ما تطورت نصوص القوانين المتحكمة بالعملية الانتخابية فأنه باتجاه (الاختيار الحر) لجميع الناخبين دون تمييز، عند ذاك يمكن القول بأن الانتخابات صار لها معنى وصار لها رجاء.
لا أريد القول أن برلمان 2005 – 2009 كان مقيدا لحرية ترشيح ممثلي الفقراء العراقيين من العمال والفلاحين حين نصت التعليمات القانونية على حق الترشيح لمن يحرز شهادة جامعية أو شهادة مدرسية عليا. ولكي يحصل بعض المرشحين على هذه الميزة فقد اكتشفت المفوضية العليا شهادات مزورة كادت أن توصل نوابا إلى البرلمان والى مجالس المحافظات لولا يقظة المفوضية وانتباهها. أود التذكير هنا أن أكثرية سكان العراق هم من الفلاحين والعمال الفقراء، وبالتالي، فأن مصالحهم تعتبر أساسية من حيث نسبتهم العددية ودورهم في المجتمع واقتصاده. بهذا الصدد يؤخذ على البرلمان الحالي أنه لم يقدم ولا مشروع قرار يؤمن مصالح العدد الغفير من أبناء الشعب الكادحين في مزارعهم ومعاملهم لأننا لم نجد ولا فلاحا واحدا ولا عاملا واحدا ولا كاسبا واحدا عضوا في برلمان 2005 بل على الضد من ذلك فأن الكثرة من أعضاء الدورة البرلمانية هذه كانوا من ممثلي الطبقات الرأسمالية وممثلي أصحاب المصالح المتضاربة مع مصالح العمال والفلاحين.
هكذا تتنوع معوقات (الحرية الانتخابية) من حيث حجمها، وشكلها، وتنظيمها ونشاطها، وتماسكها، اعتمادا على الشهادة الجامعية التي تعزل الكثير من الوطنيين العراقيين النقابيين والفلاحين من حق الوصول إلى مقعد البرلمان. يعني هذا ضرورة البحث عن شروط جديدة تختص بكفاءة المرشح وليس بورقة شهادته رغم أهميتها في كثير من الأحيان. ينبغي أن تكون المعرفة الوطنية والتاريخ النضالي المشرف والكفاءة المهنية ونصاعة يدي المرشح الانتخابي هي الأساس في الترشيح إلى جانب وجود الشهادة الجامعية أو من دونها، وإلا فلو كان الشاعر محمد مهدي الجواهري حيا الآن فأنه لا يحق له ترشيح نفسه لأنه لا يحمل شهادة جامعية. لو كان محمد حسنين هيكل عراقيا وهو من أثمن المواهب الصحفية في العالم يريد ترشيح نفسه فأنه لا يستطيع لأنه لا يملك شهادة جامعية. لو كان ابن رشد أو الجاحظ أو أبو ذر الغفاري أو عمر بن عبد العزيز أحياء فأنه لا يحق لهم الترشيح في الانتخابات لأن أيديهم لا تحمل شهادة جامعية. نفس المآل بالنسبة للكاتب الروائي السوري حنا مينا لو كان عراقيا لا يحق له الترشيح لأنه لم يكمل دراسته الابتدائية.
هذا الواقع لا يذكرنا فقط بمسارات انتخابات ما سمي (المجلس الوطني) خلال حكم صدام حسين، الذي كان هدفه ترسيخ (الواقع الدكتاتوري)، بل يذكرنا بالعودة إلى وراء أكثر من قرنين من الزمان بما قاله جان جاك روسو أنه لا يثق أن يكون البرلمان ممثلا للشعب تمثيلا حقيقيا لأن المجالس البرلمانية لا تملك صفة(نواب الشعب) و لا صفة (ممثليه). لذلك فقد دعا روسو إلى أن يقتصر دور هذه المجاميع البرلمانية (النواب) على وضع مشروعات قوانين لا تصبح نافذة إلا بعد أن يناقشها الشعب كله ويقرها، ثم يصوت عليها. لذلك ولأن الاستفتاء الشعبي ليس واردا هنا في هذه الحالة العراقية حيث لم ينص الدستور عليها فالمرتجى والمؤمل من أصحاب الفخامة جلال الطالباني رئيس الجمهورية ونائبيه طارق الهاشمي وعادل عبد المهدي أن يفتحا بوابة تغيير المواد السلبية في القانون الانتخابي برفض المصادقة عليه إلا بعد تغيير النصوص السلبية ودعم الحقوق الانتخابية لكل المواطنين عن طريق إنعاش الروح الديمقراطية في القانون وتخليصه من الدوران في سوق بورصات الطائفية السياسية وما يترتب منها من تجزئة قوى الشعب وطاقاته.
قال جان جاك روسو في العقد الاجتماعي ((يعتقد الشعب الانكليزي انه حر وهو بذلك يرتكب خطأ كبيرا فهو ليس حرا إلا أثناء انتخاب أعضاء البرلمان وما أن يتم ذلك حتى يعود عبدا. انه لا شيء)). هذا ما حصل في العراق عام 2005 فقد مارس الشعب العراقي حريته الانتخابية لأول مرة في حياته في ظل الإرهاب ومفخخات الشوارع. كان حرا فعلا في الممارسة الانتخابية، لكنه سرعان ما عاد عبدا، كما تنبأ روسو لان البرلمان العراقي منذ جلسته الأولى وحتى جلسة إقرار قانون انتخابات 2010 كشف في جوهر أعماله واجتماعاته وقراراته ومناقشاته أنه غير معني لا بأفكار الشعب ولا بمصالحه الأساسية وانه لا يوجد تطابق بين إرادة الشعب العراقي وتلك الإرادة التي مارسها غالبية النواب أنفسهم. بذلك أساء النواب إلى الانتخابات والى الحرية والى الديمقراطية فقد أكدت هذه الغالبية في ممارساتها على حقيقة استقلال البرلمان وأعضائه عن الشعب العراقي وأبنائه. ضاعت لمدة أربع سنوات حقوق الشعب العراقي كلها حين اصبح (لا شيء) كما تنبأ جان جاك روسو في العقد الاجتماعي.
يمكن تعزيز هذه الحقيقة بالإشارة إلى الممارسات البرلمانية التالية :
(1) غالبية النواب كانوا أحرارا في أرائهم دون أن يلتفتوا إلى آراء ناخبيهم. لم تجر أي كتلة نيابية كبرى أي اجتماع للمراجعة وتبادل الأفكار مع ناخبيهم.
(2) توخى اغلب النواب مصالحهم الشخصية في عدة قرارات (الرواتب والمخصصات الكبيرة، توزيع قطع الأراضي الراقية الموقع والغالية السعر، الحصول على جوازات سفر دبلوماسية لهم ولعائلاتهم لزمن طويل) إلى جانب إهمال المصالح الشعبية كلها تقريبا.
(3) بسبب القائمة المغلقة بانتخابات 2005 فلم تتوفر حرية الناخب باختيار من يشاء ليكون ممثلا عنه بالبرلمان مما قطع، تاليا، علاقة النائب بالناخب.
(4) ما كان المواطنون العراقيون خلال السنوات الأربع الماضية يحسون بأي ارتباط بالبرلمان.
لا أنكر أن هناك في انتخابات ما بعد 2003 عما قبلها انه توفر فيها بعض جوانب (الاختيار الحر) لكن هذه الجوانب تظل محدودة بموجب قانون الانتخابات لعام 2005 وبموجب تعديلاته الأخيرة لانتخابات عام 2010 حيث تضيع ملايين الأصوات هباء من القوائم غير الفائزة لتضيف قوة ومنعة للقوائم الكبيرة المالكة لطاقات المال السياسي والدعاية التعبوية وبرامج الطائفية السياسية التي تلعب دورا كبيرا في تشتيت رؤى الناخبين وضياع أصوات الملايين من الناخبين (كما في انتخابات مجالس المحافظات عام 2009) لصالح الأحزاب القوية الطامحة بالسلطة للبقاء على عرشها إلى أطول مدى ممكن وربما مشابهة لمقولة صدام حسين (جئنا لنبقى) مما يتعارض أوليا وجوهريا وكليا مع أهم مبدأ من مبادئ الديمقراطية واعني مبدأ تداول السلطة.
من الصعب جدا الحديث عن انتخابات ديمقراطية عندما يكون القانون عاجزا عن إيجاد تكامل حقوق الناخبين في ممارستهم لكامل حريتهم الانتخابية وليس تجزئتها كما هو الحال في القانون الذي أوجده البرلمان يوم 8 – 11 – 2009 الخالي من مواد تضمن وتحمي تلك الحقوق من قدرة بعض رجال الدولة ومنتسبيها ومن رغبات الحاكمين المسيطرين عليها وعلى البرلمان الذي تنقصه قدرة الإحساس ليس فقط بملامح العصر، بل تنقصه قدرة الإحساس بمشاعر المواطنين العراقيين الذين ينتخبون أعضائه.
بصرة لاهاي
كتب بتأريخ : الثلاثاء 17-11-2009
عدد القراء : 2669
عدد التعليقات : 0