التاريخ السرّي لكفاح المرأة العراقية ضد دكتاتورية صدام
بقلم : عامر القيسي
عرض صفحة الكاتب
العودة الى صفحة المقالات

للتأريخ وجهان .. وجه يكتبه السلطان باقلام حاشيته ومريديه وطبالته ومزوريه .. وتأريخ سري آخر يكتب في الدهاليز والحكايات الشعبية والتضحيات الجسورة ، تاريخ لاتطاله الاضواء ولا يهتم به المنتصرون ويتغابى عنه المستفيدون ، فيما يكتبه اناس بسطاء متعاطفون مع حركة التأريخ دون ان يعرفوا محتواه ولا صيرورته ولا اتجاهاته، اناس من لحم ودم ومخاوف، لكنهم يفعلون فعل الوعاة والخبراء والسياسيين والمتفقهين ..

المرأة العراقية من النوع الثاني الراقي والمتألق المتفاني .. سطّرت في ملحمة النضال العراقي ضد الدكتاتورية الصدامية ملاحم مخفية تلاشت وضاعت وسط فوضى التحولات ، مابين الانقلابات والنضالات الجماهيرية والانتفاضلت والاحتلالات ..

نضال من نوع خاص .. مميز.. استثنائي.. متمرد وحيوي ..عراقي بامتياز .. يحتاج الى مساحة من التأريخ والجغرافية  والنظرة السياسية والانسانية والاخلاقية لنمط من النضال المميز قادته نساء مناضلات من الطراز الصعب التوصيف .. نضال نادر متخم بالتضامن الانساني الحقيقي .. هو نوع من التأريخ غير المسجل للنصف الآخر منّا .. نحن دعاة السيطرة المطلقة على التأنيث االبشري كما نزعم وندعي .

القصص التي اوردها ليست خاصة ولا حصرية انها انموذجا للنضال الذي خاضته المرأة العراقية وعيا وتضامنا .. مع الاخ والزوج والحبيب .. نضال من طراز خاص ، مفعم بانواع من التضحية النادرة التي يصعب التقاطها في زوايا الكتب واسرارها ..

تأريخ يراد منه ان يبقى سريا لصالح اؤلئك الذين يعتقدون ان الله خلق آدم فيما اتت حواء طارئة .. لكنها من بين اضلعه .

أمي الامّية ..

كنت قد غادرت وطني عام 1979 بعد ان تعذر االبقاء فيه كما اشتهي ، ولم يعد ممكنا ان اعيش بادنى اشكال الحياة الانسانية، وودعت امي على امل اللقاء بها في زمن مجهول ..  زمن تائه لاحدود له مفتوح على كل الاحتمالات .. زمن سديمي مفتوح على المجهول ..شجرة تقتلعها من اقصى امتداداتها في تربة لها طعم ورائحة ومذاق، وتقذف بها في الهواء..

في عام 1982 اتتني واالدتي الى بيروت ، العاصمة التي لادولة لها ولا حكومة ولا قانون ، وكانت الميليشيات من كل الانواع والاشكال تتحكم بها.. مدينة مغضوب عليها من انظمة االقمع والموت والمعتقلات الابدية .. مغضوب عليها لانها كانت الصدر الحنون لكل المضطهدين في بلاد العرب اوطاني قاحرقوها.. لكن صدرها بقي واسعا وحنونا ومتكبرا .. جاءت أمي محملة  بالحب والشوق والاحتيال على السلطة وقوانينها الجائرة غير الانسانية .. كان السفر ممنوعا ، ولقاء الاحبة محروجا .. ويا ليتها لم تأت .

هذه الام الامية اتتني بمهمة حمّلتني مسؤوليتها السياسية والانسانية ، رمت امامي صورا لعائلة محكوم عليها بالاعدام وقالت لي “ يجب انقاذ هذه العائلة” وبين اليجب والمحاولات، انصعت لمطلبها الذي جاءتني به من “خلف الحدود” ..

يتذكر جيدا على ما اظن صديقي التأريخي والمترجم المبدع سعدي عبد اللطيف، الليلة المتوترة التي خبأنا فيها جوازات سفر مزورة اردنية للعائلة المطلوب انقاذها من مقصلات النظام الصدامي، وكيف خبأنا الجوازات بين ثنايا الحقيبة ... وكيف ان امي كانت تحدق فينا متوترة مهمومة وهي تعب انفاسا عميقة من سجائر “جيتان” الفرنسية  القوية التي لم تتعود عليها ..

احن الى خبز امي

وقهوة امي

يوم الوداع كان مشحونا بالخوف والترقب والشك.. ولم يكن بامكاني ان اودعها حتى المطار فقد كانت تعليمات الحزب الشيوعي العراقي وأمن منظمة التحرير الفلسطينية بتجنب توديع اي مغادر الى بغداد من مطار بيروت، لان المطار ملغوم بالمخابرات العراقية فضلا عن المتعاونين معهم من الدرك اللبناني .. .

طارت المرأة العراقية التي هي والدتي وطار معها قلبي ..فهل من المعقول ان ارسل كبدي الى مقصلة النظام ؟

كيف ستستطيع التماسك والتخلص من اعين اجهزة النظام الامنية في المطار المدربين على قراءة الوجوه والافكار؟

كانت بيروت مخيفة.. والقادم منها مشكوك فيه الا اذا كان يحمل جواز السفارة .

شعرت باالندم .. لكن كانت ثقتي بوالدتي كبيرة ، فقد خبرتها بمواقف كبيرة وكثيرة ، وهي الامرأة العراقية التي لاتجيد  القراءة والكتابة، وتحديدا عندما كنت مبتهجا بالتحالف مع البعثيين عام 1973 عندما قالت لي جملة مازالت ترن في اذني حتى اللحظة “ اللي ايده بالدم ميصير آدمي حتى لو بالجنة” ويومها سخرت من مستوى وعيها ورحت احدثها عن الضرورات التأريخية وان التاريخ لايعيد نفسه الامسخرة، كانت تهز برأسها كما لوكانت تسخر من قراءتي للمستقبل، وتختم هزنها بالقول “نشوف”..

وفعلها التأريخ رغما عن الجميع .

وعليك ان تتصورفقط ذلك الزمن مابين احتيال الحقيبة وحقيقة الصباح القادم ..

في صباح مزحوم باخبار الجثث التي لاتجد من يحملها على جبهات القتال مع ايران ، وصلت العائلة المحكومة بالاعدام الى بيروت على متن طائرة للخطوط الجوية العراقية.

اذن نجحت المهمة التي حملّنا كل آثارها الى المرأة العراقية التي هي امي .. الرحمة لها.

الشهيدة نضال ..

مشروع ناقص للحب ..

نضال عباس.. فتاة رقيقة لاتفقه في السياسة والسياسيين، جارتنا الطاالبة في كلية العلوم ، سمعت منها اختلافها مع اخيها البعثي، و” قررت “ ان اكسبها للحزب الشيوعي ، وتجاوبت نضال معي وانخرطت في صفوف الحزب وتصدت لليعثيين في الكلية والمنطقة، واشعر الآن بالذنب لاني سقتها الى مقصلة نظام صدام فقد ظهر اسمها كواحدة من اللواتي تصدّين لجلادي النظام الصدامي، وكانت انموذجا للمناضلة الحقيقية التي استشهدت من اجل المباديء والاقكار الديمقراطية ، قيل لي  انهم ساوموها على كل ما لديها بما في ذلك جسدها الا ان نضال كانت اكبر من صغائرهم واختارت طريقا صعبا .. انه طريق المرأة العراقيىة التي تحب وتختار ثم تضحي و تستشهد .. .

مازالت نضال عباس جزءأ من الذاكرة النضالية العراقية ، ليس نموذجا فرديا في تصدي المرأة العراقية ، وانما تجسيدا للروح النضالية التي تتمتع بها.

كلما ارى صورتها من بين شهداء الوطن المنكوب بالموت اتحسس ابتسامتها الرقيقة .. واحاول جاهدا ان اتصور كيف واجهت نضال اؤلئك القتلة وهي الرشيقة الشفافة الانسانة الكبيرة.. انسنة من نوع خاص اختارت الطريق الصعب في زمن قتحت فيه كل الابواب للتزلف والتمتع بحياة من نوع آخر..

نضال عباس .. اختارت الاجمل والابهى .. ولكن الاصعب والاكلف ثمنا.. من يذكرها الآن؟ .

شميران ,, امرأة بلا توصيف .

لا ادري ان كانت شميران المرأة المناضلة ستكون  راضية عما ساقوله عنها بعد ان اصبحت مرشحة برلمانية بعد سنوات عجاف من النضال والآلم والحرمان .. امرأة مسيحية وافضل اصدقاؤها من المسلمين ، وهي لاتميز بين يومي الاحد والخميس .. فكلاهما اياما لله.. هكذا تقول ؟”شمي” كما يحاو لاصدقائها ان ينعتوها..

وانا شخصيا احب “شمي” لانها عابرة للطوائف والاديان، ولانها في زمن العسف الصدامي، كانت نموذجا للتحدي والمطاولة والرفض، تحمّلت كل ما لايمكن تحمله ، وشقت طريقها بين الغام االبعث الصدامي”، صافية نقية متألمة صامتة ، خدمت الذي “ يسوى والذي لايسوى” من اجل ان تبقى نقية..

وبقيت شميران، انموذجا للمرأة العراقية التي كافحت ليس من اجل مستقبلها، الذي كان ضائعا، وانما من اجل العراق الجديد.

شميران صديقتي و انا صديق تأريخها النضالي، وهي بالنسبة  مشروع تأريخ  سري،  تجاوزته انظمة القمع والتزوير، مستثنية منه لحظات الصفاء القكري، التي عادة ماتنتهي بالتوافق .

حين كان الرفاق يقبلون احذية عدي وقصي كانت شميران تنتقل من بيت الى بيت متخفية .. هاربة من اعين العسس..وفوق كل ذلك كانت شميرات تمشي على الجمر، حينما كانت توزع المنشورات الحزبية المناوئة للنظام ، وما اختارت يوما طريقا معبدا ، كما لوان الله خلقا للمشاكسة والمعارضة ..والحقيقة ايضا ...

تحياتي لها اينما كانت وتكون.. لاني ارى فيها وطنا خانه الجميع .

عشتار .. ذاكرة أمرأة ..

استطيع ان اجزم  اني تعلمت من امرأة اسمها الحركي عشتار، الكثير من فنون احترام المرأة، وامحت هذه المرأة الغائية الحاضرة،الكثير من  “رجولتنا” العربية ، فاتحة لي شخصياـ افكارا جديدة عن العلاقة بين الجنسين..علّمتني حقيفة ان الرجولة ، في احترام المرأة وليس في السطوة عليها.

غادرتني المرأة مع زو جها موسى “وهذا اسمه الجركي” الى كردستان العراق لتأسيس خلية حزبية في بغداد.. والنتيجة قبض عليهما معا في احدى سيطرات الجيش السابق .

كان في الامرخيانة .

توارت عشتار خلف ضباب الاحداث، واصبحت جزءا من تأريخ منسي، تأريخ لنا ، نحن المنسيون في طيات التأريخ والتباساته، فيما تقلد ممسوسون وسماسرة وادعياء وسحّارون وبغاة تعاويذ مسلة حمو رابي وحضارة بابل .

عشتار الغائبة الحاضرة ..مدرسة حقيقية للمعرفة والجدال وتبادل الافكار والسلطة .. تعلمت منها ، التواضع والوضوح وقوة الشخصية والايمان بالافكار والنضال من اجلها والتضحية في سبيلها.. عشتار اختفت في ظروف غامضة اشبه بالخيانة.. .

كانت تحلم بوطن من ورود واطفال وابتسامات وغيوم وامطار ..

حلم مشروع تكائن بشري يختلف .. لانه لاينتظر ان يحقق له احد احلامه .. ذهبت عشتار الى حلمها .. ساعية اليه.. مقدمة من اجله اثمن مايمكن ان يقدمه انسان ..

قدمت حياتها بصمت وسرّية على انقاض الاحلام المتواضعة في الاسرة والاطفال والبيت .

كان في رأسها شيء اكبر من كل هذه العناوين ..

انه العراق ....

كان رأسها متخما بهذه المفردة كلما التقيها كانت تقول لي “ والعراق شلون؟”

في زمن كانت كل الطرق مؤدية الى السويد والدنيمارك وباريس ولندن  .. لكن عشتار كانت في طريق آخر ..

طريق يبتدأ من بيروت ثم دمشق والقامشلي والعبور الى حافة الحلم الذي في رأسها..

كان حلمها يتطلب ان تذهب الى بغداد مع زوجها ورفيقها وحبيبها ..

الى بغداد .. هناك كانت تقول تتحقق الاحلام ..

لكن الخيانة كانت لها ولحلمها بالمرصاد..في الطريق الى بغداد وفي احدى السيطرات الامنية.. حدق فيها ذئب كاسر وهز رأسه ، هزّة “الانتصار” وسحبها من يدها الى المجهول ، فيما اقتاد الذئب الآخر زوجها من جهة السيارة الثانية الى المجهول ايضا .

عشتار يا صديقتي في أي مقبرة انت ؟

لاتبتأسي كثيرا فالموت لم يعد طارئا في هذا الحلم .. انه من اهل الدار وليس من ضيوفها ..وحلمك سيبقى معلقا طائرا لايتمكن منه الرصاص .. اغتالتك الخيانة لكن حلمك عصيّ وممكن وجميل ومازال هناك من يدفع ضريبة تحقيقه وان ابتعد كثيرا واصبح صعب المنال .

بلاحدود

قصص بلا حدود..لنساء كتبن تأريخا مختلفا ، فتحت بعد سقوط النظام ملفا بعنوان “ ذاكرة امرأة عراقية” وكان ما وصلني لهذا الملف عن البطولات الخارقة لنساء عراقيات اخترن التحدي .. في زمن كان فيه الانبطاح امام جبروت السلطة الصدامية قانونا ساريا في البلاد .. قصص خرافية تكاد في بعض مفاصلها تخرج عن نطاق العجيب والمدهش لتدخل في خانة المستحيلات..

هذه المرأة العراقية التي يراد لها ان تتنمط بقانون للاحوال الشخصية يبيح نكاحها وهي في التاسعة من عمرها ..

تحية للمرأة العراقية وهي تحتفل بعيدها ..

تحية لها وهي تحمل وزر مرحلة جديدة من مراحل الحلم االبعيد ..

تحية لحزنها الشقيق وهي تودع احبتها كل يومن ثم تنهض لتشق في الحياة حلما جديدا .

  كتب بتأريخ :  الإثنين 24-03-2014     عدد القراء :  4542       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced