ثورة 14 تموز محاولة رقم 8 ..
بقلم : جاسم المطير
عرض صفحة الكاتب
العودة الى صفحة المقالات

ما أن يأتي شهر تموز ، كل عام ، حتى تتراءى امامي، مثل كل إنسان ٍعراقي من جيل خمسينات القرن الماضي ، صور وذكريات عن ثورة 14 تموز ، التي ارتبطت انجازاتها بالزعيم عبد الكريم قاسم. حقاً  أقول أن في كل تموز ، بكل عام ،  تتقدم ذكريات أو تتجمع غيرها لتضيف الى المقروء منها حادثةً ما أو فكرةً ما لتتربع على عرش المقالات والابحاث بهذه المناسبة ،التي تأكدت فيها أشياء واحداث،  وما زالت أشياء واحداث كثيرة لم تتبلور، بعد ُ. احاول ،اليوم ، بمقالتي السريعة هذه أن اتناول بالذكر بعض جوانب الثورة التي تتعلق بموعد (توقيت) شروق شمس تلك الثورة التي انضجت اللمسات الاخيرة على مشروعها في التحرك فجر يوم الرابع عشر من تموز عام 1958 بالذات.

كانت فرصة حصولي – كناشر عراقي – على حقوق نشر كتاب الملك الاردني الراحل الحسين بن طلال المعنون (مهنتي كملك) من مالكها الأردني السيد سفيان أبو طوق بمبلغ نقدي دفعته مقدماً بمجرد تقليب بعض صفحاته ومن دون أن أعرف موقف وزارة الاعلام العراقية هل تسمح لي بإصداره أم لا . كتاب الملك حسين ذاك حين قلبتُ بعض صفحاته وجدتُ أنه  ضم فيها  بعضاً من  ذكرياته ومذكراته عن العراق وعن قادة نظامه الملكي و عن ثورة 14 تموز  وهي صفحات عاطفية تتعلق بارتباطه العائلي مع الملك فيصل الثاني وعن تحذيره تلفونيا له قبل بضعة ايام من الثورة قد جعلتني مهتماً اهتماما شديداً بالبحث عن الخطوط المستقيمة وغير المستقيمة ذات الصلة  بالتحضير السياسي والعسكري للثورة،  وقد شجعني الدكتور ابراهيم كبة على هذا الاهتمام حين اعطيته مسودة هذا الكتاب لقراءته والاطلاع عليه  قبل تقديمه لدائرة الرقابة في وزارة الاعلام العراقية للموافقة على نشره كما تقتضي شروط الرقابة ذاتها . بعد قراءته لمسودة الكتاب قال لي في اليوم التالي  ما معناه ان الكتاب سيحظى باهتمام كل من يملك قوة شرائية في سوق الكتب، كما سيحظى باهتمام كل من يتابع أو يدرس أهم حدث في التاريخ العراقي المعاصر.  لذلك قررتُ ان اطبع 25 الف نسخة بدلا من قراري الأول بطباعة  5000 نسخة نفذت بسرعة بعد حصولي على موافقة دائرة الرقابة.

توفرت  بعد ذلك  فرص الحديث مع الدكتور ابراهيم كبة في لقاءاتنا الكثيرة في مكتبي بعمارة فاطمة بالباب الشرقي عن ثورة تموز على اعتبار أن هذه الثورة، تظل مهما تقادم الزمان،  منجماً للبحث والنقاش بكل ما يتعلق باختيار أسلوبها وبصخورها وانفجاراتها ونتائجها امام كل المتنورين الساعين الى التغيير والى بناء الديمقراطية في بلادنا . كنتُ دائم الإشارة مع الراحل ابراهيم كبة إلى تسجيل بعض ذكرياته عن ذلك الحدث التاريخي الهام  لكنه دائما كان يرفض ان اشتق من موضوعات احاديثنا ما يمكن نشره في المستقبل.. كان يردد دائما ان النقاش حول الثورة،  في ظروف غياب الحرية ، يزيد خطوطها تشابكاً ويزيد موضوعاتها تعقيداً، خاصة وانه كان شديد الاهتمام بقراءة غالبية الكتب العراقية التي صدرت ببغداد في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، التي كان يسم العديد من معلوماتها بعلامات سلبية. كان يردد دائما أن الثورة تحتاج الى زهد في قلم الكاتب وإلى مستوى عقلي حر متقدم ،والى نضج موضوعي من قبل الباحث . كان يعرب عن اعتزازه بما تضمنه دفاعه عن ثورة 14 تموز ،وعن نفسه، أمام ما يسمى بـ(محكمة الثورة) عام 1964 التي انعقدت جلساتها في معسكر الرشيد وهي نوع من المحاكم غير العادلة في تاريخ القضاء العراقي. الشيء المهم الذي اندفعتُ إليه من خلال لقاءاتي مع الدكتور كبة هو اتجاهي نحو التحري عن كل ما يتعلق بثورة 14 تموز. بذلتُ جهداً كبيراً  بهذا الصدد بعد اطلاعي على نص دفاع ابراهيم كبة  أمام المحكمة الفاشية تلك، وهي المحكمة التي ترأس الادعاء فيها العقيد راغب فخري وهو نفس الادعاء العام الذي حاكمني مرتين ، الأولى عام 1956 بعد تأميم قناة السويس والثانية في نهاية عام 1963 بتهمة رفع السلاح بوجه انقلاب شباط رغم ان المحاكمة جرت بعد سقوط نظام الحرس القومي الفاشستي. لكن جهدي الكبير عن ثورة 14 تموز قد ضاع مع الاسف مع ضياع الكثير من أوراقي وكتاباتي ذات يوم من ايام تسعينات القرن الماضي .. ليس هذا المقال سوى محاولة اعادة الكتابة - عن بعض محاولات ثورية او انقلابية سبقت التفكير بيوم ثورة 14 تموز عام 1958 - بناء على طلب من (مجلة الغد) الغراء التي تصدر في مدينة البصرة و تحظى باهتمام واعجاب قرائها رغم محدودية أدائها .

حين افتتح الفنان سامي قفطان مقهى شعبية بسيطة في البتاويين قريباً من الباب الشرقي ومن شارع أبي نواس  كان تمريناً عملياً من جانب هذا الفنان لنيل العيش الكريم والبحث عن مصدر شريف لضمان كرامته بعد أن توقف أو كاد يتوقف الفن في العراق بسبب سيطرة مجموعة ذات علاقة بسلطة ذاك الزمان على جعل الفن بضاعة تجارية هابطة و كان الدكتور ابراهيم كبة يصر على أن نجلس في  تلك المقهى مرة واحدة او مرتين شهرياً  ليس فقط كمكان للقاء بعض الاصدقاء، بل لكي يشعر صاحب المقهى سامي قفطان انه على حق في سعيه للتجاوز على الحياة القاسية التي كان يواجهها في تلك الفترة العصيبة حين صار اغلب الفن المسرحي ، في تسعينات القرن الماضي،  من توابع السلطة الحاكمة التي سيطرت عليه وعلى انتاجه ومنتجيه.

كان الدكتور إبراهيم كبة يحب قضاء بعض الوقت مع بعض الناس الفقراء والكادحين و مع الشاعر قيس لفتة مراد الذي افقره انتماءه الى  حزب البعث، ماديا وشعريا ، إذ كان يعيش في غرفة صغيرة قريباً من تلك المقهى وهو من أشد المحبين لشخصية إبراهيم كبة، الذي كان بدوره يبادله المحبة والرعاية .  كما كان يأتي مع الدكتور كبة بصورة دائمة احد اصدقائه من النجفيين او الكربلائيين من خارج الوسط الثقافي.  اكثر من مرة قال لي:  هذا الواقع المحيط بالمقهى وبرواده وصاحبه والعاملين فيه هو ناتج من نواتج ثورة تموز بعد أن حوربت وتمزقت بقسوة بالغة من اعدائها وأصحابها حتى صار الفنان (قهوجياً) وصار الشاعر يلتزم الهذيان، تماما مثلما حوربت ثورة الشعب في شيلي حين صار الجنرال بينوشيه دكتاتورا عسكريا بعد إجهاضها وتشويه أهدافها والإساءة إلى قادتها.  مرة أشار لي الدكتور كبة بضرورة إيجاد عمل للشاعر قيس لفتة مراد فعينته مصححاً وخطاطاً في مؤسستي استجابة لإشارته.

أصبحت ثورة 14 تموز في ذهني بعد تنامي (الدكتاتورية الأصعب) في زمن سطوة صدام حسين صورة معقدة من الصور السياسية في التاريخ العراقي . مثلما صارت ذكريات تأسيس تنظيماتها الأولى  شكلا من اشكال التحديات الدراسية في الجامعات . كما صارت التجارب الشخصية لبعض قادتها أو المشاركين فيها  لا تحمل الاستبانة الكاملة عن موضوعات الثورة ، خاصة  في ما يتعلق بإثارة الشكوك حول (وقت) تنفيذها . كذلك صارت بعض احداثها في تجارب شخصية نشرت  في صفحات كتب المذكرات ، التي صدرت خلال العقود الاربعة (الستينات والسبعينات والثمانينات والتسعينات) وصارت  فاعليات الثورة مادة في تدريس الطلاب في الجامعات العراقية خصوصا طلاب الدراسات العليا (الماجستير والدكتوراه). كما انها صارت لدى بعض خصومها موضوعا من موضوعات التجاوز الاخلاقي عليها وعلى قادتها وذلك بالتناول غير الصحيح عن دوافع قيامها واساليب عملها ومنجزاتها وقد كان الكثير من المقالات والابحاث والشهادات والاستشهادات والمراجعات والكتب حول الثورة ليست دقيقة في بعض جوانبها إن لم تكن محرفة او منحرفة او انها دراسات لا تمثل بيتاً كامل البناء والمحتويات.  لهذا اقول ان الكثير من الآراء التاريخية عن ثورة 14 تموز لم تكن مقبولة ولا متقنة في تلك الفترة وليست صائبة ، كما ان بعضها كان يتضارب مع بعض اخر ما عدا القليل الموضوعي.

من الاصول المختلف عليها او الموضوعات المثيرة للاختلاف هي وجود استقراءات لعدد كثير من الباحثين والقائلين – في مصر – خصوصا من الذين صنفوا الثورة العراقية يوليو 1958  بأنها (تقليد) لثورة يوليو المصرية عام 1952 وان منهجية الثورة العراقية انبثقت من منهجية الثورة المصرية و بنيت على اساس انهاض مشاعر القومية العربية في (الوحدة والحرية والاشتراكية)، مما جعل مجموعات الاحزاب والمنظمات القومية في مصر والعراق كالتنظيم الناصري وحزب البعث العربي الاشتراكي يقرءون اسباب قيام الثورة العراقية باعتبارها ضرباً من ضروب الدوغماتية  لتأكيد حساباتها بأن (ثورة يوليو العراقية) هي مجرد صدى لـ(ثورة يوليو المصرية) من دون حسبان وجود تغاير في بنية البلدين ومن دون الاخذ بالاعتبار الخاصية التي تميز كل بلد من البلدين وان العقلية الشعبية والمعاناة في كلا البلدين رغم تشابهها في كثير من البنى السياسية لكن قواها واحزابها وقياداتها العسكرية والسياسية ليست متساوية التجارب السياسية في تحليل مساراتها.

تناول الكثير من الباحثين والمؤرخين أسباب قيام ثورة 14 تموز واحداثها وتفاصيل جوانبها لكنني ، هنا ،ارتأيت التعريف فقط بالمحاولات العديدة لقادة الثورة وهم يحاولون تدبير (الحالة) العسكرية واختيار (التوقيت المناسب)  لتحديد لحظة انطلاق ثورة تغيير النظام والمجتمع . سأحاول، هنا  في هذا المقال، القاء الضوء المركز على بعض المحاولات قبل يوم 14 تموز 1958 الذي كان يوما فاصلا منح الفرصة المناسبة لقادة الضباط الاحرار لممارسة مسئولية التحرك الثوري في اللحظة المناسبة ، في اللحظة التي توافقت تماما مع نضج الظروف ذات العلاقة الضرورية لنجاح التحرك واعلان الثورة ..

في الفترة اللاحقة لنهاية الحرب العالمية الثانية انتشر في العالم كله اتجاه جماهيري واسع النطاق ضد الفاشية وتنظيماتها ، كما توسعت الحركات المطالبة بالديمقراطية. نفس الشيء انتشر في العراق: النضال الجماهيري الواسع،  ونضال الاحزاب الوطنية، ومنها الحزب الشيوعي العراقي من اجل الديمقراطية واستطاع هذا النضال، الذي اكتسح الشارع العراقي في بغداد والبصرة وغيرها في مدن ريفية اخرى انتفاض جماهيري تمثل بنطاق واسع في مظاهرات عام 1948 وعام 1949 . وقد أثرّ هذا الانتفاض على بعض كبار القادة في الجيش العراقي ،خاصة بعد مشاركة القوات العسكرية العراقية في حرب فلسطين التي اتضح فيها خضوع النظام الملكي في بلادهم لخطط الدول الغربية - بريطانيا خصوصاً - الرامية الى تقوية الدعوة لتنفيذ وعد بلفور واهمال مطالب الشعب الفلسطيني في الحرية والاستقلال وقد بدأ الضباط الوطنيون في تبادل افكارهم لتشكيل تنظيم سري للضباط الاحرار.

من المعروف ان حركتي التغيير الوقتي والقصير والمحدود ، عن طريق انقلابين عسكريين ، قام بها كل من القائد (العسكري الكردي)  بكر صدقي في اكتوبر عام 1936 و(القائد السياسي العربي) ذي النزعة القومية اليمينية رشيد عالي الكيلاني في آيار1941  لم تكونا مستندتين على تنظيم عسكري سري للضباط المتعاونين معهما ، بل على علاقات سياسية مع شخصيات لهم نفوذ في الجيش والدولة . لكن وثبة كانون 1948 التي كانت قيادتها بيد القوى اليسارية العراقية بمساهمة فعالة من تنظيمات  الحزب الشيوعي العراقي دفعت بعض العناصر القومية داخل الجيش العراقي الى انضاج فكرة وضرورة  وجود تنظيم عسكري سري (الضباط الاحرار).  يقول بعض الباحثين القوميين من امثال خليل ابراهيم حسين ومحمد حمدي الجعفري  وبعض الباحثين المستقلين من امثال مجيد خدوري ومحمد حسين الزبيدي ان المحرك الرئيسي للدعوة الى تأسيس الضباط الاحرار كان الرائد رفعت الحاج سري آمر سرية الهندسة الثالثة وهو يحمل افكاراً قومية ودينية في آن واحد . يقال ايضا ان رفعت قام بمفاتحة ضباط اخرين لتشكيل تنظيم الضباط الاحرار من امثال العقيد الركن محمد نجيب الربيعي والمقدم عبد الكريم قاسم والمقدم الركن طارق سعيد فهمي والرائد الركن عبد الوهاب الامين والمقدم الركن اسماعيل علي والرائد الركن داود الجنابي والرائد طاهر يحي والرائد محسن الرفيعي والملازم الاول خليل ابراهيم حسين، لكن محاولات رفعت الحاج سري لم يجر تبنيها من قبل الاخرين، الذين عرض فكرته عليهم.  كما أن فرضية فكرة تنظيم الضباط الاحرار كانت تقليدا لتنظيم الضباط الاحرار في مصر أو انها مرتبطة بها لم يقتنع بها اغلب الباحثين العراقيين.  كان لضباط كلا البلدين محطاتهم المختلفة ودوافعهم المتعلقة بنشاطات سياسية وعسكرية مغايرة.

لكن ما يمكن القول به أن قيام ثورة يوليو عام 1952 في مصر كانت قوة عاطفية وسياسية دفعت بعض  الضباط العراقيين الى قيامهم بالجهود المحتملة لرحلة تأسيس تنظيم (الضباط الاحرار العراقيين) في سياق التقدم البطيء في الجهود المبذولة لتحقيق هذا الهدف بأسرع مما كان عليه الحال من قبل،  لخلق القيم التنظيمية الضرورية لقيام الثورة وقيادتها في العراق. بالفعل فقد نضجت وتبلورت فكرة توليد تنظيم الضباط الاحرار في نهاية عام 1952 وبداية عام 1953 وقد تنامت في تلك الفترة لقاءات واجتماعات ومناقشات الكثير من الضباط الوطنيين لتشكيل التنظيم .  انتشرت الدعوات بين عدد كبير من الضباط في معسكرات الموصل وبغداد والديوانية والناصرية والبصرة وكان أوسع النشاط قد تركز بين الضباط  والجنود الثوريين  في معسكرات ديالى ، خاصة بعد أن تراس الزعيم عبد الكريم قاسم اللجنة العليا لتنظيم الضباط الاحرار في ربيع عام 1958 وكان للتنظيم العسكري للحزب الشيوعي العراقي الدور الرئيسي في تعبئة الضباط الصغار وضباط الصف والجنود حول تنظيم الضباط الاحرار ، خاصة بعد تكثيف النشاط السياسي الواسع بين الجماهير والاحزاب الوطنية تمهيدا لإعلان تشكيل الجبهة الوطنية عام 1957 .

كان عدد من الشيوعيين واصدقاءهم داخل الجيش وخارجه على صلة مباشرة مع عبد الكريم قاسم بواسطة كل من رشيد مطلك وكمال عمر نظمي والرائد سعيد مطر . كان لهؤلاء الثلاثة سلسلة من اللقاءات السرية  والاساليب الهادئة التي مكنتهم من تحقيق هدف العلاقة الوثيقة غير المباشرة بين زعيم الثورة المرتقبة (عبد الكريم قاسم) وحشدها الجماهيري الأوسع المتمثل بـ(الحزب الشيوعي) وربما كان لهذه العلاقة هدف رفع المستوى السياسي لعدد من الضباط والجنود داخل المعسكرات .

لم يكن  يوم 14 تموز عام 1958 هو اليوم الوحيد الذي جرى تحديده موعداً لقيام الثورة واسقاط النظام الملكي وتحرير العراق من السيطرة البريطانية ، بل  كانت هناك جولات  من نشاطات واجتماعات ومناقشات  بين قادة الضباط الاحرار وتنظيمهم لتحقيق هدف يصبو اليه الشعب العراقي ،كله، والتكيف مع الاوضاع الجديدة في العالم العربي تأسيساً على حقيقة اشتداد الصراع العربي مع الاستعمار والصهيونية من جهة ومن اجل انتصار الديمقراطية والحرية في العراق ومصر ولبنان وبلدان عربية اخرى من جهة ثانية . كان الوعي  التقدمي ينمو مع مستوى سياسي متعاظم في  مجال كبير من نشاطات  شعبية متعددة ،مترابطة ومؤثرة ، في الساحات العسكرية مما جعل الوضع ممهدا لتحديد القيام بالثورة العراقية في عدة مواعيد ومحاولات ومناسبات سبقت تحديد يوم 14 تموز 1958 موعداً لقيام الثورة، التي اكدت فيها الخبرة الجماعية بتأثير من الضباط الشيوعيين والتقدميين على بضع نقاط رئيسية هي :

1.- أن تكون الثورة مفاجئة للجميع بتوقيتها واسلوبها وتفاصيل اجراءاتها حتى يمكنها الهيمنة على الوضع منذ اللحظة الاولى . وقد وضع التنظيم العسكري للحزب الشيوعي منظوراً مفترضاً للشعارات السياسية التي تواكب قيام الثورة .

2        - ان يكون بيانها الاول مثيراً وقادراً على تجميع القوى الشعبية والاحزاب الوطنية منذ اللحظة الاولى لانطلاقها وأن يشجع الجماهير الشعبية على المزيد من الجرأة في صد جميع ردود الفعل السلبية المحتملة من بعض القادة العسكريين المؤيدين للنظام الملكي.

3        - ان يكون بقدرة الثورة ان تلقي القبض فوراً على اقطاب النظام القائم المتمثل بالملك فيصل الثاني والامير عبد الاله ورئيس الحكومة نوري السعيد لأن هذا امر لا يستغنى عنه لضمان سلامة الثورة عند قيامها واستمرارها بعد نجاحها .

3        - ان يكون بإمكان الثورة تجميد اي حركة  معادية قد تقوم بها عناصر النظام في جميع الجبهات العسكرية والسياسية وفي دوائر ومؤسسات الدولة  وتجنب اي صدام مباشر داخل المعسكرات المؤيدة للنظام القائم .

وقد سعى الضباط الاحرار سعيا طويلا من اجل اختراق الخطط الامنية الموضوعة من قبل النظام الملكي لحمايته . كان هذا النوع من الاختراق يتطلب اجراءات ثورية سرية لتعبئة الخطوات اللازمة لتحدي جميع الصعاب والتغلب عليها كشرط رئيسي من شروط اعلان لحظة الثورة في زمان عراقي مضطرب اشد الاضطراب وفي ظل سيطرة استعمارية من خلال مؤسسة حلف بغداد (حلف السنتو) وخبرائه المنتشرين على نطاق واسع في اجهزة الدولة كافة.

كل ذلك كان يتطلب عملاً سرياً متقناً من نواح عديدة وقد واجهت قيادة الضباط الاحرار مصاعب عديدة كانت تجبرها على تغيير توقيت الثورة بمناسبات عديدة يمكنني الاشارة إليها من خلال العديد من المحاولات لإعلان قيام الثورة في ضوء مواعيد متعددة تم اختيارها قبل يوم14 تموز عام 1958 وهي  كما يلي :

1        -  المحاولة الاولى التي تم تحديدها  كانت في عام 1956 اثناء العدوان الثلاثي البريطاني – الفرنسي – الاسرائيلي على مصر حين تعاظمت حركة تظاهرات شعبية واسعة في بغداد والبصرة والنجف والموصل . كانت مظاهرات ذات حجم كبير في تحدي النظام الملكي  انتقلت تأثيراتها الايجابية الى داخل معسكرات الجيش.  في هذه المحاولة كان بعض (الضباط القوميين) يعتقدون ان توقيت الثورة اثناء الحرب مناسب جدا ، لكنهم اقتنعوا ،بعد ذاك، بأن يقظة النظام العراقي الخاضع لبريطانيا وعيونها المخابراتية ربما تحول دون نجاح الثورة فتقرر الغاء هذا الموعد بالاتفاق مع الصعيد الاخر من تفكير القادة الوطنيين داخل تنظيم الضباط الاحرار الذين وجدوا ان هذا التوقيت ليس هو الافضل.  

2        - المحاولة الثانية جرى تحديدها وفق خطة تقوم على (المباغتة العسكرية) التي جرى الاتفاق عليها  بهدف اعتقال (الملك فيصل الثاني) وولي العهد (عبد الاله بن علي) ورئيس الوزراء  (نوري السعيد) اثناء حفل استقبالهم اللواء التاسع عشر الذي يقوده الزعيم عبد الكريم قاسم  العائد من الاردن مع اللواء الذي يقوده العقيد عبد السلام عارف لكن المحاولة تقرر تأجيلها في اللحظة الاخيرة حين قررت الحكومة العراقية آنذاك إلغاء مراسيم مشاركة الملك والوصي ونوري السعيد في هذا الاحتفال إذ وجد الضباط الأحرار ان لا جدوى من القيام بأية خطوة ثورية يكون فيها اقطاب النظام الثلاثة الملك والوصي ونوري السعيد أحراراً من دون اعتقالهم ورميهم وراء القضبان لمنعهم من اي عمل معاد للثورة.  تبلورت في هذه الفترة بين الضباط الاحرار فكرة رئيسية تقول ان اعلان الثورة سيكون مجازفة كبيرة من دون تحديد حركة ونشاط  وتقييد نشاط قادة النظام الثلاثة الكبار .

3        - المحاولة الثالثة خطط لها ان تنطلق من كردستان وبالضبط من خلال اعتقال قادة الدولة الثلاثة اثناء وجودهم في منطقة (بيخال) لحضور بعض تدريبات الجيش العراقي على القتال الجبلي لكن المحاولة تأجلت بعد وصول معلومات مؤكدة بأن نوري السعيد وعبد الإله لن يحضرا إلى (بيخال). لذلك ظل المشكل الاساسي امام الضباط الاحرار هو في البحث عن الفرصة المناسبة القادرة على انجاح الثورة بتجميد حركة قادة الدولة تجميداً تاما بعد اعلانها . هذه المسالة جعلت الجميع في الجانبين، السياسي والعسكري، في حالة واسعة من الاسئلة والاجوبة في البحث عن اسلوب الثورة المحتملة وتوقيتها واستلهام نقطة التحرك الخفية وضمان نجاحها رغم ان السرعة في التحرك كانت امام الجميع مهمة معقدة جدا.

4        - المحاولة الرابعة جرى التفكير في اعلان الثورة يوم 6-1- 1958 بمناسبة عيد الجيش السنوي انطلاقا من معسكر الرشيد في بغداد من خلال الحفل الذي من المقرر ان يحضره الاقطاب الثلاثة،  لكن الخلافات كانت كثيرة بشأن هذه المحاولة بسبب عوائق فنية كثيرة كان من ضمنها عدم توفر القوة العسكرية القادرة على الاجهاز على قوة معسكر الرشيد الواسعة وقد اعتبرت هذه الخطة قبل يومين او ثلاثة من تنفيذها بأنها محاولة خطرة لا تخلو من (مغامِرة) .

5        - المحاولة الخامسة جرت  على اساس اعلان الثورة في يوم 11 – 5 – 1958 وذلك باستغلال القوات العسكرية المتجهة من مدينة (الحبانية) الى محافظة (البصرة) بعد مشاركتها في تمارين عسكرية بالذخيرة الحية في صحراء الدليم .لكن قبل يوم التنفيذ اصدرت وزارة الدفاع أمراً بضرورة نقل (قوة البصرة) بضباطها وجنودها وعتادها وآلياتها  بواسطة القطار وليس براً مما دعا الزعيم عبد الكريم قاسم الى إلغاء هذه الخطة .

6         المحاولة السادسة جرى التخطيط السريع لها ان تعلن الثورة  من تجمع احتفال في كلية الأركان العسكرية يوم 29 – 5 – 1958 بمناسبة مرور 25 عاما على تأسيس هذه الكلية لكن الخطة تأجلت بسبب عدم حضور عبد الإله ونوري السعيد إلى هذا الاحتفال  إذ كانا في سفرة خارج العراق.

7        المحاولة السابعة تقررت يوم 22 حزيران 1958 وذلك اثناء قيام اللواء 19 بأمرة الزعيم عبد الكريم قاسم واللواء 20 بأمرة العقيد عبد السلام عارف باستغلال مناسبة التدريب الليلي المقرر في ذلك التاريخ للزحف باتجاه بغداد واعلان الثورة حال قيام اللوائين 19 و20 باحتلال المراكز المهمة في بغداد،  لكن تحذيرا وصل الى الضباط الاحرار والى عبد الكريم قاسم بأن اجراءات امنية مشددة قد اتخذت ببغداد في ذلك اليوم نفسه.

8         المحاولة الثامنة تم وضع خطتها سريعاً  باتفاق اعضاء اللجنة العليا لتنظيم الضباط الاحرار حال صدور  أمر من رئاسة الاركان بوزارة الدفاع  بتحريك اللواء 20 من معسكر جلولاء واللواء 19  الى بغداد تمهيدا لنقله الى الاردن تعزيزا لموقف الحكومة اللبنانية ضد الانتفاضة الشعبية في بيروت، ولتقوية عضد حكومة الاردن كجزء من (كونفدرالية الاتحاد الهاشمي) آنذاك. نوقش الموضوع ، بعمق ودقة من قبل قادة الضباط الأحرار المجتمعين يوم 4 تموز في دار الزعيم عبد الكريم حيث تم اتخاذ القرار بإعلان الثورة يوم مرور اللواءين  ببغداد فتقرر استبدال مهمة الذهاب الى الاردن بمهمة السيطرة على محطة الاذاعة العراقية ببغداد، والسيطرة أيضاً على الجسور الرئيسية  والدوائر الحكومية ووزارة الدفاع وتطويق قصري العائلة المالكة ونوري السعيد بقصد اعتقال الأقطاب الثلاثة . وصلت هذه القوة المتحركة الى اهدافها بسهولة قصوى من دون اي صدام عنيف في الطرقات والشوارع، لكن الهدوء الظاهري العلني تمزق امام باب قصر الرحاب بمقتل العائلة المالكة باليوم الاول ومقتل نوري السعيد بالبتاويين في اليوم التالي . من ذلك اليوم ومن تلك اللحظة بدأت جدلية سياسية جديدة مع نجاح المحاولة الثامنة  على عموم مستويات السلطة، والاحزاب السياسية، والشوارع العراقية، في خلفية العادات الاجتماعية والانقلابات العسكرية في صراع بين البطولة الشعبية والتضحية والانتقام والعدالة .

استمرت هذه الجدلية الكبيرة حتى اغتيلت الثورة يوم 8 شباط عام 1963 بانقلاب دموي بأبشع أساليب الفاشية ثم أرتبط  لاحقا هذا الاغتيال مع انقلاب آخر في 17 تموز عام 1968 استمر 35 عاماً اسقطه الاحتلال الامريكي في نيسان عام 2003  إذ صار بوسع الشعب العراقي ان يحلم بنظام ديمقراطي، وبنوع من توازن الحياة الانسانية بحوامل فاعلة قادرة على صنع التغيير المطلق الشامل، لتحقيق الحرية الكاملة في  التعبير والتنظيم ،  والمساواة لشعوب بلاد الرافدين  كلها وهو نفس حلم ثورة 14 تموز وخطابها وتجربة زعيمها عبد الكريم قاسم.

كانت المحاولات الثماني ، جميعها ، تعني اول ما تعني ان طقوسها تعطي مكانا مميزاً للكلام عن وصف ثورة 14 تموز باعتبارها انقلابا عسكريا في بنيتها الأسلوبية العامة من قبل بعض الكتاب والباحثين ، لكن الجوهر الفعلي والرمزي في حركة يوم 14 تموز 1958 هو جوهر مميز له مكانته في الحديث عن وصف الحركة بالثورة ، خاصة وانها احيطت بحركة جماهيرية سيطرت على شوارع المدن العراقية كافة بعد اقل من ساعة من سيطرة القوات العسكرية على القصر الملكي ومؤسسات الدولة ومحطات الاذاعة .  ربما كان (شكل) التحرك الثوري شكلاً انقلابياً،  لكن غطاءه المشروع كان انتفاضاً شعبياً عارماً قاد الى (ثورة) احتلت مكانتها الساطعة في تراث النضال السياسي في العراق.

  كتب بتأريخ :  الأربعاء 15-07-2015     عدد القراء :  1629       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced