هل شارفت الرأسمالية على نهايتها
بقلم : عادل حبه
عرض صفحة الكاتب
العودة الى صفحة المقالات

يّة اشتراكية؟

بهذا السؤال الأول نبدأ بتحديد مفهوم الاشتراكية. وماهية الاشتراكية التي نسعى إلى تحقيقها؟ لنتجاوز ما إشار إليه ماركس بشكل مختصر في مؤلفه "نقد برنامج غوته"، وما كرره لينين في مؤلفه "الدولة والثورة" حيث اعتبرا أن الاشتراكية هي "المرحلة الأولى" التي تليها مرحلة أعلى هي " الشيوعية" ، يتم فيها إرساء مجتمع "لاطبقي" و "بدون دولة"، حيث لا يعيش فيها الإنسان الاشتراكي في ظل المنافسة والأطماع، بل على أساس "حاجته" و "قدرته" ويتمتع بمواهب كثيرة في مجتمع خال من التناقضات. إن هذا التعريف على درجة من الانتقائية والخيالية ( اليوتوبيا) وبعيد عن واقع اليوم، بحيث لا يمكن إدراجه في جدول عمل اليسار في عالم اليوم. وهذا لا يعني نفي "الخيال" (اليوتوبيا). علماً إن الإنسان بدون خيال إنساني هو إنسان خال من القيم الكبرى. ولكن الطوباوية هي هدف لا يمكن الوصول إليه، ويبقى بمثابة عنوان مثالي للحركات السياسية والاجتماعية والمقاومة الدائمة. فكلما خطى أي مجتمع خطوة صوب التقدم، فبالقدر ذاته ترتفع مستويات المطاليب والآمال والتوقعات.

أما فيما يتعلق بالمرحلة الأولى، فهناك تجارب متعددة "للاشتراكية" والتي عرف بعضها "بالاشتراكية الموجودة في الواقع". إن أهم الإجراءات "الاشتراكية" التي اتخذت في هذه المجتمعات هي إلغاء الملكية الخاصة لتحل محلها الملكية "الاجتماعية". واتخذت الأخيرة أشكالاً مختلفة في هذه البلدان، كان أهمها هيمنة الدولة على كل الشركات والمؤسسات الاقتصادية الكبيرة والمتوسطة والصغيرة. واتبعت أشكال فرعية ومن ضمنها الملكية التعاونية في بعض القطاعات وخاصة في القطاع الزراعي. وجرى في بعض الحالات، ولمدة قصيرة، السماح لبعض العمال في تأسيس ورشات لهم. وقد أسفرت هيمنة الدولة بشكل واسع على المرافق الاقتصادية إلى نتائج كارثية تمثلت في انتعاش البيروقراطية غير الفاعلة وخلق فئة اجتماعية مقتدرة وتخطيط اقتصادي مركزي لجميع القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وهو أمر لايمكن تحقيقه من الناحية الفنية. كما ارتكبت اخطاء جسيمة في المحاسبة مما أدى إلى اهدار مادي ومالي كبير. إن ذلك لا يعني نفي ضرورة التخطيط، فليس هناك أدنى شك بأن الدول المتطورة تضطر بسبب محدودية المصادر المالية والانسانية والطبيعية في البلاد إلى تحديد الأولويات الاقتصادية والاجتماعية من أجل تأمين الحاجات المتزايدة للمجتمع. إن ما يطرح من تساؤل في بحثنا هذا هو التخطيط الشامل والموحد على غرار ما جرى في الاتحاد السوفييتي. فقد أفرزت الملكية الاجتماعية للأرض عن طريق اللجوء إلى القسر والإكراه، مشاكل عديدة وأصابها الفشل الذريع. وما أن رحل ستالين، حتى تغيّر شكل ملكية الأرض بشكل كامل. وليس هنا حاجة إلى التذكير بالجوانب السياسية السلبية لهذا النهج الذي تكلل بإرساء الديكتاتورية وقمع الحريات في هذا النظام الذي وصف بالاشتراكية.

وعلينا أن نرى ما هي الدروس التي استخلصها أنصار استقرار بناء الاشتراكية المباشر من هذه التجارب، وماهي تركيبة الأطر الاجتماعية للملكية التي يطمحون إلى إرسائها؟ هل يسعون إلى تأميم الورشات الصغيرة لصناعة الألبان ودكاكين البقالة وصالونات الحلاقة، أو أنهم يقبلون بالاحتفاظ بالملكية الخاصة في بعض الوحدات الانتاجية وقطاعات التوزيع والخدمات؟ وهل أنهم ينفذون هذه السياسات عن طريق الإكراه والقسر أم عن طريق الإقناع؟ إن لكل من هذه الطرق نتائج خاصة بها، والتي تحتاج إلى بحث طويل. كما تُطرح قضايا كثيرة أخرى ومن ضمنها قضية الأجور والمساواة في الأجور والمكافئات في مختلف مراتب العمل، أو القبول بالتفاوت في الأجور والحقوق في مختلف مراتب العمل. وماذا سيكون دور التنافس البناء وتشجيع المبدعين؟ والأهم من كل ذلك، لنفترض قيام نظام اشتراكي في بلد ما، فكيف سيكون أداؤه على نطاق نظام العالم الرأسمالي؟ هل ستتبع سياسة الكعكة الرمزية والاكتفاء الذاتي، أو الإذعان للمطالب التي يفرضها نظام الرأسمالية العالمي؟ خلاصة القول، ما هو الفارق بين هذه الاشتراكية وبين تجارب الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي السابق والصين وفيتنام وكوريا الشمالية والتي باءت بالفشل؟.

أيّة ثورة؟؟

أما السؤال الآخر، فهو كيف يرى أنصار الاشتراكية التقليدية إمكانية استقرار الاشتراكية في البلاد؟ إن الطريقة المفضلة لأنصار الاشتراكية التقليدية هي "الثورة". ولكنهم في هذا الصدد، من غير المفهوم نوع الثورة، فمفهوم الثورة له أوجه متعددة، إذ هناك وجه جوهري، أي الثورة الديمقراطية أو الثورة الاشتراكية، وهناك وجه كمي آخر، أي ثورة الأقلية أو الأكثرية. لقد تحدث لينين بالدرجة الأولى عن الثورات الديمقراطية والشعبية، علماً إن هذه الثورات لم تكن "ديمقراطية". وفي الدرجة الثانية، ومنذ ثورات عام 1848 في أوربا، ساد مفهوم الثورة المتأثر بأوغست بلانكي، الثوري الفرنسي الكبير الذي تعرض للنقد لاحقاً من قبل ماركس وأنجلز.

أوغوست بلانکي (1805-1881)

في وقت سابق وفي بحث منفصل في هذا المجال، تطرّقت إلى جوانب لها علاقة مباشرة بالبحث الحالي مما يستدعي تكراره. إن ثورية بلانكي تستند إلى الأقلية النخبة التي يترتب عليها توجيه الثورة ضد النظم القائمة. والسبب في ذلك من وجهة نظره، هو أن أكثرية الشعب، وبسبب الحرمان والعيش في ظل سلطة الاستبداد السياسي والمذهبي، فهي غير قادرة على تشخيص مصالحها مما يستدعي الإرشاد من قبل الأقلية من قادة الثورة.

أما ماركس وأنجلز، فإنهما رغم اعجابهما ببلانكي، إلاّ أنهما وجّها نقدهما لنظرية المؤامرة لمن وصف بـ "كيمياوي الثورة" الذي استند إلى الاقلية المحدودة. وفي مقابل ذلك طرحا، ماركس وانجلز، نظريتهما الثورية التي استندت إلى "الحركة العفوية والمستقلة للأكثرية" و " والارتقاء الفكري للطبقة العاملة".

وهنا قد يُطرح السؤال التالي: هل كانت الثورات التي جرت بأسم ماركس والماركسية، بدءاً من الثورة الروسية ومروراً بالثورة الفلاحية الصينية وثورة الرعيان الألبانية هي من نوع الثورات الماركسية؟ أم أنها في الواقع ضرب من الثورات البلانكية؛ أي قادتها الأقلية؟. على الرغم من أن جميعها انطوت على حركات جماهيرية واسعة، ولكن هذه الجماهير والعمال كانت تتبع قادة الثورة عن طريق الإثارة. ويشير أنجلز إلى نفس الفكرة عند تناوله ثورات عام 1848 حيث يوضح أنه حتى لو شاركت الأكثرية في هذه الثورات فإنها تبقى ثورات الأقلية. ويذهب ماركس بعد سنوات، وهو الذي كان متأثراً بشدة بالكومونارد، إلى أبعد من ذلك ويضع علامة سؤال على اشتراكيتها.

کومونة پاریس، 1871

أيّة طبقة؟

إن المقولة المهمة الأخرى التي ظلت بدون جواب، وهي على أية قوة اجتماعية يعوّل أنصار الاشتراكية التقليدية لبناء الاشتراكية في هذا البلد أو ذاك؟ وهنا يجري التأكيد كله بشكل مباشر وغير مباشر على الطبقة العاملة. ولكن أية طبقة هذه وما هو تركيبها واصطفافها الداخلي؟ هل تشمل العمال من ذوي الياقات الزرق، أو جزء من ذوي الياقات البيض؟ في البدء إن الطبقة العاملة لم تعد تشكل الأكثرية في أغلب دول العالم، ولذا لا تستطيع أن توفي بدورها التاريخي الذي حدد لها. فالقسم الأعظم من قوى العمل في العالم يعمل اليوم بانتاج المعلومات وليس انتاج المواد. ثانياً، لو تناولنا العمال من ذوي الياقات البيض، فإنهم يشكلون طيفاً متنوعاً من حيث المداخيل والمكانة الاجتماعية والمطاليب، ولا يتسمون إلاَ بتجانس ضعيف. إننا لو تناولنا الأمر بطريقة أخرى، دون النظر إلى صحة ودقة أياً من هذه الطرق، وفصلنا الفئة الدنيا للموظفين عن الطبقة المتوسطة واعتبرناها جزءاً من الطبقة العاملة، وفصلنا في نفس الوقت الفئة العليا والماهرة من العمال عن هذه الطبقة وأضفناها إلى الطبقة المتوسطة، فماذا ستكون نتائج هذا التصنيف على تنظيم الطبقة العاملة؟ وعلى أي حال ماهو الدور الذي تلعبه هذه الطبقة؟ لقد قيل أنه يجب على هذه الطبقة خلال كل نضالاتها أن تتحول من " طبقة في ذاتها" إلى "طبقة لذاتها"، إلا أنه لم يجر تحديد الدور الذي تلعبه هذه " الطبقة لذاتها" بعد اكتسابها الوعي الطبقي. يعتقد أنصار الاشتراكية التقليديين أن لهذه الطبقة رسالة تاريخية تتمثل في إرساء دعائم "ديكتاتوريا البروليتاريا" في المرحلة الأولى – الاشتراكية. وبغض النظر عن كيفية الوصول إلى هذا الهدف، فإن ما يطرح هو السبب في تحديد هذا الهدف والذي يحتاج إلى التوضيح بعيداً عن التعصب التقليدي. ويضاف إلى ذلك ماذا سيكون دور الطبقة المتوسطة في هذه التحولات الاجتماعية؟ إن أنصار الاشتراكية التقليديين، رغم أنهم جميعاً وبدون استثناء كانوا وما زالوا جزءاً من هذه الطبقة، إلاّ أنهم لا ينظرون سوى نظرة إزدراء إلى هذه الطبقة. علماً أن جميع الحركات الاحتجاجية في العالم المعاصر، منذ أن ولدت هذه الطبقة، قد تم تنظيمها على يد هذه الطبقة ومن ضمنهم المثقفون والفنانون والمعلمون وأصحاب الاختصاص نساءاً ورجالاَ. وهذا لا يعني الاستهانة بدور العمال ولا المبالغة بالدور المتناقض للطبقة المتوسطة الجديدة في التحولات الاجتماعية. فالطبقة العاملة بحاجة إلى حليف، ولا يمكن أن نتجاهل الدور بالغ الأهمية للمثقفين والطبقة المتوسطة في التحولات الاجتماعية.

على أي حال، يجب الجواب على الأسئلة التالية، عند التأكيد على الدور المحوري للطبقة العاملة:

هل يمكن بناء الاشتراكية بدون المشاركة الواسعة للطبقة العاملة والكادحين وحمايتهم لها؟

وهل من الممكن تعبئة الطبقة العاملة بدون وجود اتحادات عمالية مستقلة والسير على طريق اكتساب الوعي الطبقي؟

وهل تستطيع الاتحادات العمالية المستقلة أن تقوم وتنهض بدون وجود نظام ديمقراطي؟

وهل يمكن للنظام الديمقراطي أن يقوم بدون مساهمة الأحزاب المختلفة وممثلي الطبقات والتيارات المتنوعة؟

اعتبر الكثير من أنصار الاشتراكية التقليدية أن هذه الأسئلة والأسئلة التي طرحت سابقاً تحريفية وبورجوازية واقتصادية وأكاديمية ورجعية. كما يعتبر البعض أن طرح مثل هذه الأسئلة كفر وارتداد محض. أما إذا ابتعدنا عن القوالب والرجوع إلى المتون والأحاديث بنقد عقلاني، وضمن الاحتفاظ بالمثل العليا، والتفكير بشكل عملي، فسوف نعتبر أن هذه الأسئلة منطقية وبناءة وليست تخريبية. فجميع التيارات والمحاميع لها منظريها. وعلى أي حال فإننا نأمل أن نعثر على أجوبة في خضم هذه الاتهامات والحملات. إن المشكلة الأساسية التي يعاني منها الكثير من اليسار التقليدي هي أنهم على اعتقاد راسخ بأن السير على نهج ماركس، والتفكير في إطار قالب واحد وإطار معين ويتصورون أنه محدد من قبل ماركس (والأكثرية منهم يرجعونه إلى لينين وماو). وفي الواقع، فإن هذا الموقف يتعارض مع نهج تحليل ماركس، ويؤدي إلى الابتعاد عن الفكر الحر والتفكير المستقل، بل ويشل قدرة الانسان على التفكير. وأصبح ذلك التفكير ضرباً من أشكال الشلل الأيديولوجي. وللأسف ، فإن البقاء ضمن هذه القوالب وعدم رؤية الواقع الراهن والسير على طريق المُثُل، يؤدي بالمناضلين السياسيين والاجتماعيين إلى الارتماء على الهامش ويتحولون إلى أقلية ولا يتركون أية بصمة على تحسين الفئات المحرومة، على الرغم من أنهم أكثر المناضلين حرصاً على إرساء العدالة الاجتماعية وتحسين حال أكثرية أفراد الشعب.

أي بديل؟

إن المراحل التي يمر بها التحول الاجتماعي لا يعني بناء جدار فاصل بين هذه المراحل. فالتحول الاجتماعي عبارة عن سلسلة من التغيير الاجتماعي المستمر والموصول وغير النهائي، حيث أن الكثير من عناصر النظام والتركيب الجديد تأخذ اشكالها في رحم النظام والتركيبة القديمة. ويشبه هذا التواصل الطيف الشمسي. فلا يوجد خط فاصل بين اللون الأزرق والأخضر ولا بين الأخضر والأصفر ولا الأحمر. فكل لون يتدرّج ويخفت لونه ليتحول تدريجياً إلى لون آخر. فإذا ما تمسكنا بموضوعة تدرج مراحل التطور، فعلينا أن نضيف مرحلة جديدة إلى جانب المرحلة "الدنيا" و المرحلة "العليا"، وهي المرحلة "التمهيدية"، أي مرحلة ما قبل مرحلة "الدنيا" التي تجد مكاناً لها خلال مرحلة الرأسمالية وفي رحمها. إننا لو تناولنا "المرحلة العليا" فهي ليست بمرحلة، بل هي أمل طوباوي يسعى إلى المُثُل التي ينبغي التحرك صوبها. أما " المرحلة الأولى" الاشتراكية، فمتى ما استطاع البشر الوصول إليها، فسوف لن تكون خالية من عناصر النظام الرأسمالي. فكما هو الحال في وجود عناصر من مرحلة الاشتراكية في النظام الرأسمالي، فإن عناصر من الرأسمالية تبقى أيضاً في مرحلة الاشتراكية. ولكن مع التقدم الذي تحرزه التركيبة الاشتراكية، ستفقد تراكيب الرأسمالية لونها. فعلى سبيل المثال، فإلى جانب ضرورة الحفاظ على جوانب من الملكية الخاصة، تبقى المنافسة البناءة والابداع والمكافأت على حالها. إن الاشتراكي الفرنسي الاصلاحي الكبير لويس بلانك الذي صاغ عبارته المعروفة " من كل حسب قدرته ولكل حسب حاجته"، التي استعارها ماركس لاحقاً، طرح قضية "المنافسة" في النظام الرأسمالي. وأشار إلى إنه كان على يقين بأن الرأسمالية قائمة على المنافسة، وبما أن قدرة البشر متفاوتة تبعاً لنوع تربيتهم، فإن الأفراد من ذوي الامكانيات القليلة يندفعون نحو المنافسة. لقد سعى بلانك في أثناء ثورة عام 1848 ان يطبق فكرة " الورشات الاجتماعية" حيث يعمد الأفراد من ذوي الحرفة الواحدة إلى تبادل المساعدة في عملهم. وعلى الرغم من فشله، ولكن هناك في الواقع إمكانيات وفرص متساوية للمنافسة البناءة. ومن هذا المنطلق، فإذا ما توفرت هذه الإمكانيات في المجتمعات المتقدمة، فإن المنافسة تعد من الأمور البناءة والضرورية على طريق التحولات الاجتماعية.

وعلى أي حال، فإن الهدف من هذه المرحلة التمهيدية والوصول إلى مرحلة الاشتراكية هو النضال الثابت من أجل تحقيق الاصلاحات الراديكالية في النظام الرأسمالي على المستوى المحلي والعالمي. وتتخذ هذه الإصلاحات جوانب متعددة، منها مواجهة الرأسمالية المنفلتة وسيطرة الدولة وتنظيمها لنشاط الاحتكارات المالية والمصرفية والانتاجية والخدماتية وتأميم المصارف واستقرار نظام مالي جدي وتأمين حق العمل والتعليم والصحة العامة واتباع سياسات حازمة تجاه الحفاظ على البيئة، والسعي نحو اتباع سياسة عادلة في التوزيع قدر الإمكان، واستتباب الديمقراطية الصناعية في جميع المؤسسات الانتاجية والخدماتية والقائمة على مشاركة واسعة للعاملين في هذه المؤسسات في اتخاذ القرارات.

ومن الوضح إن تحقيق هذه الإصلاحات الجذرية لا يمكن أن يكتب لها النجاح إلاّ في ظل نظام ديمقراطي قائم على العدالة الاجتماعية والمساواة واحترام موازين حقوق الإنسان. وبعبارة أخرى، استقرار نظام اشتراكي ديمقراطي جذري كشرط لتحقيق مثل هذه الإصلاحات. ويعتمد ذلك على النضال من أجل وصول حكومات تقدمية إلى السلطة في العديد من دول العالم، هذه الحكومات التي تستطيع تطبيق سياسة تقدمية على المستوى المحلي وكذلك على مستوى المؤسسات والمنظمات الدولية. ومن المعلوم أن استقرار مثل هذه الحكومات يعتمد على رأي ناخبين تقدميين في هذه الدول، وهذا بدوره يعتمد على نجاح التيارات اليسارية والتقدمية في جذب أكثرية الشعب في مواجهة القوى الرجعية.

وبدون شك، فإن هذا الطريق صعب للغاية، بحيث يبدو وكأنه حلم. ولكنه يبدو أكثر عملية إذا ما قارناه بالبديل الوحيد الآخر، أي الأمل باسقاط النظام الرأسمالي العالمي بواسطة ثورة تقودها الأقلية. من المعلوم أن الحكومة الرأسمالية بجوهرها هي حكومة رأسمال ومصالح يوفرها ممثليها. ولكن بمقدار ما يشتد عضد القوى التقدمية والحركات العمالية المنظمة وحركات الموظفين والنساء والشباب وأنصار البيئة، فبالقدر ذاته يصيب الضعف نفوذ الرأسمالية، والعكس بالعكس. وفي ظروف يصبح فيها عدم الاستقرار في العمل السمة الغالبة، ويتم انهيار نظام التأمين الاجتماعي للعمل الدائمي ويزداد جيش العاطلين عن العمل وتتعمق الهوة بين الفقير والغني وتتصاعد موجة النضال الطبقي، يصبح بإمكان اليسار العقلاني الراديكالي طرح شعارات واقعية وعملية وأن ينتشر بين القوى الاجتماعية وينظمها.

وإذا ما تخلى اليسار التقدمي عن السير في درب الأحلام، ووحد قواه مع القوى التقدمية الأخرى وتحوّل إلى حركة عمالية ضد الرأسمالية المنفلتة، فإن هذا البديل يستطيع بالتدريج أن يتقدم بشكل ديمقراطي وسلمي. وبمقدار ما هناك الكثير من التجارب من الثورات الفاشلة، فإن هناك تجارب كثيرة من الاصلاحات الفاشلة أيضاً. إن الكثير من تجارب الاشتراكية الديمقراطية قد انحدرت إلى اليمين جراء ابتعادها عن أهدافها، وهو ما ينبغي أن نستخلص الدروس منها. كما يجب أن لا ننسى أن من جملة مؤشرات الفشل ووقوع التيارات الاشتراكية الديمقراطية في شباك اليمين في اوربا وكندا يعود إلى عدم الحضور المؤثر لليسار الراديكالي في الميدان السياسي وفي النضالات الديمقراطية. لقد أدى غياب تيار يساري قوي في المسرح السياسي والذي يستطيع أن يلعب دوره في ايجاد تعادل بين التيارات السياسية المختلفة، إلى أن تنحدر التيارات الأساسية والوسطية نحو اليمين من أجل الحفاظ على وجودها. فهدف الاشتراكية الديمقراطية الراديكالية، خلافاً للاشتراكية الديمقراطية القائمة، هو النضال العملي الدؤوب من أجل الانتقال التدريجي من الرأسمالية.

آنطونیو غرامشي (1891-1937)

إذا ما أكد كارل ماركس على مقولة "الأكثرية الواسعة" و " المستقلة" و "الواعية"، فكيف يتم انخراط مثل هذه الأكثرية الواسعة في مثل هذه الحركة وفي ظل أية ظروف؟ وكما أشرت في موقع آخر، فإنه لمن الممكن العثور على جواب على هذا السؤال في ثنايا نظريات المنظّر الماركسي الكبير انطونيو غرامشي. لقد كان غرامشي على اعتقاد بأن" الطريق الوحيد لتدمير المجتمع القديم (النظام) ... هو البدء في بناء نظام جديد". وهذا النظام الجديد لا يبدأ منذ لحظة إسقاط النظام القديم، بل عبر عملية تراكم التدابير لتوفير الظروف ضد الهيمنة ( Anti-Hegemony) وفي أوج قوة النظام. وقد أرسى غرامشي مفهوم ضد الهيمنة والدور السياسي للمثقفين. ويقع على عاتق المثقفين العضويين لكل طبقة مهمة تشكل النظام الجديد، وتنظيم شبكة التنوير والمؤسسات والعلاقات الاجتماعية لمواجهة هيمنة الحكم، ومد وتوسيع العناصر المكونة ضد الهيمنة.

ومن الطبيعي أن مثل هذه العملية ستقطع طريقاً طويلاً. فما دام دور الرأسمالية لم يبلغ نهايته، فأمام البشر طريق طويل للوصول إلى بديله. وتستطيع قوى اليسار في كل بلد، بمعية القوى التقدمية الأخرى، أن تناضل من أجل تحسين ظروف أكثرية الكادحين واستقرار حكومة تقدمية باتباع سياسة واقعية وتقدمية وبدعمٍ من قبل القوى التقدمية في الدول الأخرى وفي المؤسسات الدولية ومن ضمنها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية والضغط عليها باتجاه اتباع سياسات تقدمية وضد الاحتكارات الرأسمالية، والسير تدريجياً نحو مرحلة تحقيق آمالها في العدالة.

  كتب بتأريخ :  الجمعة 22-01-2016     عدد القراء :  3258       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced