اقتحام السماء .. تأملات في الحراك الشعبي (8)
بقلم : رضا الظاهر
عرض صفحة الكاتب
العودة الى صفحة المقالات

حمَلَة مشاعل الفكر التنويري يضيئون الدروب !

يعكس التحول العاصف في الاطار الثقافي، رغم كل التباساته وانعطافاته، آفاق نهضة ثقافية يمكن، اذا ما توفرت لها الشروط الصحية، أن تعيد الاعتبار للعقلانية والتنوير، وتخلق فضاء ازدهار الثقافة الابداعية.

هناك حقيقة أن المجتمع لا يعاني من الفساد والتخلف والأزمات وغياب الخدمات والأمن حسب ... بل من مشكلة غياب أو تدني الوعي الذي تراجع، على نحو مريع، في ظل الاستبداد والدكتاتورية والحصار والاحتلال وما بعده من نظام سياسي جوهره المحاصصة الطائفية والاثنية، وعواقب ذلك على مختلف الصعد وبينها الروحي، حيث سيادة فكر وسلوك الانحطاط في المجتمع.

كل شيء في المجتمع مرتبط، كما هو معلوم، بالوعي وبنمط التفكير. فما هو دور المثقف في إشاعة الوعي موقفاً سياسياً أو ابداعاً جمالياً؟ ما موقفه ازاء الثقافة السائدة، الوعي الزائف، السلطة، النظام السياسي، قيم التخلف، حقوق المرأة ... الخ ما يمثل كوابح للمجتمع العراقي؟

هل المثقف يتابع حركة المجتمع؟ يعمق اتجاهات هذه الحركة؟ يسهم في تحديد وجهة التطور؟ كيف يدعم المثقف الاصلاح؟

معلوم أن صوت المثقف أعمق وأكثر قدرة على رصد الجديد والتنبؤ بالحدث. أمام المثقف أن يساهم في الاجابة على أسئلة حارقة من قبيل: العراق يبقى أم لا؟ ماذا بشأن الهوية الوطنية؟ ماذا بشأن وجهة التطور الاجتماعي؟ هذه الأسئلة وسواها ذات طابع بنيوي بل وجودي.

المثقفون في قلب الحدث

وفي سياق الحراك الشعبي بوسعنا أن نميز مشاركة واضحة ومتسعة للمثقفين، فهم الآن في صدارة المشهد وقلب الحدث. وقد "ذاب" ما كان يدعى "تعارض السياسي والثقافي" الى حد ما.

نجد في المظاهرات ملامح اجابات على بعض الأسئلة الملحة. كيف يمكن أن ينعكس الهم الحقيقي للناس، وهو ذو علاقة بالهوية الاجتماعية لا الجزئية أو الفرعية، في الموقف السياسي والاجتماعي للمثقف وابداعه الجمالي؟ هل يرصد المثقف هذه الظواهر، وهو الذي يتقدم في الحس والتنبؤ بالقضايا الكبرى؟ أم أن المثقفين مازالوا في أبراج عاجية، منعزلين، يائسين، محبطين؟ ملامح الجواب على هذا بدأت تتضح. ومشاركة المثقفين في الحراك مثال ساطع على خوضهم الصراع الاجتماعي وتصدرهم مشهد الاحتجاج.

ولا ريب أن من بين أهم سمات الحركة الاحتجاجية الجديدة تبرز سمة انخراط النخب الثقافية في هذه الحركة بقوة وبفاعلية ملحوظة، والمسعى الحثيث لهذه النخب لترشيد الظاهرة الاحتجاجية والمشاركة النشيطة في بلورة شعاراتها وتدقيق مطالبها، وإشاعة الوعي الاجتماعي بأهمية الاصلاح وضرورته، وفضح مواقف الجماعات المتطرفة والقوى المتضررة من الاصلاحات الضرورية.

وبما أن كل مشروع سياسي لابد أن يستند الى مشروع ثقافي، فان الديمقراطية هي الأساس الذي ترتكز عليه هذه العملية في صياغة مشروع نقدي يتمثل في إعادة انتاج العلاقات الضرورية بين الفكر والأخلاق والسياسة.

إن بلادنا تشهد حالياً مخاضاً عسيراً يكشف، من بين حقائق أخرى، أن وجهة التطور الاجتماعي والثقافي لم تحسم، بل لم تتحدد ملامحها الواضحة بعد. ويسهم هذا الالتباس في إعاقة خلق الفضاءات التي يحتاجها الإبداع الأدبي والفني ومنتجوه. ولا ريب أن الديمقراطية الحقيقية هي الفضاء الأرحب والشرط الأساس لازدهار الثقافة الإبداعية. وبهذا المعنى فان التساهل في وضع المثل الديمقراطية موضع التطبيق يمكن أن يكون مقدمة لنمط من الاستبداد يحول الثقافة الى أداة إعلامية لتبرير نهج السلطة السياسية، وهو نهج لا يُستبعَد أن يجد مثقفين "بارعين" في "بزنس الأفكار" القابض على كل الحقائق المطلقة. ويتعين علينا أن ندرك حقيقة أن بؤس الفكر السلطوي يمهد لنتائج سلبية في العمل السياسي قد تكون مدمرة. ويمكن القول، بشكل عام، إن سياسة خاطئة في حقل الثقافة تعكس خطأ ما في مفهوم السياسة ككل، ذلك أنه لا يمكن، من وجهة نظر واقعية، فصل الفعل السياسي عن الفعل الثقافي.

ويستدعي النهوض الثقافي المنشود، قبل كل شيء، التوجه الى المثقفين أنفسهم، فهم، وحدهم، القادرون، وبأدواتهم الثقافية، على تشخيص تعقيدات الواقع وإمكانيات المستقبل. ومن أجل حصول ذلك لابد من تغيير ذهنية النظر الى الثقافة، وايلائها حقها من الاهتمام باعتبارها إحدى الوسائل الأساسية لمعالجة الأزمة الروحية التي يعاني منها مجتمعنا، ووضع الأسس السليمة للتوجه الى خلق نمط جديد من التفكير يعد شرطاً لإشاعة الديمقراطية والثقافة. ويتعين أن يرتبط هذا التوجه بإجراءات عملية تجسد الدور الحاسم الذي ينبغي أن تلعبه الدولة ومؤسساتها المدنية في خلق الأسس المادية والروحية لنهضة ثقافية حقيقية وتحقيق متطلبات الحياة اللائقة لمنتجيها.

لقد أثبتت التجربة أن المثقفين قادرون، رغم الآثار المدمرة لمعاداة الثقافة والديمقراطية، على المقاومة والدفاع عن القيم الإنسانية السامية، وخلق مناخ تزدهر فيه المنابر الحرة الطليقة، ويصل فيه نتاج المبدعين الأصيل والجميل حقاً الى الناس. والحق إن وضع الثقافة والمثقفين يستحق أن يكون موضع نقاش على نطاق واسع في أجهزة الإعلام ومراكز الأبحاث والمعاهد والجامعات وندوات وحلقات النقاش وفرق العمل الإبداعية.

وعلى أية حال لا بدّ من الاعتراف، بداية، بوجود تباين في الآراء بشأن انخراط النخب الثقافية وتوسيع دور المثقف في الحركة الاحتجاجية المجتمعية الواسعة بتلاوينها العديدة ومرجعياتها المختلفة وموزائيكها الثري؛ فهناك من يسعى لاختزال هذا الدور وإكسابه مضموناً مفقراً، حيث يتم الفصل التعسفي بين المثقف ونشاطه الابداعي من جهة، بحيث يخضع لقاعدة سرير بروكوست، وبين انخراطه في الحراك المجتمعي منظّراً ومحرّضاً وناشطاً عملياً وفعالاً. فقد كان غرامشي، يرى المثقف، من خلال وجوده الاجتماعي، عالم الصراع الاجتماعي، فهو الذي يعيد صياغة المثقف.

ويتعين علينا الاعتراف بحقيقة أن الحركة السياسية لم تستطع عكس التغيرات الاجتماعية العميقة ونتائجها الفكرية في سياساتها الثقافية على النحو المطلوب المثمر، اذ بقيت متشبثة بالمواقف التقليدية من الثقافة، والنظرة الأحادية الضيقة التبسيطية للابداع، والاستلقاء على أرائك اليقين والمرجعيات السياسية والآيديولوجية. وكانت العلاقة مع المبدعين تفتقر، في الغالب، الى الأسس العلمية الواضحة والسليمة، وتعتمد على العفوية وآلية العمل الروتينية، والمراهنة على قوة ارتباط المبدعين بالحزب السياسي سواء كانوا داخله أو خارجه. وكان من الطبيعي، والحال هذه، أن يجري اللجوء الى تفسير مبسط لأزمة الثقافي والسياسي.

سمات الأزمة الثقافية

ليس من غير الدقيق القول إننا نواجه أزمة ثقافية (وهي، بالطبع، جزء من الأزمة الاجتماعية) يمكننا إضاءة بعض عناصرها وسماتها، فنشير الى:

- "غياب" (هو، في الجوهر، تغييب) لدور المثقفين يعكس الخلل في موقف النخب السياسية من المثقف وابداعه.

- غياب الدعم الحقيقي من جانب الدولة ومؤسساتها للنتاج الابداعي، وتخلي الدولة عن مسؤوليتها في انشاء البنى التحتية للثقافة وتوفير شروط ازدهارها.

- عواقب الدكتاتورية وحروبها واستبدادها، وآثار الاحتلال وسياساته المتخبطة والفوضى التي خلقها، ويأس المثقفين من السياسيين الذين لا تحتل الثقافة مكانتها اللائقة في أنماط تفكيرهم وبرامجهم.

- معاناة المثقفين من تأثير ثقافة الاعلام واحساس المثقفين بالتهميش على يد الحكام المتنفذين واستمرار نظرتهم الأحادية التبسيطية للثقافة الابداعية وتصوراتهم الشعبوية المبتذلة في فهم دور المثقف وخصوصيته.

- انسحاق المثقف تحت وطأة الاحساس بالاحباط والعزلة وطاحونة اللهاث وراء العيش على نحو يستنزف طاقته الابداعية.

وفي سياق تحليل الأزمة الثقافية لابد من النظر في مصائر الطبقة الوسطى. فقد تعرضت هذه الطبقة، وهي حاملة مشعل التنوير وحاضنة مشروع الديمقراطية والمدنية، الى "غيبات" عدة. واتضحت ملامح هذا الغياب منذ اشتداد الاستبداد ونشوب الحروب والحصار وعواقب ذلك. واضمحل دور الطبقة الوسطى منذ أوائل الثمانينات بوجه خاص ومايزال في فترة مابعد الاحتلال وحكم المحاصصات. وأدى هذا الغياب الفاجع، من بين أمور أخرى، الى تحول في البنية الاجتماعية وانهيار في القيم الثقافية وسيادة للانحطاط الروحي في المجتمع.

وفي سياق الأزمة يجري الحديث، على نحو ملتبس وغير منصف أحياناً، عن غياب لدور المثقفين. ونحن نعلم أنه كلما انحازت الثقافة الى جديد ضد قديم، والى حلم ونور ضد خنوع وظلام، واجه المثقفون، الساعون الى التغيير الاجتماعي، استبداد السلطة الساعية الى تأبيد الراهن.

ان مقاومة الاستبداد والكفاح من أجل الحرية والعدالة يقترنان بدور المثقفين التنويري، ومشاركتهم في أحداث عصرهم، وتعبيرهم عن معاناة شعوبهم وأشواقها. ويجسد تاريخ المثقفين العراقيين هذه الحقيقة الساطعة. فدورهم الريادي في التحول والتجديد معروف قديماً وحديثاً. وبقدر ما أصابتهم المحن والمآسي، فانهم حققوا مجد تنوير الناس، وتجسيد قيم الجمال والابداع. ولو استعاد المرء صفحات من تاريخ مثقفي بلادنا- اتركوا الصفحات المشرقة في التاريخ القديم للبلد الذي ظهرت فيه أولى الحروف وأولى القصائد والملاحم وأولى الشرائع - لعرف حقيقة الدور الذي مارسوه. وليست معارك عشرينات القرن الماضي الفكرية، ومعارك العقود التي تلتها سوى جزء من حقيقة الدور التنويري والريادي للمثقفين.

غير أننا، على خلاف فترات سابقة، سواء في التاريخ القديم أو الحديث، نرى "غياباً"، في الظروف الراهنة التي اعقبت انهيار الدكتاتورية الفاشية، لدور المثقفين في تقرير مصائر ومستقبل البلاد، وهو أمر يرتقي، من ناحية، الى مصاف المأساة، ويعكس، من ناحية أخرى، الخلل في العلاقة بين السياسيين والمثقفين.

فما الذي أصاب المثقفين؟ هل هي آثار كارثة ما تزال مستمرة: تدمير الدكتاتورية للثقافة والمثقفين.. يأس المثقفين من السياسيين وفقدانهم الثقة بهم.. الاستمرارية في الموقف السلبي الناجم عن الخراب والخوف.. عدم توفر الحوافز التي تدفع المثقفين الى اتخاذ مواقف فاعلة رغم الخلاص من كابوس الاستبداد.. استياء المثقفين الحقيقيين من نهّازي الفرص الذين ملأوا مشهد الثقافة الجديد السائب والغائم، وقطفهم ثمارا ً ما أنضجتها إلا معاناة الثقافة والمثقفين المريرة على أيدي ناشري ثقافة الابتذال والخنوع والاعلام، وبينهم نفر غير قليل من أولئك المتلونين في كل أوان.. عجز القوى السياسية في ظروف الاحتلال المباشر وغير المباشر عن تحريك الأجواء وتنشيط المثقفين.. أم أننا نبالغ، بمعنى ما، بالدور الذي يمكن أن يلعبه المثقفون في عملية التغيير؟

هل هناك أسباب أخرى تدعو الى هذا الغياب الفاجع خصوصاً في ظرف تشهد فيه البلاد منعطفا تاريخياً لا يمكن أن يؤدي الى تحقيق آمال الناس ما لم يساهم فيه المثقفون على مختلف الصعد، وبينها بل وأخطرها الصعيد الروحي؟

لا ريب أن هناك جملة من العوامل المرتبطة بغياب المثقفين. فالمؤسسات السياسية الحاكمة أو "المقررة"، على سبيل المثال، لم تكشف عن اهتمام حقيقي بموضوع المشاكل التي تواجهها الثقافة ومبدعوها، في حين أن مبدأ المحاصصات في توزيع المناصب بات منهجية شبه دائمة في تقاسم السلطات. وهو ما يفضح، من بين أمور محزنة أخرى، مسلك تجاهل الثقافة على نحو لابد أن يثير الاحباط لدى المثقفين. ويكشف هذا، مرة أخرى، عن حقيقة أن الثقافة تأتي في نهاية المطاف. ولا نعني، بالطبع، وجوب تقديم الثقافة على الخبز، ذلك أن الجائع لا يمكن أن يفكر، ناهيكم عن قدرته على الاستمتاع بقيم الجمال.

ومن ناحية أخرى هناك أجواء عدم ثقة بين السياسيين والمثقفين. ولعل هذا مرتبط بالموقف من الثقافة الابداعية وتحويلها الى ثقافة اعلام وملحق بالسياسة ووسيلة لتحقيق أغراضها اليومية، وفرض موقف الثنائية التبسيطية على المثقف باعتباره إما مع السلطة أو ضدها، وهو ما يؤدي الى تغييب حقيقة العلاقة بين المثقفين والسلطة، بل ويفضي الى طمس هذه الحقيقة.

ولابد أن تركة النظام الفاشي تمارس آثارها السلبية الخطيرة بأشكال مختلفة، حيث ما تزال آيديولوجيا الفاشية المنحطة، التي حولت وظيفة المعرفة الى وظيفة لانتاج وإعادة انتاج الاستبداد، تتجلى في مظاهر وأقنعة متباينة، لعل من بينها استمرار تأثيرات بقايا ثقافة ومثقفي الفاشية على مفاصل معينة سواء في مؤسسات رسمية أو مدنية.

واذا كان صمت بعض المثقفين يعبر عن استنكاف من الابتذال بكل أشكاله واحتجاج على انحدار القيم وعدم توافق مع حقائق الراهن، فان هذا لا يبرر للمثقف اتخاذ مواقف العزلة السلبية عما يجري من تطورات في مجتمعه، بل على العكس من ذلك يتعين عليه ممارسة دوره التنويري المنتظر في التصدي للتزييف والتهريج والتهميش، وفضح ثقافة الاعلام الزائفة والتصورات الشعبوية المبتذلة في فهم دور المثقف وخصوصيته، واستخدام الثقافة وسيلة للآيديولوجيا، وتزييف الوعي وتشويه التاريخ والواقع وشخصيات البشر وأخلاقهم ومطامحهم.

على أن المثقف يجب أن لا يُترك وهو ينسحق تحت وطأة الاحساس باليأس والعزلة، وطاحونة اللهاث وراء لقمة العيش، أو يكون ضحية لاستنزاف العمل اليومي الذي يستهلك الطاقة الابداعية، أو ينغمر في الهموم الشخصية، حيث لا تتوفر له أدنى شروط الابداع، فضلاً عن مصاعب أخرى على أكثر من صعيد.

ولكي نفهم الدور الاجتماعي الفعال الذي تلعبه الثقافة الروحية، خلال الفترات الحاسمة، من الهام أن ندرك أن الثقافة لا تحددها العوامل الاجتماعية حسب، بل مواجهتها لهذه العوامل، ومقاومتها التبدل الاجتماعي، خصوصاً حين تكون العلاقات الاجتماعية غريبة عن الانسان وتقاومه كقوة تقف فوقه.

ويقدم التطور التاريخي والثقافي خلال العقود الأربعة الماضية، وخصوصاً الأخيرين منها، دليلاً مدهشاً ليس فقط على مقاومة الثقافة للنظام الفاشي وفكر الاستبداد، وإنما أيضاً دليلاً على الثقافة التي تنحط تحت تأثير سلطة الاستبداد.

وفي صراع الثقافة مع الاستبداد هناك مثقفون اختاروا التخلف والتسلط. وهم أولئك المدّعون الذين يقولون شيئاً ويفعلون نقيضه، لاهثين وراء المكاسب، ومنحطين الى درك اللحظات المظلمة، وإغراء الأزمنة الملتبسة، بسبب هشاشة تكوينهم الثقافي والفكري. وكما أن للجمال سايكولوجيته، فان للقبح سايكولوجيته. وللأول ضحايا مقاومون مكافحون، مثلما للثاني ضحايا متطوعون خانعون.

ويتجلى جوهر الموقف النفعي لبعض المثقفين في استعدادهم لبيع ضمائرهم لمن يشتري، سواء كان المشترون تجاراً في سوق الأنظمة الدكتاتورية، أو تجاراً في سوق الاحتلال الأميركي، أو تجاراً في أسواق "سياسية" أخرى. وأيا كان تبرير هؤلاء المثقفين الذين انتقل بعضهم من سوق الى آخر، أو دخل بعض آخر سوقاً جديدة، فان هذه الممارسة هي تجارة لا ثقافة. وهي ليست ممارسة جديدة على أية حال. فمثل هؤلاء المثقفين هم "الرابحون" على الدوام. وهم من يعرفون لحظة ووسيلة قطف ثمار تضحيات غيرهم، ممن كانوا قابضين على الجمر، ويظلون "الخاسرين" إلا في ضمائرهم الحية وقيمهم الرفيعة وثقافتهم الأصيلة والعميقة والجميلة.

وينتمي الى عالم الانحطاط هذا بعض أولئك "المثقفين" الذي جاء بهم المحتلون معهم بطائراتهم أو على ظهور دباباتهم، بعد أن صاروا "مستشارين" عبر دورات تدريبية نزعت عنهم صفة "الثقافة" وحولتهم، لاهثين وراء المكافآت المالية الخيالية بينما أقرانهم المثقفون في البلاد يعانون من الجوع والحرمانات بالمعنى الحقيقي لا المجازي، الى دعاة لثقافة الاحتلال وسعاة لتحقيق برنامجه. وبينهم متباهون تنكروا لماضيهم. وصاروا ملكيين أكثر من الملك كما يقال. ووسط هذه العملية سعت سلطات الاحتلال الى استثمار الحاجات المعاشية والضغوط المالية التي يعانيها المثقفون، ناهيكم عن الاغراءات لكسب المثقفين أو توريطهم عبر شراء ضمائرهم، واستخدامهم لأجندتها وتبريرها، وخلق متعاونين مع الاحتلال وموالين له، فضلاً عن إلغاء سمات أصيلة في الثقافة الوطنية وتعميم ثقافة الاستهلاك.

اصلاح ثقافي

يعني الاصلاح الثقافي، من بين أمور أخرى، إعادة إعمار البنى التحتية للثقافة، وتأمين شروط نهوض ثقافي وفق خطة ستراتيجية تعتمد الكفاءات والآليات السليمة، وتعزيز دور الدولة في هذه العملية، وتنمية الوعي الثقافي، وضمان حرية التعبير، والتنسيق بين منظمات المجتمع المدني الثقافية ومؤسسات الدولة المعنية، بما يضمن ازدهار الثقافة الوطنية وثمار الابداع وحقوق منتجيه .

وتتجسد الغاية من الاصلاح الثقافي في اعادة الاعتبار الى العقلانية والديمقراطية، والنظر الى الثقافة كجزء أساسي من حياة الناس، ومصدر لا ينضب لمتعتهم وفائدتهم، وحاجة لا غنى لهم عنها، وذلك من خلال توفير شروط نموها وتطورها بحيث تفعل فعلها في حركة المجتمع ونهضته، بما يشيع التنوير والمعرفة والقيم الجمالية والانسانية، وفي دور الدولة، التي يتعين عليها أن ترسم ستراتيجية ثقافية وطنية، واضحة وشاملة، قائمة على الفهم العميق لموقع الثقافة الفاعل في حياة الناس وفي وجهة التطور الاجتماعي للبلاد.

ومن المؤكد أن أمام وزارة الثقافة، بشكل خاص، والمؤسسات التعليمية والأكاديمية والجامعات والمنظمات والجمعيات الثقافية وسائر الجهات المعنية بالثقافة، مهمة التصدي للاصلاح الثقافي، بما يضمن استعادة الثقافة استقلالها، وإرساء أسس نظرة سليمة للثقافة من جانب النخب السياسية الحاكمة والهيئات التشريعية، فضلاً عن توفير المناخات والشروط اللازمة لابداع الفكر.

إن المثقف العراقي، اليوم، يتصدر مشهد الصراع الاجتماعي ولا يقف، معزولاً، على هامشه رغم كل محاولات إبعاده عن المشهد، من جانب السلطات المتعاقبة التي سعت، وتسعى على الدوام، الى فرض آيديولوجية النظام السائد، وإشاعة القوى المهيمنة علاقات الامتثال والخنوع وتأبيد الراهن عبر محاصرة واقصاء العقل النقدي والتجديدي.

ووسط هذه المأساة الطاحنة يواصل المثقف التحدي ليثبت أنه قادر على تعريف دوره وتجسيد هذا الدور في خلق انجازات ابداعية، ومساعٍ الى تعميم ثمار الثقافة الجمالية، ومواقف سياسية مضيئة تقاوم الظلام والتخلف وغسيل الأدمغة، وتنشر روح التنوير.

ويعتبر دور الثقافة، في الوقت الحالي، أخطر وأكثر أهمية. ولعله يتلخص في السعي الى تحقيق الديمقراطية، باعتبارها شرطاً لفعل الثقافة، كما هي شرط لفعل السياسة. وما دام جزء من مهمتنا طرح الأسئلة المحرمة أو المؤجلة سابقاً، فمن هو أقدر من المثقف على طرح هذه الأسئلة بصورة صحيحة؟ نعني بذلك المثقف غير التقليدي، سواء كان من يمارس النشاط الابداعي الرفيع، أو من يمارس النشاط السياسي الرفيع، أي المثقف الذي يسهم في التصدي للمهمات التي يطرحها الواقع، انطلاقاً من استيعاب هذا الواقع ومكوناته، وبينها الجماهير التي يعتبرها البعض كتلة صماء غير قابلة للاختراق، فيما يشير الواقع الى أن قوى أخرى قادرة على اختراقها وتحريكها.

وتزداد الحاجة، في الظروف الراهنة خصوصاً، الى مشاركة المثقف في صياغة القرار السياسي من خلال حوار مفتوح باتجاهين، بحيث يرتفع اهتمام السياسي بالثقافة كقيمة لذاتها لتطوير الوعي الفردي والجماعي، وتغتني رؤيته السياسية بالوعي التطبيقي الذي يتوفر للمثقف من خلال المشاركة الحية في الحياة. وما من إطار لاعطاء هذا السجال حيويته وفاعليته إلا باشاعة الديمقراطية باعتبارها مفتاح التجديد الثقافي.

ومن المؤكد أن مشاركة المثقف المباشرة في صياغة مستقبل بلاده وإقامة ديمقراطية حقيقية، مشاركة لا غنى عنها. ويتعين على السياسيين إدراك هذه الحقيقة وعدم الاستخفاف بها كما يفعل البعض. ومن ناحية أخرى يتعين على المثقف أن يواصل فضح الدجل والانحطاط ومافيات السياسة والثقافة، والسعي، بكل الوسائل المتحضرة الممكنة، الى انتزاع حقه في المشاركة بصياغة مستقبل بلاد قدم من أجلها الكثير من التضحيات وعانى في سبيل غدها الكثير من الآلام والحرمانات.

إن الثقافة ليست مجرد نتاج ابداعي فني خالص، بل هي أيضاً موقف سياسي بالمعنى الرفيع لكلمة السياسة، أي بمعنى تجسيد قيم انسانية جميلة والتمسك بها والدفاع عنها. وهو موقف يقدم توليفة متوافقة بين الابداع والسياسة.

* * *

يحملون المشاعل .. يمضون في طليعة الكتائب .. يشقّون الدروب، وهم ينيرون، كي نسير ونحن نغذ الخطى الى ما نصبو ..

بأياديهم تخفق الرايات .. ومن عيونهم يتطاير شرر السخط .. ومن عقولهم يضيء الوعي، منشداً الأمل، والتوق الى الاطاحة بعالم الظلام ..

رسائل التنوير التي يبثونها في شوارع البلاد المنتفضة هي رسائل احتجاج ضد ثقافة القطيع، واستعراضات الكرنفال التي ترضي غرور "سياسيين" منتشين وسط زيف وصخب ومديح متصدّرات ومتصدّري المجالس المأجورة ..

وأصوات المثقفين، التي تتعالى في مواكب الاقتحام، هي بداية الرد الحقيقي على من يدّعون "غياب" دورهم ..

وهي الرسالة البليغة على أنهم أولئك الذين يمنحوننا الأيادي والينابيع والآفاق !

  كتب بتأريخ :  الأربعاء 16-03-2016     عدد القراء :  2316       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced