بينما يتفاقم صراع السلطة والامتيازات، يسعى متنفذون الى طمس حقائق وتشويه أخرى. ولعل من بين أكثر المفاهيم تعرضاً للطمس والتشويه مفهوم الأغلبية والأقلية. فهذه القوى المتنفذة، وانسجاماً مع نهجها في تأبيد الراهن، تسعى الى الايهام بأن حقائق الواقع ثابتة لا تتغير، وأن الحياة واقفة في الزمن، وبالتالي فان الأغلبية ستظل أغلبية أبد الدهر، والأقلية ستظل أقلية أبد الدهر. غير أن أي عاقل يدرك خطل هذا الزعم، لأن الحياة، ببساطة، لا يمكن أن تقف في الزمن، وبالتالي فان موازين القوى الاجتماعية والسياسية، شأن الواقع ذاته، في تبدل دائم.
ولسنا هنا في معرض العودة الى القرآن الكريم لنقرأ فيه" "كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة ..."، إنما نتحدث عن حقيقة أن الزمان لا يثبت على حال: "وتلك الأيام نداولها بين الناس" كما جاء في الكتاب العزيز.
أما ذلك "الانقلاب التشريعي"، متمثلاً باقرار قانون الانتخابات الجائر، وهو ما لم يفاجئنا ولم يصدمنا، فلن يقوى على دفعنا الى اليأس، ذلك أننا نعرف ما يمكن أن تفعله القوى المتنفذة في سبيل الحفاظ على امتيازاتها، كما نعرف دافع ومغزى ودلالة هذا التراجع الخطير والمشين عن الديمقراطية من جانب من يسعون الى حصر الديمقراطية في احترام حقوق الأغلبية دون اعتبار لحقوق الأقلية.
فهذا الانقلاب هو تجسيد لنهج الاستحواذ على السلطة، وإقصاء وتهميش "الآخرين"، وحرمانهم من مشاركة فعالة، مثمرة، ونزيهة في البرلمان والحياة السياسية. وهو، قبل هذا وذاك، مرحلة جديدة في احتكار صنع القرار السياسي والتبرّم بالتعددية والتنوع.
وأما أولئك الذين يريدون أن نتوقف عن المسير فسنخيّب ظنهم .. لن نستسلم، فهذا ما يبتغون .. ولن نختار مقاطعة الانتخابات، كما يدعو متطرفون وعدميّون، لأن هذا الاختيار لن يعني سوى الخنوع والانعزال عن الناس والحياة.
لقد اخترنا التحدي ومقاومة تأبيد الراهن وثقافته السائدة، ونحن نعرف أن طريقنا مليئة بأشواك الجزر، وهي أشواك لا تستطيع أن تحجب زهور المد. وإذا ما هُزمنا في معركتنا، فاننا لن نلقي الرايات، ذلك أننا ناظرون الى نجوم، ومتطلعون الى أفق، وخائضون جولات وجولات في طريق يمتد أمامنا وفيه نغذّ المسير.
ونحن، كماركسيين، لا نرفض المساومات مسبقاً، بل نرى ضرورتها، ولا نتخذ موقفاً أحادي الجانب منها، وإنما نستوعب جدل المشاركة، لا اسقاط المقاطعة قسراً في أي ظرف كان. وفي هذا السياق ترى الماركسية أنه بدون نهوض ثوري شامل لا يمكن لمقاطعة الانتخابات أن تفلح في مقاومة حقيقية للنظام القديم وثقافته المهيمنة، وهو نهوض غير قائم في واقعنا الراهن.
واذا ما طرحنا شعار المقاطعة في غير أوانه فاننا سنضعف قوة تحريضنا، لأن المقاطعة تتحول، عندئذ، الى شعار انعزالي، ذلك أن الموقف السياسي السليم، الحريص على مصائر الشعب ومستقبل البلاد، ينطلق من استيعاب الواقع الموضوعي ومتطلباته في اللحظة التاريخية الحاسمة، لا من الصبيانية اليسارية والجمل الثورية الفارغة.
ومن ناحية أخرى فانه يتعين على المشاركة في الانتخابات والعمل من داخل البرلمان أن يكونا رافداً في التحريض لا عائقاً أمام أعمالنا الاقتحامية وسط الناس وفي طليعتهم، ونحن نستثمر السخط لتعزيز الأمل وتأجيج الكفاح من أجل الغايات السامية.
ومما لا ريب فيه أن هذه المشاركة توفر، من بين أمور أساسية أخرى، فرص الصلة الحية والحميمة بالناس، وتنويرهم بمعاناتهم، وتعزيز وعيهم وقدراتهم على التصويت للبرامج الأكثر تعبيراً عن مصالحهم وأشواقهم.
لن نقاطع الانتخابات، وسنعمل من داخل البرلمان حتى وإن كان رجعياً، لأننا لا يمكن أن نترك الملايين من المسحوقين والمحرومين ومغيّبي الارادة نهباً للظلمات ومؤبِّدي الراهن.
ومن ناحية أخرى فانه يتعين أن لا تكون لدينا أية أوهام بشأن مصاعب الكفاح. وإذا ما أقررنا حقيقة أننا مانزال أقلية، فان هذا الاقرار يجعلنا نرى، على نحو أسطع، تلك العبر الموحيات التي تقدمها لنا تجارب الحياة الغنية، وبينها سير الأنبياء ممن تعرضوا في كفاحهم الى معاناة لا نظير لها. ولعلنا نتذكر، في هذا السياق، ما رواه الترمذي عن سعد بن أبي وقاص قال: "قلت: يا رسول الله أي الناس أشد ابتلاءً ؟ قال: الأنبياء ...". وهل أبلغ مما أورده ابن القيم في (بدائع الفوائد) إذ قال: "الطريق طريق تعب فيه آدم، وناح لأجله نوح، ورُمي في النار الخليل، وأُضجِع للذبح اسماعيل، وبِيع يوسف بثمن بخس ولبث في السجن بضع سنين، ونُشر بالمنشار زكريا، وذُبح السيد الحصور يحيى، وقاسى الضرّ أيوب ... وعالج الفقر وأنواع الأذى محمد صلى الله عليه وسلم".
* * *
نمارس السخط والأمل، ونستثمر الاثنين، ونحن نقاوم الخنوع، ونواصل المسير مستظلّين بالرايات والينابيع ..