قراءة في رواية ( الجسور الزجاجية ) للروائي برهان الخطيب
بقلم : جمعه عبد الله
عرض صفحة الكاتب
العودة الى صفحة المقالات

البراعة المدهشة في  التوغل في اعماق الواقع السياسي والاجتماعي , واكتشاف حقيقة الدلالات التعبيرية  , ووضعها على مشرحة المتن الروائي , في التناول والتمحيص , وتحليل مكوناتها ببراعة الواقعية الانتقادية او الواقعية السياسية  , في مكوناتها المتحركة بشكل فعال على الواقع اليومي ونشاطاته الدؤوبة  , في المؤشرات الرؤية التحليلية , بكل التفاصيل الدقيقة بالرؤى الفكرية  , المشحونة بالصراع السياسي , وحالة التجاذب المشحونة بالحدية العنيفة , لاصعب فترة عصيبة مرت على الواقع السياسي والاجتماعي , عقب انبثاق ثورة 14 تموز عام 1958 , التي تميزت في مسرح احداثها وتطوراتها المتلاحقة , في التجاذب الحاد بين قطبين متنازعين  : التيار اليساري   من جهة , والتيار القومي / البعثي ولحقهما الاقطاعيين واعوان العهد الملكي من جهة اخرى  , ليقطعوا الطريق على الثورة وقطع اوصالها  , وجعلها تغوص في اعماق الرمال حتى اجهاضها , هذه سمات العمل الروائي ومنطلقاته الفكرية  , التي برعت في  خلق عالم روائي متكامل , بكل التفاصيل الواقعية , على مسرح تطور الاحداث الدراماتيكية المتسارعة . التي تعطي معاني الافعال التي تؤجج بؤرة   الصراع السياسي نحو التأزم الحاد , في المعنى والادراك , في العقلية السياسية السائدة آنداك بعد انتصار الثورة , ومتابعة مجرياتها اليومية , بعين لاقطة مفردات قاموس المواجهة في الصراع , والظروف المحيطة , التي تعمل على تعميق الانقسام السياسي , , في التخبط وانغلاق الرؤية السياسية الواضحة , وفقدان صوابية افعالها , هكذا وجدت الثورة هذا المناخ المتأزم ,  ولم تحسم امرها , ضمن دائرة التجاذب السياسي الحاد الدائر رحاه بحرب الضروس   , لقد صنعت الثورة  لنفسها وضعاً شاذاً ومتقلباً , ومتجاهلة  دسائس الاقطاعيين واعوان العهد الملكي , والتهاون والتردد في مواجهة  التيار القومي البعثي , الذي كشر انيابه  , وراح يعمل بكل وسيلة في اجهاض الثورة  بل اعطيَ له  فرص ثمينة لجناحه العسكري , في تولي مناصب حساسة , في احكامه العرفية الصادرة  , التي هي في الواقع , سلب الثورة من جماهيرها الحقيقيين . لقد خلقت الثورة بافعالها السلبيةبأن  تسجل نقاط  ضدها ,  لا لصالحها  ,  ويجعلها  تسبح في  التخبط السياسي , وبذلك قدمت  خدمة كبرى للجناح المعادي لها , والذي يعمل على اغتيالها . هذه المكامن الخطوط العامة للمتن الروائي , الذي ابدع في تقنية الحبكة الفنية بعناصرها الثلاث  المكونة من . لغة السرد التي رصدت ادق التفاصيل اليومية للافعال السياسية المكشوفة  , بسردية واضحة بالتشويق والشد الدرامي المتصاعد  . وكذلك برعت في وصفية المكان . وقدمت للقارئ , بشكل مشوق وممتع , الخريطة الادارية بكل التفاصيل لمعالم  مدينة ( الحلة ) , في ايقاع النشاط اليومي المتحرك والدؤوب  , في الاماكن والطرقات والمحلات والاسواق والمقاهي الشعبية , في معالم البارزة في المدينة. وكذلك لعب الحوار والحواريات , دوراً بارزاً , في انضاج  سمات فضاء الروائي وأداته التعبيرية  , التي كشف عن  التحولات والتطورات الدراماتيكية ,  ورصدها بالعين اللاقطة لتدوينها   , وكذلك متابعة العمل السياسي الجماهيري المناصر للثورة   , وبرعت في معرفة الدواخل الداخلية لشخوص الرواية , الذين هم نتاج الواقع السياسي , بتشكيلاته السياسية المتصارعة والمختلفة  . كما انها اخذت مساحة بارزة لمعاني الحب النقي , واضاءت جوانبه المضيئة  ,  وبرزت معالم الظلم الاجتماعي وعقليته السائدة , في ظلم وحرمان المرأة من حقوقها الشرعية , وعقلية العشائرية في غسل العار وبحجة الحفاظ على الشرف , وانها مقيدة بسلسلة من المحرمات الطويلة   , والاهم في تشكيلات   النص الروائي , اشتغل في اظهار ازمة الثورة ,  وتقوقعها على نفسها , ولم تحاول  الخروج  من شرنقتها . كما هو الحال ينطبق على  الاحزاب السياسية ,  وتياراتها الفاعلة والمتصارعة  ,  هي ايضاً تعيش في ازمة حزبية وسياسية . ولكن الذي عمق الازمة السياسية في العراق  , هي اجراءات الاحكام العرفية الصادرة  من الحاكم العسكري العام للثورة  , بمنع حمل السلاح , ونزع سلاح عن المقاومة الشعبية , التي هي تعتبر الدرع الجماهيري الحامي والمدافع عن  الثورة . وكذلك احكام العفو العام لاعوان العهد الملكي والاقطاعيين بالافراج عنهم  ,  و في عودة الجناح العسكري لتيار المعادي للثورة ( القومي / البعثي )  , في تكليفه  بمهمات ومسؤوليات لمناصب حساسة في الدولة , تأتي هذه الاجراءات , في خضم الصراع السياسي الحاد القائم  , مما أفقد الثورة الهوية والانتماء السياسي المحدد لها  , وانها بالحقيقة تقوم بعملية القضم  بأكل ابناءها , وتسمين ابناء اعداءها , لتقوى شكيمتهم , حتى يستطيعون الانقضاض عليها  , هذه هي معطيات النص الروائي  بكل تفاعلاته السردية , وبالتفاصيل اليومية في الواقع السياسي , وفي مسار الاحداث الملتهبة , كأن الثورة  تسيرالى  هاوية في السقوط في  فخ اعداءها , من هذه المنطلقات التي ركزت عليها  رواية ( الجسور الزجاجية ) التي جاءت مشبعة بالافكار السياسية والفكرية ,  لواقع مسرح الاحداث آنذاك . وكذلك في المدلولات الرمزية والترميز في المغزى من  الجسور الزجاجية , التي يستشف او يستدل في التعبير والمغزى الدال  , بأن الثورة كانت تمشي على جسور زجاجية , قابلة للتكسر والتحطم , في انقلابية احداثها الدراماتيكية , في الصراع السياسي الذي يرفض التعايش ,  والتعامل السياسي  السلمي . لذك جاء المتن الروائي كأنه يصور  احداث درامية فيلم سينمائي  متكامل , في السيناريو والاعداد والاخراج , يسجل يوميات  الثورة   , ودخولها في شرنقة الازمة العويصة , لا يمكن ان تخرج سالمة , إلا في اجهاضها ثم غتيالها  . وقبل الدخول في تفاصيل المتن الروائي , لابد من التذكير في المشتركات العامة , بين رواية ( الجسور الزجاجية ) ورواية الكاتب الكبير نجيب محفوظ  , في رواية ( اللص والكلاب ) , في سجن ابطال الروايتين بتهمة السرقة , وخروجهما من السجن بعفو عام من الثورتين ( المصرية والعراقية ) . وكذلك وجودهما في وضع شاذ بعد خروجهما من السجن , في رواية ( اللص والكلاب ) وجد ( سعيد مهران ) زوجته تزوجت من اقرب اتباعه واصدقائه المقربين له  . وظل يكابد بكل جهده في ايجاد حلاً للعدالة المفقودة , وفي عواصف خضم الصراع , وجد ان العدالة تبتعد عنه بعيداً  , ويقع في دائرة التخبط والخيبة بالافعال المتشنجة  في سلسلة من الاعمال  الاجرامية  , بدوافع  القصاص  من الذين سلبوا حقوقه العادلة المفقودة  ,لكن يجد نفسه يقتل الابرياء . وبالتالي تكون نهايته القتل . بينما ( مزعل  ) بطل رواية ( الجسور الزجاجية ) يجد ايضاً الوضع الشاذ بعد خروجه من السجن , بأن زوجته ( شمسة او شمس ) قد تزوجت من رفيقه الحزبي ( صلاح ) بشكل شرعي . بعدما ورد اسمه من جملة الاسماء الذين قتلوا في مجازر السجون , الكوت . بغداد , وتم انقاذها من السجن وبراثن الشرطة في تهريبها الى الاهوار , وهناك تم عقد  الزواج الشرعي ,  بالاعتقاد بأن (  مزعل ) هو  من ضمن القتلى السجناء السياسيين  . لان كانت تهمة السرقة ملفقة , لانه ضبط مع زوجته ( شمس ) في وكر حزبي , وكان قد انقذها سابقاً  من براثن الاقطاعي الجشع ( ذياب القصير ) بتهريبها من سجنه  , والزواج منها  بدون علم اهلها . هو مطارد  سياسي حين القي القبض عليه  , وليس لصاً  سارقاً , وتحمل العناء في سبيل حبه  الصادق , الذي كسر العنجهية الصلفة للاقطاعي ( ذياب القصير ) , الذي يعتبر الفلاحين وعوائلهم عبيد وجواري له . بالمقابل  زوجته ( شمس ) تحمل وتبادله  الحب الصادق ,  لذلك جازفت في الهروب والزواج بدون علم اهلها , وتعرف بأنها ستكون مطاردة بالقتل لغسل العار , وهي مثقفة وناشطة سياسية وحزبية , محسوبة على التيار اليساري  , ووقفت بصلابة التحدي والجرأة  ضد العادات والتقاليد التي تجني عليها , برجوعها الى مدينتها وبالقرب من   اهلها , لذلك يشعر ( مزعل ) بالقلق على حياتها من القصاص من اهلها ( ما كان يقلقني باستمرار , هو جرأة زوجتي على العودة وهي تعرف أهلها لن يكفوا عن ارسال غاسل عار لقتلها اينما كانت , وبخاصة وهي معروفة الآن كما اخبروني ) ص16 . حقاً وجدت ( شمس ) نفسها في ازمة  عويصة , ومعضلة في الاختيار بين زوجين شرعيين امامها  . القديم ( مزعل ) والجديد ( صلاح ) , وانها تحمل الحب للاثنين . لذلك صعب عليها الاختيار , ايهما تختار وتترك الاخر , وهذه الاشارة في دلالاتها . ايضاً تشير الى معضلة  ثورة تموز , التي وجدت نفسها , في صراع تجاذب وشد الحبل , بين قطبين سياسيين  عدوين ,  لا يمكنهما التعايش بينهما  . التيار اليساري , ومن جهة اخرى التيار القومي / البعثي الذي تحالف مع الاقطاع واعوان العهد الملكي , وكل طرف منازع يريد ألغاء الاخر . لذلك ان حيرة وتردد ( شمس ) بالضبط يعنون حيرة وتردد الثورة , في  حسم امرها في ايجاد  الهوية والانتماء  السياسي المحدد بوضوح  . وليس ان تقع في  الازمة , لان كل القضايا متعلقة بالسياسة والاختيار الصائب   ,  ان الحيرة التي  خلقتها  الثورة  ادخلتها في  متاهات التخبط السياسي , في انعدام الرؤية السياسية الواضحة . وهي تحمل نفس الرؤى والمعاناة , حين وجد ( مزعل ) نفسه عائم وسط الرياح , بالظلم والعسف والحرمان من كل الاطراف , رغم انه تحمل معاناة السجون بالعذاب المؤلم , ووجد نفسه في الوضع الجديد القائم  , بأنه يتحرك بدون هوية شرعية , في ظل انعدام  العدالة الاجتماعية الغائبة , ولا يمكن ان يقبل ان يكون في النهاية ان يصبح  قشة تتلاعب بها الرياح , بعد حصيلة من  معاناة العمر,  وحياة السجون في الظروف القاسية , يتنقل من سجن الى سجن اخر . من زنزانة الى زنزانة اخرى ( لا يمكن  ان تكون هي النهاية / لا يمكن ان تكون حصيلة العمر قبضة ريح ومحض هباء .  / تحملت عذاب السجون . معسكر اعتقال أبي غريب . سجن الكوت . البصرة . القلعة . استكلبت عليك زنزانات , تناقلتك من حفرة الى اخرى ,عرفت التوحد في الغرف الصغيرة المظلمة . وريح الشتاء وخزات الابر . والسقوف الصفيحية الواطئة . والارضيات الاسمنتية المغمورة بالماء حتى كاحليك , والليالي الطويلات المرهقات ,  والنوم وقوفاً على  الرجلين دونما غطاء او فراش ) ص264 . وجد نفسه في خضم الصراع المعقد والمتشابك , الصعوبة في  الظفر بالحرية  وعودة زوجته ( شمس ) اليه , وكذلك عليه ان يبدد اوهام الناس , بالتهمة السيئة السرقة التي اتهم فيها  , وانه ليس لصاً, وانما سياسياً شريفاً ادى واجب النضال الوطني . لذلك عليه ان يكسب حريته , ورد الاعتبار اليه , امام القضاء , ليتخلص من هاجس القلق والحيرة التي تنهشه , عليه ان يكسب هويته ويحسم امره , لان قضيته لها جانب سياسي , وجانب اخلاقي  , ثم ان المصيبة الكبرى , وجد زوجته ( شمس ) متزوجة من رفيقه الحزبي ( صلاح ) , اي انه في دوامة الحيرة . بأن  زوجته بالضبط  , وجدت نفسها في شرنقة معقدة , وفي دوامة الحيرة والاختيار , لمن تختار وتحسم امرها له , وتثبت اركان حياتها  بزوج واحد لا زوجين . فكيف تستطيع ان تختار وتترك الاخر . انها مسألة عويصة في الاختيار , واي عدالة اجتماعية تركن اليها , ضمن هذه الظروف المعقدة  . لذلك توجه قولها للطرفين ( - ما الذي تريدان مني أن أقوله الآن , بل ماذا تنتظران  , ألا يفهم احد منكما هذا  الوضع ؟ أنتما اشبه بجلادين يطلبان مني تسليم احد اولادي للموت . لا ! ليس هكذا , كل ما اقوله الآن سيكون قاصراً , الافضل ان اخرس , ليس في كل ما اقوله الآن عدل , كيف يمكن ان اعرف هنا ما العدل ما الخطأ , ما الصواب ) ص162 . هذا الوضع الشاذ في انعدام افق الانفراج , يحاكي الافق المسدودة , التي خلقتها الثورة لنفسها , وجدت نفسها ضائعة بين ضفتين , كأنها تمشي على حبل من النار , او جسر من الزجاج ,  بالتضييق على سورها الجماهيري المدافع عنها  , وتسمح لمن  يدبر الدسائس الماكرة للايقاع بها ,بأن  يتحركوا بكل  حرية , وعلى حساب طرفها السياسي المحسوب عليها . بأن يجد الاقطاعي ( ذياب القصير ) الذي  يرمز للاقطاعيين عموماً , بأن زمانهم وعزتهم ومجدهم يعود بريقه مجدداً , وما عقلية الاقطاعي  ثابتة لا تتغير, مهما كان الزمن  والظروف , فقد تعلموا وتربوا على جشع الاستغلال , وتعلموا الترف والنعيم الحياتي بالبذخ ( - هي الدنيا . سادة وعبيد , وتظل هكذا الى الابد , فما علينا إلا رفض انحناء الرؤوس ) ص296 . لذلك اخذت رياح الثورة تنحسر وتخفت , ويذبل عودها وقوتها , وكل ما تنتظر , هي  الطعنة القاتلة , مثلما قتلت ( شمس ) على يد شقيقها ( عدنان ) وهو محسوب على التيار المعادي للثورة , ان يرتكب جريمة القتل , بحجة غسل العار , والدفاع عن الشرف . وكما اعيد ( مزعل ) الى زنزانة السجن مجدداً , كما تصاعد المد المعادي للثورة , في ملاحقة انصار الثورة , فقد انطفأ بريقها , واضيء بريق اعداءها , بأجراءات الحاكم العسكري العام , التي عبر ( مزعل ) عن معنى الاجراءات والاحكام الجديدة الصادرة .  بقوله ( - اذا نزعنا احزمتنا له اليوم , فغداً ننزع لبساننا ) ص225 . وهذا ما حدث فعلاً  في الواقع السياسي .

× رواية الجسور الزجاجية . الروائي برهان الخطيب

× منشورات اوراسيا . ستوكهولم - السويد

× الطبعة الثانية - يناير عام 1991

× 303 صفحة

  كتب بتأريخ :  الأربعاء 21-03-2018     عدد القراء :  1734       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced