بعيدا قليلا عن ماراثون تشكيل الكتلة الأكبر وفقا لتفسير المحكمة الاتحادية للمادة ٧٦ من الدستور العراقي، وبانتظار "الدخان الأبيض" لمعرفة عناصر الكتلة، انطلاقا من حقيقة ان لا كتلة فائزة تستطيع وحدها تشكيل الحكومة، فضلا عن التوافق المطلوب لانتخاب رئيس الجمهورية باغلبية ثلثي أعضاء مجلس النواب (٢٢٠ نائبا)، واستمرارا لتسليط الضوء على المال العام وكيفية التصرف به، وحقيقة اننا امام برلمان جديد يدخله اكثر من ثلثيه لأول مرة ، وان قادة الكتل السياسية اقسموا بكل المقدسات، وفِي شهر رمضان المبارك، انهم سيحاربون الفساد ويصونون أموال الشعب، المنقولة وغير المنقولة .. بعيدا عن هذا كله وغيره نتوقف مجددا عند الموازنة والعجز فيها وحساباتها الختامية.
ما يلح على العودة الى هذا الموضوع ، وهو حقا يستحق ان يناقش ويمحّص في كل المحافل الى ان يوضع الامر في نصابه الصحيح ، هو ارتفاع أسعار النفط وكأنما نحن امام قفزة جديدة لأسعاره، يمكن ان تعوض كثيرا من المفقود في فترة الهبوط السابقة ، وربما بزيادة ملحوظة.
وبالعودة الى موازنة ٢٠١٨ فإنها تنص على احتساب الإيرادات المخمنة من تصدير النفط الخام على أساس معدل سعر ٤٦ دولار للبرميل الواحد، وبمعدل تصدير يزيد قليلا على ثلاثة ملايين وثمانمائة الف برميل يوميا.
فأسعار البرميل المصدر الواحد وفقا لحسابات خام برنت يقترب اليوم من ٨٠ دولارا. ووفقا للإحصائية الرسمية الصادرة عن وزارة النفط بشأن معطيات شهر نيسان المنصرم فقد جرى بيع النفط العراقي الخام بمعدل ٦٤ دولارا للبرميل الواحد اَي بفارق ١٨ دولارا عن السعر المثبت في الموازنة .
وتجمع التقديرات على ان الطلب عالميا على النفط الخام متجه الى الارتفاع، وان أسعاره ستحافظ على مستوياتها الراهنة. ومع ذلك اذا اعتمدنا الزيادة الحاصلة في عائدات النفط لشهر نيسان كمعدل، فان هذا سيوفر للخزينة العراقية ما مقداره ١٨ مليار دولار سنويا. فهل يمكن الحديث بعد هذا عن عجز في موازنة ٢٠١٨ ( قُدر العجز المخطط فيها بـ ١٢ مليار دولار) ؟ وهل هناك من مبرر للإجراءات التقشفية المتخذة، وهل هناك أيضا من سبب مقنع لاستمرار فرض ضرائب مباشرة وغير مباشرة على المواطنين ، تستنزف مداخيلهم المحدودة اصلا ؟ كذلك هل هناك حاجة الى مواصلة الاقتراض الخارجي المرهق والذي قدرت فاتورة فوائده في موازنة ٢٠١٨ بما يزيد عن ثمانية مليارات؟ وهذا رقم يكشف تهافت القول انها قروض ميسرة وبفوائد تكاد لا تذكر !
ويبقى السؤال الكبير المتعلق بكيفية التصرف بهذا الفائض عن المخطط في الموازنة، ولأية أغراض يصرف؟ وهل سيتم توثيقه في موازنة تكميلية تقدم الى مجلس النواب الجديد؟
هذه الأسئلة وغيرها تثار كل مرة، ولكن الآذان تصم ازاءها فلا تُسمع الأصوات المخلصة الحريصة على المال العام والمطالبة بتحسين التصرف به.
وتكبر اهمية الموضوع عند الانطلاق من حقيقة ان مجلس النواب قد صادق على الحسابات الختامية للسنوات ٢٠٠٥- ٢٠١١ ، ولكنه فعل ذلك من دون المصادقة في الوقت نفسه على التحفظات الصادرة عن ديوان الرقابة المالية ، حسبما ذكرت د. ماجدة التميمي في حديث صحافي.
ورغم كل ما قيل ويقال عن وجوب ضبط موارد البلد والبرامج المعلنة في هذا الشأن، من جانب من بيدهم القرار ، فان بلدنا لم يشهد منذ ٢٠١٢ ولحد ٢٠١٧ اقرارا لحساباته الختامية ، وهي تتعلق بموازنات بعضها ضخم جدا، خاصة في سنة ٢٠١٤ حيث يقدر حجمها بما يزيد على ١٣٨ مليار دولار، اختفت ولم يبق لها اثر!
ان إقرار الموازنة من دون حسابات ختامية هو مخالفة دستورية صريحة ، ويتقاطع مع نص المادة ٦٢ من الدستور, ويتحمل مسؤولية هذه المخالفة كل من مجلس الوزراء ومجلس النواب. وان مجلس النواب الجديد مطالب بملاحقة ذلك كله ، وبضمنه الوارد الفائض عما مخطط له في موازنة ٢٠١٨ ، والذي يتوجب على الحكومة ان تقول كلمة بشأنه !