في آخر تقرير أصدرته (يونامي) أواخر الشهر الماضي أشارت الى أن العنف القائم على نوع الجنس سائد لدى العديد من المجتمعات المحلية العراقية، باعتباره شأناً عائلياً، ونادراً ما يتم ابلاغ السلطات عنه.
وبوسعنا أن نرى الدلالة المزدوجة لتقرير بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق. فهو يكشف، من جانب، عن انتهاك خطير يتمثل في استمرار العنف ضد النساء، ولكنه يفتقر، من جانب آخر، الى كثير من الحقائق المروعة عن مآسي النساء العراقيات. ويجد المرء نفسه أمام حيرة في تفسير هذا النمط من التعامل مع قضية شائكة مثل قضية معاناة النساء، التي تتطلب، من بين أمور أخرى، الكشف عن كل الحقائق الصادمة، وتحديد الجهات المسؤولة عن هذه المعاناة، والسعي الى اتخاذ اجراءات لوقف العنف ومصادرة الحقوق.
لقد باتت مآسي النساء جلية للقاصي والداني. ولعل مكونات هذه اللوحة التراجيدية تمتد من إشاعة أجواء العنف والخوف في المجتمع، وتفاقم العوز المادي والخراب الروحي، وغياب الخدمات الأساسية، ومصاعب الحياة المعيشية، وتفشي الأمية والبطالة، الى فرض الاجراءات الجائرة التي تستهين بانسانية المرأة وكرامتها، لتصل الى قتل المرأة غسلاً للعار !
ولعل من بين الحقائق الصارخة أنه اذا كان ربع أعضاء المجالس المحلية من النساء، وهو مؤشر ايجابي بالطبع، فان أكثر من ربع النساء ممن هن فوق سن العاشرة يعانين من الأمية حسب احصاءات الأمم المتحدة، بينما تشكل النساء حوالي 17 في المائة من القوى العاملة. وفيما أهدرت عشرات المليارات من الدولارات على "خرافة" إعادة البناء، يفتقر أكثر من ربع "الضحايا المنسيات" الى الماء الصالح للشرب.
ومما يفزع المرء حقيقة أن هناك جيشاً يضم الملايين من الأرامل والمطلقات حسب احصاءات الأمم المتحدة، بينما تكشف تقارير عن استمرار عجز شبكات الرعاية الاجتماعية، والاستهانة بوزارة شؤون المرأة التي تثير ميزانيتها السخرية والأسى، في حكومة لا تعد قضية النصف الأعظم من المجتمع من أولوياتها.
ولا ريب أن أكثر الفظائع ترويعاً يتمثل في بيع آلاف النساء، وبينهن فتيات قاصرات، في سوق عبودية الجنس داخل العراق وخارجه. ولا غرابة في أن يرغم العوز ضحاياه على الانحدار الى المستنقع من أجل البقاء على قيد الحياة في مجتمع ينبذهن بعد أن حوّلهن تجار الدعارة الى سلع بخسة الثمن في ظل انحدار عام يصمت عنه "سياسيون" و"برلمانيون" يخشون على فقدان امتيازاتهم أكثر من خشيتهم على أي شيء آخر. فقد بات من المعلوم، اليوم، أنه ما أن يصل الأمر الى النصف الأعظم من الشعب، حتى تتفاقم الاشكالية ويتعقد الحل، والأسباب جلية. فالذين يستند نفوذهم الى تأبيد الراهن يخشون أصوات النساء، وينظرون اليها باعتبارها تهديداً لنفوذهم. وهذا هو السبب الجوهري لديمومة بل وتعاظم مآسي النساء في بلادنا.
وعلى الرغم من الكشف عن جرائم العنف ضد المرأة على نطاق واسع، فان المستور مازال واسعاً. وتستمر أطراف عديدة على ممارسة هذا العنف ممتدة من متطرفي مليشيات، وعصابات جريمة منظمة، مروراً بمسؤولين عن تنفيذ القوانين، وليس انتهاء بالتشريعات الجائرة التي تكرس هذا العنف، وبينها تخفيف العقوبات عن جرائم غسل العار، بينما تضطر نساء ضحايا الى "السكوت" عن الجرائم المقترفة بحقهن، خشية تحولهن الى منبوذات اجتماعياً أو تعرضهن الى القتل على يد عوائلهم، خصوصاً في ظل غياب حماية الدولة لحياتهن.
وبينما يبدو "حق تأديب" الرجل لزوجته نوعاً من "التسلية" بالمقارنة مع أعمال عنف شنيعة، تتسع ظاهرة القتل حرقاً والانتحار والختان في بعض مناطق كردستان، لتشكل جزءاً من لوحة العنف الجسدي والنفسي، الذي تشير تقارير الى أن ثلث العراقيات يعانين منه، فيما يجري التستر على منفذي الجرائم ضد النساء ومن يقف وراءهم.
واذ يتواصل التمييز والتهميش والاقصاء، يجري إبعاد النساء عن فرص المشاركة في صنع القرار، وتحويل "قيادات" بينهن الى "ديكور" لأغراض التضليل. أما التسييس فيدفع، من بين عواقب وخيمة أخرى، بـ "سياسيات" و"برلمانيات" الى اتخاذ مواقف واطلاق تصريحات، تتزيا بذرائع تكشف عن ولع "البعض" منهن بمهمة تلطيف اضطهاد وإذلال بناتت جنسهن، فتصب، فعلياً، في طاحونة الفكر البطرياركي المقيت.
* * *
بات "سياسيون" و"ممثلو شعب"، ممن يرفلون بنعيم ينسيهم حتى أنفسهم، موضع سخط وارتياب وتندّر، فهم في "شغل" بامتيازات عن ملايين الأرامل وأيتامهن .. وراحت "ممثلات" محليات "يفضحن" بعضاً من المسكوت عنه حين طلبن محارم لحمايتهن ..
غير أن العنف لن يكسر الارادة الحقيقية، ولن يوقف الينابيع عن أن تتفجر، فتصب روافد في المجرى العظيم .. وحقوق النساء، المكتوبة على الورق اليوم، لن تبقى على حالها في الغد ..
فالأصوات تتعالى بالهتاف من أجل الحق المشروع، و"نساء الفردوس" وأربعاء الرماد وكل الساعيات الى اكتشاف الحقيقة ينهضن في مسير اقتحامي حتى نجتاز معهن متاريس الظلم ونهزّ عروش الصمت ..
مجدهن في مقاومة تأبيد الراهن وثقافة الظلام المهيمنة .. ومرتجاهنّ الحرية في حدائق النور !
طريق الشعب - 5/1/ 2010
كتب بتأريخ : الإثنين 04-01-2010
عدد القراء : 2404
عدد التعليقات : 0