الدراما العراقية...
بقلم : د. لاهاي عبد الحسين
عرض صفحة الكاتب
العودة الى صفحة المقالات

يشبّه إرفنج كوفمان صاحب مجموعة من أعظم الأعمال في مجال علم النفس الاجتماعي الحياة الاجتماعية بالمسرحية التي يطلب من المشاركين فيها أنْ يؤدوا أدوارهم بدقة ومهارة وفق نص محدد. يساعدهم في ذلك مخرج يتولى إدارة العمل وكاتب يضع المطلوب ومُردد يقف خلف الستارة ليذكر الممثلين بما ينبغي عليهم قوله إذا ما سهوا أو ارتبكوا.

يستمد كل هذا من الخزين الاجتماعي الذي يتمثل في منظومة القيم والمعايير السائدة والمكانة الاجتماعية التي يحتلها الفرد في المجتمع والدور الذي يحوّل المكانة إلى فعل تطبيقي. ويستدرك كوفمان أنّ الحياة الاجتماعية الواقعية أكثـر تعقيداً وصعوبة للخوض فيها من مسرحية توظف لها المستلزمات الفنية للنجاح من خلال أنْ يحسب فيها لكل صغيرة وكبيرة.

تتخم الحياة الواقعية بمفاجآت وظروف غير متوقعة تتطلب مهارة وسرعة بديهة للتعامل معها وإيجاد الحلول لإشكالاتها المتنوعة. بيد أنّ السؤال الذي يخطر على البال ماذا بشأن العمل الفني مسرحية كان أو مسلسلاً تلفزيونياً يحكي عن واقع الحال. هل يحسب القائمون عليه كل صغيرة وكبيرة حقاً ليظهروه كما لو كان مطابقاً للواقع وناقداً له لتأمين مستلزمات النجاح! لا يبدو أنّ هذا ما يحصل، غالباً. بدا ذلك واضحاً في عدد من الأعمال الفنية على مستوى الدراما العراقية التي قدمت خلال شهر رمضان الفائت. وهذا ما أدى إلى أنْ تستقبل هذه الأعمال بالكثير من النقد والتهليل على السواء. يلاحظ أنّ بعض هذه الأعمال حظيت بنسبة متابعة عالية مما عبّر عن اهتمام الجمهور بما يقدم إليه وحرصه على أنْ ترتفع إلى مستوى توقعاته من القائمين عليها لما يملكونه من مؤهلات وخبرة في العمل.

مع أنّ الجمهور حاول أنْ يكون ودوداً وبناءً من خلال الإطراء على القائمين على بعض من هذه الأعمال بيد أنّ عدم الرضا وعدم الإرتياح ظهر واضحاً وعبر عن نفسه بصيغ شتى. شارك في ذلك إعلاميون وكتّاب قصة وفنانون ومختصون في ميادين متعددة. ليس في خيبة الأمل وعدم الرضا والإقتناع ما فيه تعبير عن مواقف شخصية أو عداء من نوع ما أو حتى حسابات سياسية. فكثير من المشتغلين والقائمين على هذه الأعمال لم يوصفوا وفق ذلك، على الأقل في الأعم الأغلب. ولكنّ خيبة الأمل جاءت من الثغرات التي تراكمت في بعض هذه الأعمال والتناقضات في تسلسل الأحداث إلى جانب السرعة في إنهاء العمل بطريقة مشوهة.

كان هناك عملان يمكن أنْ يؤخذا كنموذجين توضيحيين هما مسلسل "الفندق" الذي عرض على قناة الشرقية والمسلسل الآخر الذي أريد له أنْ يكون عائلياً وترفيهياً وحمل عنوان "أيام الإجازة" وعرض على قناة العراقية. ظهر العمل الأول "الفندق" متخماً بالأخطاء البنيوية التي ترتبط ارتباطاً مباشراً بمنهجية ونظرة كاتب النص السيد حامد المالكي. يذكر أنّ المالكي سبق أنْ قدم عملاً حمل عنوان "الدهانة" أصاب فيه نجاحاً كبيراً لسبب رئيس هو أنّ ذلك العمل إستند إلى فكرة مألوفة ومدروسة بالنسبة إلى الكاتب. فقد أخذ المسلسل المذكور مكانه في بغداد خلال الستينيات وخاض دور البطولة فيه شاب يعمل مدرساً شاءت الظروف أنْ ينزح من محافظة جنوبية فكان أنْ وقع في حب إحدى فتيات الزقاق الذي أقام فيه. بدت العلاقة بين الإثنين تسير بصورة طبيعية وإنسيابية من حيث التقارب الطبقي والثقافي بينهما لولا تشنج أخيها الذي لعب دور حامي قيم العائلة والموكل بالمحافظة عليها والدفاع عنها. ويتعرف المدرس العازب على أرملة بغدادية من ذوات الطبقة الوسطى يغريه فيها نمط حياتها الفارهة مما كان يطمح إليه وإنْ لم يكن ليشبع عواطفه الذاتية. سارت الأحداث في "الدهانة"، نسبة إلى إسم المنطقة التي اختار بطل المسلسل الإقامة فيها منسجمة مع بعضها البعض. بيد أنّ ما حدث في "الفندق" كان شيئاً مختلفاً كشف عن تشوش في صناعة النص لما أعتبره واقع حال. وقد يعزى السبب في هذا التشوش إلى عدم وضوح الموقف الفكري للكاتب وبخاصة عند الخوض بقضايا اجتماعية معاصرة لا تزال في طور الصيرورة والتكوّن. تحقق المسلسلات التي تقوم على مصادر تاريخية نجاحاً أكبر لوضوح الفكرة وإنْ تطلب الكثير منها العمل على إعادة النظر لتفسيرها. هذا على الضد مما يحدث في مسلسلات تتناول قضايا اجتماعية معاصرة لا تزال مدار جدل ونقاش في مسبباتها والسبيل إلى معالجتها. قاد كاتب النص العمل ليوقع باللائمة على الأفراد الممثلين وتفاعلاتهم المحدودة دون المساعدة على توضيح كيف أنّ الأخطاء والإساءات الاجتماعية التي لا بدّ أنّهم تعرضوا إليها أدت بهم إلى ما آلوا إليه ليجدوا أنفسهم في ظروف تسلب فيها كرامتهم ويخبروا من خلالها الخوف والمهانة والإذلال. وهناك الموقف من المرأة. ظهرت المرأة في هذا العمل ضحية التوصيفات الاجتماعية السائدة. فهي هاربة من نعمة عائلتها الصغيرة المهتمة بها "دنيا"، وهي متآمرة ولعوب "نزاكة"، وهي بغي تمارس الإحسان "وجدان"، وهذه "ماري"، عاملة الخدمات التي تتصرف بطريقة أرستقراطية فتستضيف "أريج" في بيتها وتقدم وجبات غذائية مجانية لـ "دنيا"، وتؤوي الطفلة المتسولة "وسن". ليس بين هؤلاء النساء من تساهم بدور قيادي أو مستقل وتقدم المرأة بإحترام.

زخر المسلسل الآخر "أيام الإجازة"، بكم محكم من الترويج لقيم اجتماعية دارسة. فهذا الأب يعبر عن تثاقله من مسؤولياته العائلية عوضاً عن أنْ يلاحظ أنّه هو المسؤول عن الفشل إذا كان كل أفراد عائلته يتكئون عليه ويستغلون طيبته. ويقدم المسلسل فكرة "الكعيدي"، بطريقة مهينة في مجتمع صار فيه لزاماً على كثيرين التعايش مع هذا النمط من الأشخاص في ظل تغيرات كثيرة لعب فيها الإرهاب والهجرة والنزوح أدواراً كبيرة تركت فيها العوائل بلا نصير ينتصر لها. وفشل المسلسل في ملاحظة أنّ فكرة "الكعيدي"، قد تكون إحدى طرق التخلي عن النمط الأبوي الذكوري الذي يحمل الذكور مسؤوليات كبيرة تبرر تسلطهم وتوفر مستلزمات إدامة هيمنتهم. ستتطور الحياة الاجتماعية بين الجنسين عندما يكون هناك تكافؤ في تحمل المسؤوليات يتبعها تكافؤ في توزيع السلطات والصلاحيات. وهذا الابن الجامعي الذي يفاخر على سبيل "الطرفة"، بعدم احترام الدراسة والتحرش بالبنات. والجار الذي يأمل أنْ تشتد المشاكل في بيت جاره ليحقق فائدة مادية يسر بها أمه التي تقف مشجعة له وفخورة بما يفعله!. هذه مشاهد لا تسر أحداً ولا تعكس بالتأكيد واقع الحال.

يمر المجتمع العراقي بمرحلة سيئة من نواحي سياسية حيث يعترف بالفساد المالي والإداري وتنتشر البطالة وتشيع أجواء من الركود والترهل وتعبر المؤسسات التقليدية عن فشلها في معالجة إشكالاته من خلال الكثير من الشكوى والتذمر ولكنّ هذه الأوضاع لا تشمل كل جوانب المجتمع. يتحمل الفنانون والكتّاب المبدعون في مختلف الميادين مسؤولية محاججة هذه الأوضاع ولفت النظر إلى نقائصها وليس التسليم بها لزيادة مشاعر العجز واليأس والتراخي. لم يحتفظ كتّاب مبدعون من أمثال تولستوي وتشيخوف وديستويفسكي وتورغينيف ونابوكوف وشولوخوف وفلوبير وبوشكين وغوغول وريمارك وماركيز وغيرهم بألق أسمائهم من خلال تسفيه ما يجري في المجتمع ومجاراتهم له فحسب. ولم يكتف هؤلاء بوصف الأوضاع الاجتماعية المزرية بل خاضوا في الحكاية من كل جوانبها ليعطوا صورة متكاملة عن واقع الحال ثم وضعوا تساؤلات مهمة على لسان أبطال أعمالهم. هذا الأمير "نيكليودوف"، في رواية "البعث" التي صدرت عام 1899 يحاجج مدارس علم الجريمة ويصف كبار علمائها من أمثال الإيطالي لومبروزو والفرنسي تارد بالزيف والضحالة لأنّهم ألقوا بتبعة الجريمة على عوامل بيولوجية ووراثية أدت إلى اضطرابات نفسية أو عزوها إلى نزعة التقليد. يلفت "الأمير"، الإهتمام إلى أنّ هؤلاء العلماء أهملوا دور البيروقراطيات المتغطرسة التي لا تهتم إلا بجوانب تنفيذية محددة تقع تحت عنوان "تنفيذ الأوامر"، دون التساؤل عن الدور الذي مارسه المجتمع بدفع هؤلاء المحكومين إلى ارتكاب الخطأ والجريمة. لا وجود لدليل قطعي على أنّ أعمال هؤلاء الكتّاب ألهمت علماء من وزن ماكس فيبر في دراساته الرائدة حول البيروقراطية وإرفنج كوفمان في دراسته "الملجأ"، ولكنّ المؤكد أنّ هناك توارداً واضحاً للأفكار وبناءاً عليها وفق أطر منهجية ونظرية أكاديمية معينة.

سيكون لزاماً على معاهد إعداد المشتغلين في مجال الفن والأدب أنْ يهتموا أكثر بثقافة طلبتهم ليتأهل هؤلاء لأعمال تساهم برفع المجتمع وتطوير وعيه وتبرر وجود هذه الأعداد الكبيرة والمتعاقبة من الخريجين أصحاب الشهادات الجامعية والعليا. هذا إلى جانب أنْ توفر القنوات التلفزيونية الفرص للمنافسة والخضوع للتقييم المهني المستقل من أجل تقديم أعمال ترقى إلى مستوى اهتمام المتلقي في العراق والبلدان العربية الأخرى التي قد تجد فيما يفكر فيه مبدعونا ما يبعث على التأمل والمتعة والتغيير.

  كتب بتأريخ :  الأحد 09-06-2019     عدد القراء :  1497       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced