نحن نفهم الديمقراطية بانها كانت نقلة حضارية في تاريخ الشعوب الأوربية ، واتت كمحصلة لحركة نهضوية تاريخية صانعة لمقومات التغيير الأمثل في التركيبة الفكرية والقيمية والنفسية في تلك المجتمعات التي تمثلت فيها مظاهر الرقي والتقدم والتميّز بالحداثة والتقدم العلمي والمعرفي ، وتهيأت لها ظروف موضوعية لتخطي عصور التوتوليتاريا والثيوقراطيا والإستبداد ، وتحل محلها انظمة تدين بالليبرالية في بناء جديد لصرح دول مفعمة بمختلف الإصلاحات السياسية والإجتماعية وفق قوانين وضعية نصت على إنتقال السلمي للسطة . ثم كفلت ورعَتْ كافة الحقوق والحريات ، وساوت بين الرجل والمرأة ملتزمة بمفهوم العلمانية في تصريف شؤون الدولة والشعب . وضمنِتْ العدالة والطمأنينية والسلم الأهلي لجميع شرائح المجتمع كما تحققت مسيرة تاريخية موفقة آمنة لتلك الدول المعنية التي لم تواجه العنصرية والطائفية والقبلية ، ولا شهدت إنقلابات عسكرية تهدد بالإجهاز على النظام ومرتكزاته .
وبعد أن تحقق كل هذا التطور ، فرضت الإلتفاتة نفسها الى طريقة الإقتصاص من ارباب الجرائم ، بسن قوانين تُراعى فيهــا قيمة الإنسان وذلك بمنـع التعذيب الجسدي وامتهــان الكــرامة ، وبالتالي الغاء عقوبة الإعدام وابدالها بحكم مدى الحياة . وهذا هو السائد اليوم في عالم الغرب ونعني اوربا وبجانبها امريكا التي لا زالت بعض ولاياتها ملتزمة بتطبيق عقوبة الموت في سجونها .
في دول العالم الثالث ليس ثمة منها من رفعت او فكرت برفع عقوبة الإعدام ، لربما ولا تتجرأ منظمة حقوق الإنسان على مفاتحة الكثير من هذه في الدول في هذا الموضوع ، وبالتحديد الدول التي تقتص من المدان بحز الرأس او بتعليقــه بحبل من رقبته وشنقة علــى رافعــة .. ويتم هذا علناً وامام الملأ والكاميرات وغيرها من وسائل الإعلام .
العراق كان ولا زال من هذه الدول اي من دول العالم الثالث . وإذا راق لمنظمة حقوق الإنسان أن تتحاسب معه في هذا الشأن وكأنه احدى الدول الديمقراطية ، نقول بأن هذا ليس صحيحاً لأن العراق لازال يحمل كنية الديمقراطية بالمجاز والإستعارة . وقد حصل هذا بالإنطلاق من بعض الممارسات التي كانت غائبة عن تاريخ العراق السياسي كالإنتخابات التشريعية وقبول العلنية في النشاطات الحزبية وتوسيع رقعة الإعلام من خلال تنوع القنوات الفضائية ، واطلاق حرية الصحافــة ، رغــم استهداف الكثيــر من روادها .
ومن منطق استكثار هذه الممارسات على العراقيين ، طُبِعَت المرحلة ما بعد سقوط نظام البعث بالديمقراطية ، رغم افتقارها الى آليات مركزية مهمة ، تدخل في تأسيس دولة علمانية لضمان المساواة وهوية المواطنة لجميع الأطياف العراقية على حد سواء ، وكذلك تضمن للمرأة حقوقها لتقف مع الرجل على قدم المساواة . وعلى الصعيد نفسه ، تفرض ظاهرة التمدن للنهوض بعراق جديد ليكون وطناً مصاناً للجميع ، يسمو على كل التسويفات والممارسات التي تمس قيم النهوض والتقدم في مؤسسات ومواقع حيوية فــي المجتمع العراقي . وهذا ما يثيره دائماً ارباب التشدد الديني والطائفي وناهزو الفرص في بعث التسوّس في بنيان السياسي العراقي قدر الإمكان ، لتعطيل اية مسيرة واعدة في بناء دولة مؤسسات وفق معايير ديمقراطية سليمة .
ومن مشاهد أخرى مخيفة توحي بتعثر بناء الديموقراطية ، هي فشل العملية السياسية العراقية القائمة على صراع الأفرقة وتناجز الكتل والأحزاب التي تشكل القوى الأساسية فيها ، الأمر الذي جعل العراق يراوح على سياسة التوافقات الهشة ، ليبقى رهن مشاريع اقليمية خطرة متمثلة في نشاطات واجندات من بعض الدول المتربصة بتدمير السلم الأهلي العراقي وبكل مقومات امن الشعب ، وتخطط لتدمير مستقبل هذا البلد وجعله دولة ضعيفة لا شأنَ لها ولا ثقلاً في منطقة الشرق الأوسط .