|
|
|
|
مهداة إلى وزارات الخرائب المتعاقبة
|
|
|
خذ ما شئت من الخرائب ما دام كسرى سالما
صباح مساء نلعن اللصوص وأفعالهم سواء أكانوا لصوصا مهذبين من علية القوم كما يفعل الحكام الذين تعاقبوا علينا تحت شتى المسميات : خليفة الله في الأرض, جلالة الإمبراطور, ملك الملوك, القائد الأوحد, الرئيس المعجزة, ومن يتبع أولئك مع التفاوت في حجم ما يسرقون, والغطاء الذي به يتسترون, فإما إيغال في التدين, أو ادعاء بالعدالة, ومراعاة لحقوق الإنسان؛ أم أولئك المساكين الذين قطَّع الطوى أمعاء صغارهم وهم ينظرون إلى المتخمين بنعمة رب العباد إلى حد استغلال كرامة الإنسان كأثمن رأس مال لينعموا بما لذ وطاب, وكأن الله قد خصهم وحدهم بما أنعم به على الخلق ؛ فلم يهتدوا لوسيلة غير السعي للنيل مما يملك غيرهم تعويضا عما لحقهم من غبن, وما حاق بهم من تردٍّ في الحال, وفي كل الأحوال فإن السارق نفس السارق, حاكما متغطرسا كان أم برجوازيا مستغلا لجهد غيره بلا إنصاف, أم جائعا غير مهتد, هذا إذا استثنينا من ذلك التصنيف أنفسنا ما بين متاجر بالألفاظ فيخدع الآخرين ويسرق منهم الفرصة في تقييم المعطيات لقاء ما يجود به الدافعون, أو عاشق مُدَّعٍ يجيد رصف العبارات, وعرض العواطف في سوق الغرام؛ فيشغل الجنس الآخر عن حكمة وتروٍّ في الاختيار, أو أديب يلتقط من هنا أو هناك فكرة جاء بها غيره فنال منها شهرة, وسما منزلة بين أقرانه الآخرين, أو واهب نفسه لما يدعي أنه قضية المجموع فيفنيها, وما ملكت يداه, ضاربا عرض الحائط ما تمليه عليه مسؤولياته تجاه أهله من التزامات تحت شعار التضحية والإيثار وغيرها من شعارات وعموما فالكل ممن ذكرت تحت هذا الغطاء سارقون, نظافا كانوا, أم متسخين, قاصدين أو غير قاصدين .
قطع مشحوت الكوخ القصبي القصي في أطراف القرية جيئة وذهابا, يفرك الراحتين تارة, ويطلق زفرة حرى تارة أخرى, ماسحا وجهه الكالح بذيل ثوبه المقطع, لا يشغله عما يدور في خلده نباح كلبه الهزيل, فالكلاب عند اشتداد عوائها لا تنبه إلا عن سارق في الجوار, أو مفترس متصيد لغفلة من الرعاة, وهو في الحالتين غير مالك لأدنى حد مما يطمع به القادمون, فالحفنة الأخيرة من دقيق الشعير التهمها الصغار في وجبة الغداء, وعند العشاء ملَّوا من الانتظار فأخلدوا للنوم حالمين بصيد ثمين وعدتهم به الأم حين برَّرت لهم غياب أبيهم مشحوت الدائم عن البيت, وبقايا الفرشة التي لملمت العيال لا تستحق أن يطمع بها مغامر؛ وعموما فإن ما يشغل بال وتفكير مشحوت هذه اللحظة أمر خطير؛ فهو يخير النفس ما بين أمرين الفرق بينهما هو نفس الذي يسطره كل ليلة الشيخ الواعظ الذي بالجنة وما فيها من مغريات يغوي ويحذر, من كل ما في النار من عذاب إن حاد المرء عن سواء السبيل .
أخيرا اتخذ القرار الحاسم, ففي القصر المجاور كل ما لذ وطاب, تأكل منه العاقلة والدواب, تدار الراح على السمار حتى الصباح , وتنثر المدخرات في بيت المال على الجواري الراقصات , والمتاجرين بالكلام , والمكممين للأفواه , والصغار في بيته يكاد يزهق أرواحهم الجوع والحرمان, والسور الفاصل غير عائق لمن يطمع في كيس طعام أو حفنة من نقود .
تسلق السور على حذر غير مبال بما تم غرزه فيه من أشواك, وما سال من كفيه من دماء, زحفا على بطنه تقدم نحو الباب, اعتدل في جلسته, تلفت حوله خشية أن يباغته حارس أو خادم في القصر, تأكد أن لا أحد في الجوار, فتح أول مزلاج في وسط الباب, حاول فتحها فلم يفلح فهناك مزلاج آخر في الأعلى, استعان بكفيه لينهض فانهارت قواه, أحس بالدوار الشديد, ألم قاتل في عينه اليمنى, والدماء تسيل منها, حاول الضغط عليه لتخفيف الوجع فوقعت في كفه, عينه اليمنى .
المسمار في الباب كان كبيرا, وهو حاد بلا قرص, وهو مالم يخمنه إطلاقا مشحوت, فالمغامر قبل إقدامه على فعله لا بد ان يخطر على باله كل الاحتمالات, وكلها استعرضها مشحوت ما عدا قلع العين بمسمار مغروز في الباب, والجياع في كوخه بانتظار صيد ثمين .
قبض العين المخلوعة في كفه قاصدا مغيثا يعوض له ما لحق به من دمار, وهل من مغيث غير { كسرى } فهو الآمر الناهي في البلاد, وهو القادر أن يلبس الباطل حقا, والعكس قادر هو عليه, ومهما يكن الأمر فكلاهما لص مع اختلاف المقامات, والمسميات, وصرخة استغاثة, وبعض من عبارات الثناء والتفخيم تلين قلب المستغاث به, وبلا استشارة من قاض أو حكيم أصدر السلطان أمرا بالقصاص العادل, بخلع عين صاحب الدار, وأحضر المسكين الذي لم يجد معضلة في الخروج من المحنة التي بها ابتلي دون ذنب, فحين تفتقد العدالة والمقاييس تكون الحيلة والخداع هي الوسيلة للإفلات من العقاب, سواء أكان عادلا ذلك أم بعيدا عن العدل .
الذنب ليس ذنبي, يا جلالة السلطان, فالمذنب اليوم هو الحداد الذي صنع المسمار, ولا أظن أنه عنكم ببعيد, وعلينا أن نأخذ الأمور بالمسببات, أحضِروا الحداد, نادى السلطان, فنُفِّذ الأمر, والعذر جاهز لدى الحداد, معترف أنا بما ارتكبت من ذنب, وحق علي كما أمرتم خلع عيني اليمنى جزاء لما فعلت, وتعويضا عما لحق المسكين زائر الليل؛ لكنني أحتاج كلتا عيني في مهنتي كحداد في خدمة السلطان, وأتباع السلطان, وسوف أدلكم على من لا يحتاج كلتا العينين, إنه الصياد يفتح عينا ويغمض الأخرى عند التسديد .
والصياد كغيره من الذين لا حول لهم ولا قوة سوى التحايل على من لا يرون غيرهم قادرين على تمييز الأمور؛ بل وضع النقاط على الحروف, معترف أنا بأنني لا أحتاج سوى عين واحدة في الصيد؛ لكنني أرى قبل تنفيذ حكمكم العادل بي أن أزيدكم علما بما أملك من موهبة في فهم لغة الطير, ومن يدري فقد أفارق الحياة؛ فيضيع عليكم علم قد تستفيدون منه في بسط حكمكم على الناس والطيور .
تقدم الملك الموكب والصياد بجانبه يسايره في خطاه, متحفز لكل سؤال قد يواجهه به, الأزقة خاوية إلا من العناكب والفئران, بومتان تعتلي كل منهما سطح خرابة متقابلتين, كأنهما تتخاطبان, استوقف الملك الموكب, هيا ترجم لنا, أيها الصياد, بم تخاطبت البومتان ؟
الأولى طلبت من الثانية يد ابنتها لابنها, والثانية طلبت مهرا تصورته غاليا فأرادت به أن تعجز الاولى فتصرف النظر عما طلبت جارتها, طلبت عشر خرائب مهرا لابنتها الغالية .
البومة الأولى عالية المعنويات, تدللي يا جارتي, لك ما طلبتِ, وسوف أزيد أكثر على ما تريدين, تدللي يابنة الكرام, خذي ما شئت من الخرائب مادام { كسرى } سالما .
أيعني ذلك أني ظالم, أيها الصياد اللعين ؟ وأنا الذي أدعو للعدل ليل نهار, وأبث الجواسيس للوقوف على أحوال الناس, وأغدق الأموال على الوزراء والأعوان, وأكثر من الحراس, والناس يرددون بحقي الأغاني والأناشيد, ويطلقون الشعارات والهتافات .
على مهلك ياسيدي, أرأيت علامة تنبئ عن ظلم الحكام غير انتشار الخرائب في كل شارع وزقاق ؟ وهل تريد دليلا غير قطعان البوم ؟
|
كتب بتأريخ : الإثنين 11-01-2010
عدد القراء : 2269
عدد التعليقات : 0 |
|
|
|
|
|
|
|
|
|