سلافوي جيجك وموقفه الفلسفي من الجائحة
بقلم : د. نادية هناوي
عرض صفحة الكاتب
العودة الى صفحة المقالات

لم يكن حدثُ جائحة كورونا بالطارئ وإن كان مباغتاً، ولا بالغريب وإن كان مستجداً، فأذهان الفلاسفة والمفكرين وأخيلة الأدباء والمبدعين توقعت شيئاً من ذلك وهي تترقب ظهور أمر غريب استعلائي استفزازي، هو كائن وغير كائن، خفي وظاهر، قريب وبعيد، عياني وافتراضي.

ولم يكن ما كتبه بعض الفلاسفة والروائيين مجرد تنبؤات وتوقعات من محض الخيال يحاولون بها مداعبة أفكار البشر أو مشاكستها؛ بل أرادوا التنبيه على أمر خطير سيهددهم عاجلاً أو أجلاً؛ وكحدس عقلاني وتيقظ موضوعي في أن هناك شراً يحوم حول عالمنا، لم يصنعه غيرنا بل صنعناه بأيدينا غروراً وصلفاً؛ وها هو اليوم يتوكد بالفايروس المستجد كوفيد 19 .

ومن الفلاسفة الذين امتلكوا ذلك الحدس "سلافوي جيجك" الفيلسوف الذي اجتمعت فيه ميتافيزيقية هيجل وتحليلية لاكان النفسية وجدلية ماركس، متوقعاً في أغلب كتبه ومقالاته وقوع الكارثة بصور مختلفة، كأن يكون في شكل انهيار مالي أو اختلال معيشي أو تهديد صحي أو ابتلاء بيئي. حتى إذا حلت جائحة كورونا نشر كتابه ( الجائحة Pandemic: كوفيد 19 يهز العالم) بطبعة نيويورك، مطلع هذا العام 2020 .

ولو كان أمر فايروس كورونا طارئاً ـ غير متحسب له فلسفياً ـ ولا واقعاً في دائرة الاحتمال والتوقع لفاجأ المفكرين كما فاجأ علماء البايولوجيا والهندسة الجينية وخبراء الصناعة الميكروسكوبية وعباقرة الذكاء الصناعي وغيرهم.

والفلسفة منذ القدم هي أم العلوم والمعارف، وما لا يدركه الإنسان علمياً قد يدركه فلسفياً، وهذه الحقيقة تتوكد اليوم مجدداً ونحن نجد الفلسفة مستعدة لمواجهة الجائحة قادرة على تحليل ملابساتها وتبعاتها بينما يقف العلم مصدوماً عن الإحاطة بلغزها متحيراً في أمرها من ناحيتين: الأولى الوقاية منها والأخرى علاج ضررها.

والسؤال كيف تناول الفيلسوف جيجك أمر الجائحة ؟ وأي المنطلقات اعتمدها ؟ وهل كانت معالجته لمناحيها إيجابية أو سلبية ؟ وهل اهتدى إلى حلول أو محصلات فيها خلاص البشرية من المحنة الكورونية ؟

هذه الأسئلة وغيرها تأتي في تضاعيف الفصول التي تناولها جيجك فكان بعضها سايكولوجياً يتعلق بمشاعر التهدئة والذعر في مواجهة الجائحة وبعض الفصول كان سوسيولوجياً يتعلق بمسائل التعايش والأقلمة مما عبرت عنها عناوين مجازية مثل ( كلنا في نفس القارب الآن / فايروس الايدولوجيا / رصد ومعاقبة / البربرية ذات الوجه البشري/ الشيوعية الجديدة )

أما الفصول ذات الموضوعات قريبة الصلة بمسائل الفايروس الفسيولوجية والعلمية وطبيعته الإحيائية فهي( مرحباً بكم في الصحراء الفيروسية / باتجاه عاصفة مكتملة في أوربا/ المراحل الخمس للأوبئة )

ولم يكن البعد الروحي للجائحة بالغائب وجيجك يفتتح كتابه افتتاحاً يتناص دينياً مع كلام المسيح وهو يقول( لا تلمسني) حين تعرفت عليه مريم المجدلية بعد قيامته مخاطبة إياه: كيف افعل أنا ؟ ويجيبها بأن الحب بين الناس والتعامل الروحي بالحب هو الذي يعطي لـ( لا تلمسني) معنى المسني.

وهذا الافتتاح الروحي البديع والمؤثر كان له أن يتعزز أكثر لو أن جيجك تعمق في المعطى الأخلاقي للجائحة ولم ينحرف صوب المعطى المادي المتمثل في الأبعاد الاقتصادية والسياسية ومسائل التعايش الاجتماعي مع الجائحة بوصفها واقعاً معيشاً ويومياً، مبيناً أن تباعد الأجساد لا يعني كره الآخرين ولا يلغي تقارب الأرواح بالحب، وعن هذا المعنى، يقول هيجل:" المحبوب لا يعارضنا أنه واحد منا، كينونتنا الخاصة لكنه مرة أخرى لم يعد هو/ نحن. إنه لغز أو أعجوبة وعلى هذا الفهم لا نستطيع أن نمسك بالحب "

ويعقب جيجك" أنّ تحبَ آخرَ يعني أنه جزءٌ منك لكن الحب لغز بالنسبة لي ولك، ومن ثم لا يمكن لفايروس كورونا أن يأخذ هذا منا. وهناك دوماً أمل بأن التباعد الجسدي سيجعل روابط بعضنا ببعض أقوى وأشد، وقد حان الوقت لأن نتجنب كثيراً من الروابط التي تدلنا تجاربنا على لا جدواهما وننظر للآخرين وحضورهم بحسب أهميتهم لنا".

فهذا الفايروس جعلنا متيقنين بأهمية أن لا يلمس بعضنا بعضاً مصافحة أو تقبيلاً لينعزل الواحد منا متوقياً من الآخرين خوفاً من العدوى ووقاية من الأذى، حذراً ألا يكون تقاربنا من بعضنا قد تعدى الخط المسموح، ملتزمين بالإرشادات متحصنين من الخطر بتكميم أفواهنا وتغطية أيدينا معتمدين في التعامل على النظر لا اللمس ونحن ننظر داخل عيون من يقابلنا ربما من وراء غطاء شفاف أيضاً وربما من دون غطاء، وعن ذلك يقول جيجك: "هذه الأيام عندما تقابل أحدهم قريباً منك عليك ملاحظة المسافة المناسبة، نظرة عميقة في عيون الآخرين تستطيع أن تبتعد بها أكثر عن التلامس"

وعادة ما يستعمل جيجك أسلوب الخطاب التوجيهي في توصيل أفكاره الاجتماعية حول الجائحة وهو ينبه على خطر تواجدها بيننا في كل حين ومكان. وبالطبع لا يخلو خطابه من السخرية كأن يعقب على فكرة طرحها بالقول:" الآن استطيع أن اسمع الضحك الساخر في هذه النقطة، حسنا ، ربما نحن نحصل في هكذا لحظة روحية لكن لنا ما يساعدنا على التعامل مع الكارثة المستمرة، فهل سنتعلم شيئاً منها ؟!

وفي التاريخ كثير من الوقائع الدامية لأوبئة وأمراض فتكت بالبشر وفي دوراته التعاقبية ما يقتضي منا التفكر فيها لنتزود بالحكمة، لكن أنّى ذلك التفكر و"الشيء الوحيد الذي نتعلمه من التاريخ ـ كما يقول هيجل ـ إننا نتعلم لا شيء منه" ويعقب جيجك قائلاً:( لذا أشك أن الوباء سيجعلنا في أي حال أكثر حكمة)

وعلى الرغم من أن جيجك متفائل بعض الشيء بقدرة البشر على تخطي آثار الجائحة، فإن الشيء الوحيد الواضح هو خشيته من أن يحطم فايروس كورونا أساسات الحب بيننا ليس لأن لا عودة إلى المعتاد. بل هناك معتاد جديد مبني على بقايا آثار حب قديم أو لأننا سنجد أنفسنا في بربرية جديدة واضحة بشكل كبير. بمعنى أن علاج الوباء والخلاص من آثاره لن يكون كافياً للعودة للنهج القديم في أداء الأشياء مع بعض ترتيبات الرعاية الصحية.

ثم يتساءل : ما الخطأ في نظامنا الذي جعلنا غير مستعدين للكارثة على الرغم من تحذيرات المفكرين لنا لسنوات ؟ ويجيب في الفصل الأول وعنوانه( نحن الآن في نفس القارب ) بشكل غير مباشر على هذا التساؤل من منطلق سيكولوجي متأثراً بتحليلية لاكان النفسية، مركزاً على سلوكيات الذات ومشاعرها الخفية وهو يجيب على رسائل الكترونية أربع ـ ثبتها جيجك كاملة في متن الكتاب ـ كانت قد وصلت إليه من أصدقاء، عبروا فيها عن انطباعاتهم الذاتية ومخاوفهم المستقبلية طالبين منه المساعدة.

ويبتدئ جيجك باعتراف شخصي يؤكد فيه بعض منافع العزلة، فهو حين يسافر يجد الأفضل بالنسبة إليه أن يبقى في غرفة بفندق جميل متجاهلاً كل عوامل الجذب للمكان الذي يزوره كما أن المفضل لديه أن يقرأ مقالة عن لوحة شهيرة أكثر من رؤية هذه اللوحة في متحف مزدحم.

ويجد في فكرة الكينونة كلية لا ينبغي تجزئتها وأنها تحتاج منا قراءة وعملاً، وتظل الكينونة في كليتها واحدة سوى انعزلنا أو لم ننعزل. ويستعين بنكتة مشهورة ملخصها سيدة تطلب من النادل كوبا من قهوة مع قشطة فيجيب آسفاً( إنه ليس لدينا قشطة، فقط لدينا حليب، لذا يمكن أن تكون قهوة من دون حليب )

ويعلق جيجك "في هذا المستوى الواقعي تبقى القهوة واحدة فأين التغيير في جعل القهوة بدون قشطة أو بدون حليب، الشيء نفسه يحدث لعزلتي في أزمة سابقة. كانت العزلة بدون حليب الآن فقط كان الحل بدون حليب "

وأولى الرسائل هي من صديق لجيجك يعمل معالجاً نفسياً في ريو دي جانيرو، وفيها يشخّص بعض المفارقات منها أن الناس صاروا يعملون من بيوتهم كدوائر لهم وأن هؤلاء وهم يعيشون زمنهم بلا متغييرات في عادات حياتهم اليومية سيكونون الأكثر قلقاً وانكشافا لأسوأ متخيلات العجز الجنسي.

وفي الرسالة أيضاً ملاحظات مهمة عن متغيرات حياتنا الواقعية اليومية ومنها أن التهديد هو بمثابة خيال طيفي يشبهه جيجك بما كان في ألمانيا النازية من معاداة للسامية وأن كون اليهود أقلية جعلهم شبحاً مرعباً أقوى تهديداً لها.

ومن المفارقات التي لاحظها المعالج أيضاً أن العزلة الذاتية جعلته يسخر من زمن كان فيه المعالجون الذين سبقوه لأسباب نظرية يعارضون بقوة المعالجة النفسية عبر الهاتف أو السكايب لكنهم مع ظهور كورونا قبلوا مباشرة وصاروا يعالجون المرضى بسهولة ممكنة وبالكاد يخسرهم ذلك إيرادات.

وتجلب هذه الملاحظة إلى ذهن جيجك ما أشار إليه فرويد عن لغز حيره وهو يرى أن الجنود الذين يصابون في المعارك هم أفضل من أولئك الذين يعاودون عملهم القتالي بروتين يومي، مقابلاً ذلك بالمفارقة التي ظهرت مع تهديدات الفايروس كوفيد 19 وأن ما نتعامل معه هنا كان " لاكان " قد تناوله بشكل مفصل مفرقاً ما بين الواقعي والواقع.

فأما الواقعي فيعني الخارج الاجتماعي وثغراته المادية مثل أين نكون مع أنفسنا ومع غيرنا. وأما الواقع فهو الكيان الطيفي غير المرئي الذي في اللحظة التي يصبح فيها هذا الطيف جزءاً من واقعنا يمكننا أن نتعامل معه مستعيدين الأشياء التي فقدناها.

ومن الرسائل ما وصل إليه من صحفي ألماني يصف فيها حياته اليومية وما طرأ عليها بسبب الجائحة من متغيرات ( أشعر أن هناك شيئاً بطولياً إزاء هذه الأخلاقيات الجديدة في الصحافة أيضاً كل واحد منا يعمل ليلاً ونهاراً من بيته، ويجري المقابلات الفديوية وفي الوقت نفسه يعتني بالأطفال والمدرسة وما إلى ذلك ولا أحد يسأل لماذا هو / هي تفعل ذلك ؟ إذ لا مجال للأسئلة من قبيل أنا أحصل على مال وأستطيع أن أذهب في عطلة، بل لا أحد يعرف هل ستكون هناك عطلة وهل سيكون هناك مال أصلا ؟ والفكرة العامة أن الطعام والماء وحب الآخرين هو جزء من كل هذا التحدي حتى أصبح المرء يبدو أكثر افتراضية الآن )

وبالطبع يقابل جيجك هذه الانطباعات المتخوفة برؤى نفسية إيجابية، مؤكداً أننا سنبقى على قيد الحياة بينما الجائحة ستعبر لا محالة.

ويذكر جيجك من الصور الإيجابية للجائحة أن تطوع في بريطانيا أكثر من 400 ألف شاب لمساعدة الناس المحتاجين وهي إشارة جيدة في هذا الاتجاه مستفهماً عن أولئك الذين لا يتعاملون مع الجائحة بهذا الشكل وكيف سنبقى على قيد الحياة ونحن

لا نتعايش بإيجاب مع الجائحة ؟ ويقترح جيجك قواعد نفسية منها: إنه ليس الوقت مناسباً للبحث عن الأصالة الروحية أو الحقيقة المطلقة وايجاد الراحة النهائية بخصوص وجودنا في هذا العالم؟

ومنها أيضاً: حاول أن تتعرف على علامات المرض، هذا سيساعدك على ممارسة حياتك اليومية وبشكل يجنبك الانهيار العقلي مع ضرورة معارضة صيغة الإنكار الصنمي ( أنا اعرف جيدا لكن مع ذلك أنا لا أصدق واقعنا )

ويضيف ( لا تفكر كثيراً بالمفهوم وإنما عليك التركيز على ما ستفعله اليوم غير النوم فربما تلعب لعبة أو تشاهد فيلماً جميلاً واللعب مع العائلة ممتع وحر. وبالنسبة للأفلام والتلفاز سيكون مفيداً أن تواجه دستوبيا الكارثة بأن تشاهد مسلسلاً كوميدياً لتجعل الضحك نعمة أو تتبع ما ينشر في اليوتيوب عن معارك كبرى حدثت في الماضي)

وما يلح عليه جيجك هو أن المخاطرة الأساسية هي في تنظيم حياتنا اليومية بطريقة مستقرة وذات مغزى. ومن تنبؤاته أن الحكومات ستنفق بسبب الجائحة ترليونات وأن شكلاً جديداً للشيوعية سيظهر قريباً وبالإمكان رؤية خطوطه العريضة بنيوليبرالية هي ربما الطريقة الوحيدة لتجنب الانحدار إلى البربرية العالمية التي إذا اتسع نطاقها فإنها ستبتلعنا جميعاً.

إن ما أراد سلافوي جيجك توكيده في هذا الكتاب هو أن الجائحة العالمية التي تجتاح كوكبنا بشكل غير مسبوق سيكون أفضل شيء في مقاومتها هو التفكر في أبعادها وتدبر معاني المفارقات المتولدة حول عواقبها، متيقنين أننا نعيش في لحظة يكون فيها للحب أثر عظيم.

ولا مراء أن جيجك الذي يعد الفيلسوف الأخطر في الغرب ـ كما يقول الشاعر والناقد الأمريكي آدم كيرش ـ كان قد قدّم في كتابه موضع الرصد كثيراً من التصورات الإيجابية والقريبة من واقعنا المعيش متجاوباً فكرياً وثقافياً مع العموم الشعبي وهو يقدم أمثلته المبسطة ورؤاه الساخرة ومشاهداته الاستفزازية، بيد أن هناك بعداً مهماً لم يركز جيجك عليه كثيراً وهو البعد الأخلاقي.

ولا نجد عدم تركيزه عليه غريباً كونه يتطامن مع فضاء فلسفي غربي ونظام عالمي لم يولِ الأخلاق اهتماماً يذكر، فكان انهياره أمام الجائحة طبيعياً ورهيباً، تاركا آثاراً مدمرة على العالم صحياً واقتصادياً وايديولوجياً واجتماعياً.

  كتب بتأريخ :  الخميس 11-06-2020     عدد القراء :  1371       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced