الإقرار بالخصوصية في إثبات العمومية
بقلم : د. نادية هناوي
عرض صفحة الكاتب
العودة الى صفحة المقالات

انبثقت النسوية كنظرية وممارسة في الغرب على أساس عقلاني ما بعد حداثي ذي قواعد نظرية عقلانية وما بعد عقلانية بطريقة ثقافية وظيفتها مناهضة الذكورية وتفتيت نظامها المنيع على المستويات كلها الفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعولمية والتقنية والعلمية..الخ.

ولا شك أنّ النسوية وهي ترى العالم بمنظور أنثوي يتطلع إلى المساواة والحرية والديمقراطية والاستقلال لا تريد لنفسها أن تبدو أحادية موصوفة بالخطيئة والتابعية كسلعة فائضة، بل تريد نفسها كياناً يستشعر الآخر أهميته لا هامشيته، فلا يواجه الرجل المرأة بالدونية والإقصاء لتواجهه هي من ثم بالتمرد والشقاق.

والنسوية في العالم أجمعه بغربه وشرقه أحادية صلدة، وهي تحاول استعادة تشييد صرح أبنيتها ورسم فضاءات تطلعاتها المستقبلية لتظل كينونة المرأة أية امرأة كما هي صورة بلا تعدد ولا اعتراف ولا تنوع سواء على مستوى القوانين والأنظمة أو على مستوى التجارب والمراحل والأزمنة التي هي في مرحلتنا ما بعد الحداثية تنماز بأنها انتقالية عابرة للحدود والأجناس والمواضعات.

وعلى صعيد العالم العربي تبدو النسوية حاضرة على مستوى الحياة الأدبية ومتطلبات الوعي الاجتماعي والقانوني لكنها في طبيعة مواجهة الذكورية تغدو أحادية أيضاً لا تعدد فيها. وهذا سر جمودها الروتيني الذي لا نلمس فيه أي تقدم يُذكر. وكأن ليس لها أنْ تغير واقعها الراهن ولا حتى أن تتوقع صورة لمستقبلها أو تتكهن بمستوى ما تحقق من طموحاتها أو تخمن مقدار انجازها لأهدافها، أو على الأقل تفترض لنفسها تجسيداً تؤرشف فيه وقائعها أرشفة تاريخية وبلوائح تتوافق مع القوانين الوضعية والتعاليم السماوية.

بيد أن تسارع العالم اليوم يفرض علينا الاندماج والتعدّد والتهجين الذي معه تتلاشى فكرة السيادة، وتذوب الحدود وتتلاشى القوالب وتزول الفوارق وتلغى الامتيازات كرد فعل ضد الحداثة ووصولاً إلى ما بعدها، وكتعبير أيضاً عن الوعي التاريخي بالمرحلة العولمية وفضائها ما بعد السبراني. وهو ما يهيئ الأجواء لأن تتبلور في النسوية نسويات جديدة بقوة اختلافية تنفلت فيها عملية النمذجة من نسوية واحدة هي آسيوية أو أفريقية أو أوروبية أو أميركية إلى نسوية تعددية اتساعية شمولية تلخصها مفردة( العمومية Generality )

وبالرغم من أنّ للنسوية دلالة لسانية تشير إلى أنثوية النوع الاجتماعي، فإن هذا التدليل اللساني ينطوي على اختلافية فكرية فيها تغدو كل امرأة عبارة عن خصوصية أنثوية داخل نسوية عمومية. ومن ثم لا نسويات متعددة تتشابه وتختلف بحسب الظروف والسياقات كما لا نسوية هي واحدة زمانياً ومكانياً. والسبب أن المرأة لم تعد مجموعاً معبراً عنه بالواحد العام؛ بل هي عموم فيه لكل امرأة خصوصية لا تتشابه بسببها مع أية امرأة أخرى من هذا العموم النسوي حتى وإن كان ذلك اللاتشابه ضمن زمان ومكان واحد وفي ظل فكر مؤطر الحدود والمنظورات.

لكن كيف نستدل على خصوصية كل امرأة التي بها نثبت عمومية النسوية ؟ أو بالأحرى كيف نستدل على النسوية العمومية من خلال خصوصية المرأة كأنثى ؟

لا عجب أنّ العموم هو مجموع الخصوص وأنّ الاستدلال بالخاص على العام هو كالاستدلال بالعام على الخاص، وأننا بالاستدلالين سنتوصل إلى الوحدة العضوية البنائية التي فيها كل عضو( امرأة) هو مكمل لأعضاء الوحدة. ومنها جميعاً يتشكل الكيان الكلي( النسوية) كموضوع أو حدث وكشكل أو بنية. فتغدو كل امرأة في النسوية العمومية هي صورة تكملها صورة نساء أخر، لسن شبيهات تلك المرأة الواحدة لكنهن قريبات من ذلك الشبه.

هكذا يكون كل خصوص أنثوي هو عبارة عن كيان مستقل يمتلك صفات وله قابليات ويتمتع بإمكانيات فيه المرأة لا محتملة أو متصورة؛ وإنما هي متجسدة وحاضرة. ومن هذا التجسد الخصوصي وذاك الحضور النوعي تكون النسوية كيانا ثقافيا كليا يتعدى الجسدية وامتداداً تاريخياً يتجاوز حاضره الراهن ويصل إلى ما قبل التاريخ وسيستمر في المستقبل.

إنّ العمومية هي ضديد الأحادية ونقيض الخصوصية ومرادفة الشمول والموسوعية وقرينة الاجتماع والتعدد ورهينة الانفتاح والتنوع. وإذا كانت النسوية العمومية بهذا التوصيف القائم على أساس استحضار خصوصياتها الأنثوية التي فيها لكل امرأة كيان لا يشابه كيان امرأة أخرى؛ فإن المتحصل من جراء هذا التناغم ما بين العموم والخصوص سيمنح النسوية المتاحات التي بها تقدر على إعادة إنتاج ذاتها، متمكنة من مقاومة سطوة الذكورية، فارضة وجودها الاجتماعي بمختلف الأساليب التي مورست ضدها كالقوة والاستعباد والفوضى والتبرير والتسويف والتكميم.

إن ما تكسبه النسوية من جراء اتسامها بالعمومية سيتعدى الأحادية أيا كانت تلك الأحادية في اللون ( نسوية سوداء ) أو في الجيوبولتيك ( نسوية العالم الثالث) أو في العرق ( نسوية زنجية ) أو في الهوية الوطنية( نسوية اميركية ) أو في الايديولوجية( نسوية ماركسية) أو في الدينامية ( نسوية راديكالية) أو في الطبقية( نسوية برجوازية) أو كانت الأحادية في المنظور الدلالي المحدد للنسوية كحركة سياسية أو كنظرية أدبية أو كميدان ثقافي أو كفكر علمي. لتجتمع في هذه النسوية نسويات هي في الحقيقة نسوية عمومية، فيها كل امرأة هي عالم نسوي أو منطقة نسوية لوحدها.

ولا مناص من أن تكون النسوية في عموميتها كياناً فلسفياً واعياً بينما تظل في خصوصيتها كينونة تجسيدية لغوية وجسدية بهوية اجتماعية مؤنثة . ولا مجال للخصوصية أن تكون متجاوزة الفيزيقية إلا بالاجتماع الذي فيه يرتقي الخاص إلى العام ويصبح الفيزيقي بموجبه تجريدياً.

وهذه التجريدية هي التي تمنح النسوية العموم الذي به تتعالى على مجرد كونها حركة سياسية أو نزعة اجتماعية أو نظاماً أخلاقياً أو فكراً تحررياً إلى أن تكون فلسفة تنضوي فيها كل هذه التصورات وغيرها التي بها تمتلك النسوية رهانات وجودها النابعة من داخلها كما ستتوفر من خارجها ضمانات بقائها اللامتناهي، جامعة قيمها ومحددة معاييرها ومرسخة كينونتها ومميزة هويتها التي بها تصنع نظامها الخاص المحتضن لتوجهاتها، راسمة خطوطها الاجتماعية وكاشفة عن أطرها العلمية والعملية في التمركز والظهور ومعاييرها التي تعتمد عليها في التأنيث لكي تدوم النسوية كسيرورة بشرية لا يمكن اقصاؤها اجتماعياً أو استبعادها وجودياً أو استغلالها جسدياً أو تجاوزها انثربولوجياً.

بيد أن النسوية بالعمومية ستنتزع نفسها من هشاشتها وتنتقل تاريخياً من مرحلة التورط إلى مرحلة إثبات مركزية هويتها عابرة الماضي والراهن بديالكتيكية فلسفية معيدة الاعتبار لوجودها الأمومي محاولة استملاك المستقبل بلا انقطاع بين تراث نسوي غابر ووعي نسوي متحقق، يستفيق بلا تغييب مستوعباً ذاتيته أمام الذكورية. لتغدو المقولة الديكارتية مصوغة بخصوصية جديدة فيها لكل امرأة صيغة أنثوية ولسان حالها يتمثل الكوجيتو الديكارتي:( أنا أفكر إذن أنا موجودة) وبهذه الخصوصية تعقلن النسوية توجهاتها وتسمح لوعيها أن يتعمم في ظل عالم هو الآخر عام متعدد ليس فيه انتهاء.

وخير مثال على ذلك ما يشهده الشرق الأوسط من وضع احتجاجي يمارسه جيل فتي يقود التظاهرات والانتفاضات والاحتجاجات، والنسوية هي الجزء المهم فيه. وسلاحها استمداد العزم والقدوة من التاريخ القديم كشفاً وتقليباً مفيدة من الفضاء السبراني وما فيه من وسائط تفاعلية في توكيد وجودها ورسم تطلعاتها.

وبهذه التماثلية العمومية بين النسوية والعالم يصبح المنظور الوجودي للنسوية منظوراً فلسفياً ذا نظريات وتمثيلات ترتفع بالنسوية من صورتها النمطية الأحادية الدالة على الجسدية في الأغلب إلى صورة ثقافية ذات أبعاد متعددة عينية أحياناً وتجريدية أحيانا أخرى.

وواحدة من عوائد النسوية العمومية أنها ستتجاوز الاستلاب والقمع وتصبح هي الذات والموضوع وهي الممارسة والفلسفة، متصالحة مع نفسها والآخر كفاعلين ينمازان بالتمركز والكلية، مغادرة ذلك التصور الذي رسخته الذكورية دهراً طويلاً وفيه النسوية مجرد كيان سلعوي موصوف بالتابعية ومتسم بالضعف والهامشية. بعبارة أدق نقول إن هذه النسوية التي قبلت بالتنازل عن سيادتها مضحية بها في سبيل أداء دورها الأمومي، لم تعد كذلك وهي ترى النظام الذكوري يطمس حقيقة دورها التاريخي، فاصلا بين وجودها والتاريخ.

وما دامت العمومية عند يورغن هابرماس هي عبارة عن "وثبة إلى خارج الإعادة المستمرة البربرية قبل التاريخية وفي نهاية المطاف تدمير الخط المتصل لكل التواريخ" فإن النسوية ستتمكن من الثورة ضد القمع الذكوري ومواضعاته البطريركية، معيدة إنتاج تبعيتها من جديد فاعلاً يستبدل القهر والهدر بالادخار ويعوض الجمود والركود بالسيرورة ملغية كل صور التنميط والاجترار. ومن ثم لا يعود النظر إلى النسوية مؤسلباً بمعيارية التفكر المتقولب في إحدى صيغتين: صيغة التمرد والعصيان أو صيغة الخضوع والاتباع ، وكلا الصيغتين تنطويان على معايب الإفراط والتفريط في امتلاك الأهلية. والسبب افتقاد النسوية النموذج أو المثال الذي به تدلل على ممارساتها العملية.

وهو ما أعطى للنظام الذكوري منفذاً به تمكن من التواطؤ مع النسوية نفسها مقدما لها النموذج لكنه في الوقت نفسه التف عليها مصادرا انعتاقها الذي تتطلع إلى بلوغه. وهكذا قبعت النسوية متجمدة بلا تقدم ولا ارتقاء؛ بل بانحدار ونكوص مستمرين نحو الخلف، عائدة إلى المربع نفسه الذي أرادت الانعتاق منه وسعت إلى اقتلاع جذور ارتباطها به. والنتيجة المزيد من التهميش النسوي والتابعية وعلى وفق ما تريده الذكورية.

ولطالما قبلت النسوية في صيغتها الأحادية أن تبقى مرتهنة بنظرة توافقية لا تخلو من استلابية فيها المرأة لا توصف بالنجاح ولا تحوز على القبول ما لم تستطع التوفيق بين ما تريده الذكورية وما تريده هي من ناحيتي الوظيفتين البايولوجية والاجتماعية ومن دون أدنى اعتبار إلى الفروق الفردية في القابليات النسوية المختلفة التي تجعل كل امرأة مختلفة عن مثيلاتها.

النسوية العمومية سمة ما بعد حداثية بها تمتلك النسوية مختلف صيغ التفكير المعاكس والمعاند والناقد والمتعدد الذي به تتحدى البطريركية عابرة حدود المنظومة الذكورية ومواضعاتها البراغماتية، بفضاء عمومي يتحدى حيثيات الأنا ويتجاوز محدداتها بإتجاه متصل بالتحرر والديمقراطية. وهدف النسوية العمومية الغوص في العمق وكشف التجليات، كي لا يكون الجنس البشري ـ كما تقول سوزان سونتاغ ـ قابعاً في كهف أفلاطون يتلبث على نحو عنيد في صور ليست فيها حقيقته، وكي لا تكون المرأة مفهوماً سلعوياً يقتصر تطبيقه على أداء أدواره التقليدية المتوخى منها أن تعطي المرأة للرجل هيمنة عليها وقد غدت مرآة لما يريده.

والنسوية العمومية هي أعمق من أن تكون مجرد فضاء يتركز فيه الجمع بين البعدين الجسدي والحقوقي بل هي ايضا سعي يبتغي تجاوز الدمقرطة السياسية والوطنية والحقوقية نحو مساحات أوسع تجتمع فيها معاني الشمول والكونية والعابرية، وبفضاءات تعددية كوسموبوليتية، تتجاذب فيها المتضادات وتتلاقى الهويات بلا هيمنة أو تعالٍ.

بعبارة أدق نقول إنَّ العمومية أوسع من أن تكون جنوسةً أو سياسةً أو جسداً أو كلاماً، بل هي خطاب تعددي جديد، أهم مبتغياته أن يكون خطاب النسوية كخطاب المرأة الواحدة التي هي مختلفة عن أية امرأة أخرى، تأكيداً للفروق الذاتية الغائرة في خصوصيات كل كيان عن كيان نسوي آخر لأن طاقاته خاصة لا يماثله فيها غيره، وبها يصبح أمر اقتحام أي ميدان مرهوناً بتلك الطاقة وفاعلية الاستثمار الذاتي لها.

وكلما اكتشفت المرأة اختلافيتها المؤنثة داخل جنسها النسوي، أدركت حقيقة إمكانياتها واستطاعت مدَّ النسوية بالقوة، مطوّعة خصوصيتها لصالح عمومية جنسها. وبهذه القوة المنفردة ستتمكن النسوية من مناهضة النظام الذكوري حائلة دون أن يجهز على تطلعاتها. فلقد تجاوزت بالاختلاف ضعفها وضمنت بالاتحاد عموميتها وانتفت من ثم أحادية جنوسيتها النسوية.

ولقد وجدت جوليا كرستيفا أنّ أية نظرية تحدد كنه النساء تُسيء تمثيل التنوع غير المتناهي وتتركهن عرضة للتحديد الذكوري، في أشارة غير مباشرة إلى أنّ قوة النسوية هي في قدرتها على سبر خصوصيات كل امرأة فيها، وبما يجعل وجودها وجوداً عمومياً فاعلاً.

ولو أنّ كل امرأة عرفت أنّ لها في ذاتها خصوصية تجعل لها ولبنات جنسها تعددية بها تصبح النسوية عمومية لها ثقلها في ميزان الوجود الإنساني لكانت النسوية العربية مصدر دعم كبير للنسوية العالمية ولما انفصل نضال المرأة العربية وكفاحها في سبيل حقوقها عن نضال النساء في أية بقعة من بقاع العالم المتقدم وغير المتقدم.

إجمالا، فإن وعي المرأة الفلسفي بذاتها النسوية هو خطوة مهمة على طريق عموميتها الفاعلة التي بها تصبح قادرة على جعل النسوية انجازاً متحققاً وليس مشروعاً مقترحاً، واضعة قدمها على أعتاب معمار وطيد الأركان، فيه النسوية كيان فلسفي وإنساني، والمرأة خصوصية واعية في ظل عموم مجتمعي فاعل وتشاركي .

  كتب بتأريخ :  الخميس 18-06-2020     عدد القراء :  1227       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced