الإرادة الطيبة في بعض الاهواء و الغرائز و الجنس في القصيدة مظفر النواب.. (9)
بقلم : جاسم المطير
عرض صفحة الكاتب
العودة الى صفحة المقالات

سؤالٌ كبيرٌ و عميقٌ يخطر  على البال الجماعي ، بين سجناء (النقرة) ، يتعلق بالكيفيةِ الشعريةِ ، بالنوعيةِ الكلاميةِ ، الجميلةِ و اليقِظِة،  في الجملة الشعرية ، النوّابية ، على امتدادِ أبياتِ قصيدة (الريل و حمد) ، المتفاعلة مع :

(1)  الواقع العراقي.  

(2)  مستوى الوعي الشعبي في الريف العراقي .  

(3)  الضمير الإنساني الصادق، العميق، المتطلع الى التحرر من الظلام الاجتماعي ومن الظلم السياسي المركّب .

(4)  الإرادة الفردية الحيوية في اللفظيات الشعرية.

(5) جمال الأسلوب لتقديم اقصى غايات المعاني الشعرية – الإنسانية.

(6) الاستناد الى احكامٍ عموميةٍ و خصوصيةٍ حيال المأثورات الشعبية و التراث.  

(7) تجسيد المعنى الفني الشعري الوجداني – الروحي ليكون (عديلاً) في عهدة الحب و (نسيبا)ً من انسباء التضحية .

(8) أبنية  التجربة النوّابية الشخصية  المألوفة بالجسد العمومي الشعبي الشامل.

(9) تضامن الكل بالواحد و الواحد مع الجمع في الأخلاقية الإنسانية.

(10) جذرية العلاقة بين الخبز و الجنس بين جميع البشر المتضامنين على العيش في انحاء الكرة الأرضية .

(11) حياة الانسان المؤلفة من قضايا التناقض السلبي مع الإيجابي او اتحادهما.

(12) تباين العلّة الإنسانية بـ(الحب) و (العشق) في آتي  الحياة المستقبلية،  حين تبني نظاماً لا تعوزه روح الحق الشامل.  

تَمثّل هذا المذهب الشعري المظفري  بتحويل  (الكلمة المدنية) الى (أداة  طليعية) في الريف الجنوبي، بتقريب عامية  لهجة الريل و حمد ، الى اقصى حد،  لدمجها بالفصحى ،  معبرا عن واجب التأكيد على عمق الوجود بين علاقة المدينة العراقية الممثلة بشعر شاعر مدني مع  الريف العراقي ، المتمثل بالحبيبة ،  ابنة قرية أم شامات. تماماً،  مثلما اعتنق الممثل الإنكليزي (انطوني كوين) آية (الرقص) و (الخمر) في تجربة عالمية مشهورة بموسيقى معروفة اسمها (زوربا) ،   أدرك فيها ارهاقاً شديداً، فوق منصة الفن السينمائي . كذلك استخلص مظفر النواب حركته  التاريخية بآيةِ التعبير  من خلال التداخل الشعري بين (الحب) و (الشعر).      ادرك  الشاعر النواب ، عن يقينٍ،  في مرهقِ مفرداتِ قصيدة (الريل) مع ما  اعقب نجاحها المعبّد بمزاولة (الشكل) و (المضمون) ، الناميين، المؤهلين بالتفاؤل  و بتراكيب الصورة المرسومة بقولٍ متكررٍ، مفاده (هودر هواهم و لك حدر السنابل كطة) .  

التكرار الشعري ، هنا،  رفعَ  القصيدة الى الذرى المعرفية – الشعرية و الى ما فوق ارتباط (القول الشعري) بـ(الفعل الشعري)  في ترقية جميع أبيات القصيدة الشعرية – الشعبية – الريلية ، التي ليس فيها علاج غير الحب وليس لها حل مؤقت او دائم غير الحب.  لذلك تحركت خطوات تكرار (اللازمة الشعرية) بيد مظفر النواب،  باحتمال استكمال تجربة عاشقين صارت مجزأةً بفعلِ علّةٍ اجتماعيةٍ ما .

كان رجاء أو مطلب  السجناء السياسيين في (النقرة) يختلف في عمقهِ و في استفساراتهِ عن شعلة  الشاعر  مظفر النواب لتضيء نعمةِ خطابه ِ،   بأسلوبٍ شعريٍ ، ابتغاه   ان يكون الخالق، الناطق،  لشعرٍ شعبيٍ، جديدٍ، بقصد  تحويل (زمان الكلام) الى مشاركةٍ فعليةٍ،  مليئةٍ بالرجاءِ و الفرحِ و اليقينِ .

تتواصل  آراء الاستفهام ، هنا وهناك،  بين شخصين او بين مجموعة اشخاص من الموجودين في قاووش معين في النقرة او في بعض ساحاتها  بشكلٍ من اشكال  السرية،  لكنها تخرج ، على الفور ، من  خطايا السرية الى القداسة العلنية . السجن منشغل ، يومياً،  بالأسئلة عمّا يملكه الشاعر مظفر النواب من مواهب عديدة ، منها  القدرة المثالية  على الكلام الفصيح بنوعٍ من البلاغة و عن الكلام  العامي بنوعٍ من الهدير المسموع من  شقشقات ( النقرة)  بصحراء السماوة ،حتى صداه المسموع ، جنوباً،  في جبل (سنام) بصحراء الزبير  . لكن الجميع ، داخل السجن و خارجه، يعرفون ، تمام المعرفة،  أن   عنز الحكومة العراقية السوداء ، لا تهتدي بما يقوله  في شعره ،  لان رغاءها يمنعها من السماع او الاصغاء . لا يوجد مسؤول في الدولة العراقية  يحس بصوت الرحى ، التي يحركها الشاعر الناظم مظفر النواب . لا استقامة في تعامل الحكومة مع ضحاياها من سجناء ( النقرة) لأن الحكومة مطمئنة الى ان مفاصل الطيور و الحمام، المقيدة،  لا يمكنها ان تنقل الشيب الشامل والقهر الشامل و التخريس الشامل.  لكن الموظف الحكومي الأعلم في إدارة ( النقرة) كان يخشى من جدب الزمان الحكومي و احتمال انقلابه على الحكومة و الدولة لأن جهد السجناء و الصوت  المشترك ، مظفر النواب و سعدي الحديثي ، المرتفع الى الصحراء و منها الى المدن العراقية ،كافة ، قالعاً جذوعَ نخَيلٍ لا  تساقط رطباً جنياً .

بكل الأحوال فأن الكثير من السجناء يعرفون ان للبعوضة خرطوم يشبه خرطوم الفيل ، لكنهم لا يعرفون سبب عظمة اشعار مظفر النواب و تحوّل صوته الى ما يشبه هدير الأسود . انه صوتُ شاعرٍ غضبانٍ،  ليس فيه اي وهنٍ،  لأنه صوتُ شموسٍ نضاليةٍ،  مدامةٍ  بالأعلى ، دائماً .

كانت أسئلة السجناء تتكاثر بين الادباء من أساتذة الشعر و من تلاميذه ،في هذه (النقرةّ) .  من أمثال الشاعر المتحد مع نفسه و بإرهاق التقدمية الشيوعية (ألفريد سمعان)  او الشاعر الشعبي الكظماوي (هاشم صاحب) او سواد عديد  من شبّان (النقرة) أمثال خالد الخشان و دينار السامرائي و فائز الزبيدي و ناظم السماوي و محمد الجزائري و سعدي السماوي وعشرات غيرهم ممن يريدون الدخول الى  تاريخ الشعر وأدب السجون  من بابه الواسع    . كثير من  السجناء ، من غير الادباء، خاصة من الضباط و الجنود ،  بمختلف القاعات الكبرى العشرة في (النقرة الجديدة) يتساءلون ..   كذلك في القاعات القديمة يتوجه الكادحون   بأسئلةٍ  حيويةٍ  عن شعرِ الشاعر مظفر النواب الى الناقد المترجم (صالح الشايجي) في القاووش رقم 2 او الى كمال عمر نظمي في القاعة رقم 6  او الى نصيف الحجاج في القاعة رقم 4 او الى اسعد العاقولي او سليم الفخري او الى جمعة اللامي او الى المترجم سلمان العقيدي او الى بديع عمر نظمي او الى غيرهم بالعشرات،  لكن الأجوبة كانت تقفر  الى العدمية او التنازعية   بمحتوياتها،  فهي ناقصة او مضطربة ، مما كان يعني استمرار الصراع حول قيم التراث في الشعر الشعبي المظفري.  

اكثر الأسئلة تتوجه بوفرِها الى (سعدي الحديثي) باعتباره الصديق الأقرب الى مظفر النواب لكي يؤدي بمعلوماته عن كشف  سرّ الاصالة الشعرية،  المعاصرة،  في اشعار صاحبه. يرتقبون   منه  أسرار و آفاق محدثات التمدن الثقافي بـ(النقرة الصحراوية)،  العاجزة بمكانها الانعزالي البغيض عن مماشاة التطور الإنساني و محاكاته.   اكثر الأسئلة لا تخلو من رؤية استقصائية  في عمق الطموح التالي :   تُرى من أين يأتي جمال الكلام في قصائد النواب ، بينما قبح مكان (النقرة) و زمانه ، على اشده ..؟

الربيع في هذا المكان مثل الخريف و الصيف خانق مثل الشتاء ..

ماء  الابار الكبريتية يدخل مغلولا  الى بطوننا فهو نوع من سموم،   تخصّب  بسرعة قاهرة  بياض شعر الرأس  و اللحى.

نوع شاذ  من جنون الحكومة  و مرض سجانيها يعتقل صحة الانسان السجين  و عقله و لسانه .

يضطر ، كل سجين ،  تحت البصرِ ان ينفثَ بين ساعات يقظته و نومه،  ما لا يقبله طب الأطباء السجناء  و لا نصائح الوجهاء من سجانين شرفاء.  

بهذا المكان ، تصرعنا   عفونةُ  ماءٍ  و ملوحته..  يتناوله  السجناء اضطراراً.  

ما بال الطبيعة ظالمة الى هذا الحد بصحراء  نقرة السلمان..؟  لماذا لا يستبشر الانسان،  هنا ، عندما تمطر السماء..!  ذلك العطاء السماوي ليس سوى  نذير عاصفة ترابية تعقب امطارها ، بيومٍ او ببضعِ ساعاتٍ،  تقلب اسافل  السجن على أعالي السجانين في الربايا الأربع المحيطة بكل جوانب النقرة،  بقصدِ حراسةِ انفسِهم من خططٍ خفيةٍ يظنونها غريزة سجنية محبوسة في شعور أخلاقية هروب المسجونين  .

تتحول الصحراء ،كلها،  الى توترٍ لا يشعرُ به الانسان  السجين ، بأي شوقٍ انسانيٍ ، حيث يتوقف تأثيره النوعي على الفنون الجميلة، من شعرٍ و رسمٍ و كتابةٍ و  تصويرٍ و غناءٍ وابداعاتٍ موسيقيةٍ  و تمثيلٍ مسرحيٍ كأن السجناء  أمواتٌ،  تموت معهم اذواقهم الفنية  لجعل عذابهم يشعرهم  ان ذيلاً قد نبتَ في مقاعدهم من طول القعود على ارض مسجونة ِ وان الجميع صاروا من مرضى قصر النظر، بينما الربو يجعل حواسهم مقطوعة عن الحياة..!  هذه مآسي (النقرة) المؤثرة في الحواس الإنسانية الخمس او الست . إذنْ من أين يأتي جمال الكلام الى عقل مظفر النواب و شعره  و هو يواجه التفجر الداخلي عن انفكاك ارتباطه ، بعائلته،  بالوالدين و الاخوة و الاخوات و بالأصدقاء الكثيرين . كما لا تخيفه ، كثيراً،  عتمة عيني حبيبته،  التي تواجه الحيرة من المستقبل و الارتياب بتطور الأوضاع السياسية في البلاد العراقية ،غير المأمونة ، مثلما هو حال آلاف السجناء من روّاد (النقرة) حيث يدخلونهم فيها  بلا لبابٍ و يخرجون منها بلا لبابٍ لأن نهارها ليلٌ طويلٌ لا تنام فيه إلّا الطبيعة الغاضبة، تغذي عيون  و افئدة المسجونين  .  كان كل شيء ، من مثل هذا  البؤس و الشر و الوحش يواجه أعماق السجناء و منهم  مظفر النواب  يُبان التلألأ على جبينه،  مثل جبينهم،   بخصب المعاناة الذاتية.  يجد حاله ، كل ، يوم منفتحة على حال رفاقه في (النقرة)  وكل واحد منهم  يخضع لاستبداد الوجود الظالم و هو لا يدري كيف يقرأ او يستقرئ  أوضاع الساكنين بـ(النقرة) من السجّانة خارجها او السجناء في داخلها . صار السجين في النقرة يضيق على عقل رفيقه بالسؤال .. و  كنت انا من السائلين أيضا :

من اين اتى و يأتي الى الشاعر مظفر النواب كل هذا التطلع الملحمي عن  النشوء او التصوير في المفردة الشعرية و في الجملة الشعرية و في خلق القصيدة الشعرية..؟

من اين يأتيه هذا الإحساس المتخيل بكامل عدته الإنسانية..؟ هل لأنه شاعرٌ تواترَ الخيالُ عليه هبة من إلهٍ في احدى طبقات السماء  أم لأن هذا الشاعر هو  (مظفر النواب) جبله والداه على المخلوق الشعري،  بداخلهِ،  حتى صار الشعور الإنساني في أعماق اشعاره خيالاً لا يمكنه أن يبني حاجزاً بين بحر (المدينة) و برّ (النقرة) ، بين مكان (الكاظمية) و زمانه و مكان (النقرة) و زمانها ، طالما الحكّام في المكانين و الزمانين هم من المخلوقات الحيوانية الوحشية .

من هنا يأتي سبب ترجيح الحب و الجمالية في اشعار مظفر النواب وهو المواطن الكظماوي المؤمن بنظرية الإنكليزي (شارلس دارون)  حول (تنازع البقاء) في  القصيدة الشعرية الأكثر حكمة و مسؤولية.

انتبه مظفر النواب ، منذ اول قصيدة نظمها بالشعر الشعبي (الريل و حمد) الى أن اشعاره ، كلها، لن تنال العظمة الشعرية و الأخلاقية النضالية من دون محاسن  تنفيذ نظمها على وصف نظرية البقاء الشعري  للأصلح لصاحبها و صاحبه شارلس دارون .  

بذلك فعل أفعال المهندسين العراقيين و الإنكليز المنقبين عن منابع الثروة النفطية في اهوار الجبايش و القرنة..  استقصى مظفر النواب عن الجمال الشعري بطريقة التنقيب و التأمل و الخيال، كي يغدو شاعر التجارب و الحكمة و الفراسة ، ناطقاً باسم الكتيبة الإنسانية، الثورية ،  العراقية.

ترك متعة و عنوة المتواليات الحياتية، الذاتية، لاعتقاده ان الانغمار بها ، يسلب   العقلانية الحضارية  و الكياسة الموضوعية بالحالتين الدفاعية و الهجومية . ظلّ  محافظا على طهارة نفسه ورجاحة عقله بمختلف الظروف السياسية ، الصعبة .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يتبع

  كتب بتأريخ :  الإثنين 22-06-2020     عدد القراء :  1239       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced