من أجل ثقافة تعددية لا استقطابية
بقلم : د. نادية هناوي
عرض صفحة الكاتب
العودة الى صفحة المقالات

لعبت الثقافة الاستعمارية دوراً كبيراً في تحجيم الثقافات على تعددها وتنوعها، كي تظل الشعوب واقعة تحت طائلة النفوذ والتبعية وهي تتنازع فيما بينها حول مصالحها القومية بأحادية، وكانت سياسة ترسيم الحدود بين بلداننا العربية وداخل مدننا سياسة ثقافية استقطابية القصد منها تعزيز مظاهر التفرقة والأحادية والتشرذم والتعالي والنمذجة في ثقافتنا العربية كي لا تكون عنصراً مهماً من عناصر وحدتنا.

وفئوية هذه السياسة الاستقطابية تنبع من وعي الأنظمة الاستعمارية بأهمية أن تكون المجتمعات المتمتعة بالتعدد الثقافي بعيدة عن أية محاولة لاستثمار تنوعها لأنها إن فعلت ذلك غدت ثقافة متعددة بلا حدود تحجِّم فاعليتها ومن دون عوائق وأمراض يغرسها المجتمع الأحادي في جسدها.

من هنا تتوكد لنا أهمية التعدّد الذي هو بحسب أرمان ماتلار (تنوع الوسائل التي تجد فيها تعبيرَها عن ذاتها ثقافاتُ المجموعات الاجتماعية..أنها الطرق المختلفة التي بواسطتها تستطيع السلع والخدمات الثقافية وكذلك الفعاليات الثقافية الأخرى أن تكون حمّالة دلالة رمزية أو أن تنقل قيما ثقافية إجمالاً)

وتتأتى ضرورة التعاطي مع التعدّد بجدية بلا فئوية ولا عنصرية ولا استقطابية من فاعلية التنامي الحيوي في الثقافة الذي به تستغل كل ممكناتها وطاقاتها وفاعلياتها التي تقوم على أسس كثيرة، منها التعددية ونبذ الطائفية ورفض مختلف صور التمييز العنصري والفصل الجنسي والاستثناء الثقافي وإلغاء المصادرة القامعة للهويات ومناوأة التنميط ومقاومة العمى الثقافي من خلال العمل على صنع منظومة للتلقي تنماز بالانفتاح والمعرفية محاولة ردم الفجوة الثقافية بين الشعوب، فلا نخب تتموضع في يوتوبيا خاصة بها ولا حيازات خاصة للأدب والعلم في جمهوريات يستفرد بها بعضهم ليكونوا موصوفين بأنهم حراس الثقافة والمدافعين عنها، ولهم وحدهم فضل المحافظة عليها. والحراسة مفهوم من مفاهيم ادورنو ويعني أولئك الذين بيدهم القرار فيما يجري تقديمه على الساحة الثقافية من مثل لجان إعداد المؤتمرات أو الفعاليات أو أصحاب المناصب في المنظمات والجمعيات والاتحادات أو معدي البرامج والاخبار فهؤلاء يقررون ما يعرض وما لا يجوز أن يعرض، وهذا المفهوم طرحه الغذامي هذا المفهوم في كتابه(الثقافة التلفزيونية)

ولا مناص من القول إن الثقافة المتعددة ثقافة حرة لا تبغي الاستهلاك وإنما الإنتاج والاستثمار من دون فصل هوية عن هوية أو لغة عن سواها أو تفريق بين مقاربة ثقافية وإعلامية أو اختلاف بين ثقافة وأخرى.

وتعود أهمية هذا الاستثمار وتطويره إلى مسألتين: الأولى تتعلق بطبيعة هذا التنوع والثانية تتصل بكيفية استنفار الطاقات وتوحيد الجهود بالاندماج الإيجابي المفضي إلى الإفادة التي تعم بخيرها الفئات والكيانات على اختلافها.

فالكل له الحق في التواصل، وله دور في صناعة ثقافة المجتمع. وهذا ما يجعل التضامن ممكناً بين شعوب العالم عبر التعاون في مجالات مختلفة وفي أشكال متباينة منها التنمية المستدامة وحوار الثقافات والحتمية التقنية. وهو ما قد تأخذه على عاتقها منظمات حكومية وغير حكومية، عاملة على توظيف التعدد الثقافي في إطار إنتاجي يحقق متطلبات الوعي بالهوية الثقافية، متحصناً في الآن نفسه من مختلف محاولات المتاجرة بالثقافة وسمسرة تعددها بحثاً عن مبتغيات معينة وربما المراهنة عليها أيضاً، لكن بلوغ ذلك التطلع في التحصن ليس ميسّراً ولا سهلاً كما يبدو للوهلة الأولى، إذ أن ثمة معوقات تعتري الاعتراف بالثقافة عاملاً مادياً من عوامل الوحدة ومصدراً قوياً من مصادر الرأسمال الرمزي وبما يجعل عملية الاستثمار لا تخلو من صعوبات، ناهيك عن الكيفية التي بها تتم المحافظة على استمراريته، في ظل ديمقراطية العولمة وثقافة الإعلام الموجه الذي تهيمن فيه الصورة على الكلمة ويتغلب الافتراضي على الواقعي..الخ.

ولن ننسى أن للطروحات التي تتحدث عن نهاية التاريخ ونهاية الأيديولوجيا ونهاية المثقف أثراً كبيراً في إحباط كثير من مظاهر الترويج لثقافة التنوع والانغلاق كون تلك الطروحات ليست معزولة عن حركة المجتمع بل هي متغلغلة فيه. ولكي يتأكد التنوع ويتم الحفاظ عليه فلا بد من صناعة ثقافية تنمي الوعي وتؤسس للهوية يسهم فيها منتجون ثقافيون حقيقيون في تمثيلهم للثقافة منفتحون وهم يتصدرون المشهد الثقافي وتعدديون وهم يمارسون أنماطهم المختلفة كأوصياء وأدباء ومفكرين وكتّاب وفنانين وباحثين وغيرهم ممن لهم أثرهم في تعميم الثقافة وتطبيق إستراتيجياتها.

وإذا أردنا توصيف المنتجة التعددية للثقافة؛ فإننا سنحددها بأنها فاعلية واعية ذات إرادة تسعى إلى بناء ثقافة مشتركة تجمع المختلف والمؤتلف والموالي وغير الموالي والغالب والمغلوب والطرفي والمركزي، سائرة على وفق إستراتيجيات، ترتفع بالشعبي إلى الرسمي، متعدية المحلية إلى العالمية، دامجة هذا التنوع باتجاه إنتاجي تتفاعل فيه البنى الثقافية وتندمج عبره الأشكال الاجتماعية فتكون المحصلة كبيرة يمثلها المجتمع وقد صار تآلفياً وتعددياً وانفتاحياً.

وبهذا تغدو الثقافة التعددية مشروعاً عاماً لصناعة ممارسات بلا استقطابات وتمثلات ليس فيها احتكارات، فيتحوّل كل ما هو خاص وذاتي الى عام واجتماعي كنتاج إنساني رمزي وجمالي ليس لأي طرف فيه منةً وبسيرورة دائمة، لا تعرف مصادرة أو إلغاء، كما لا تقر بأية وصاية صنمية أو نمطية.

ويخطئ من يتصور أن الفاعلية الثقافية هي عملية إنتاجية لا تعمل إلا بفردانية ولا بد فيها من التصدر والتواطؤية، وذلك لأمرين: الأول إن الثقافة الحقة هي التي تحقق تراكماً إنتاجياً متنوعاً ليس منسوباً إلى طرف بعينه؛ وإنما هو متوزع بين الأطراف كلها. ومن ثم فإن أي تطور ثقافي يطرأ على بنية المجتمع هو رهن بتلك الأطراف، والأمر الثاني أن كل طرف يستثمر الطرف الآخر من دون أن يستغله أو يسخره لحسابه، وبهذا الشكل لا تُحتكر المعرفة الإنسانية عند نوع دون آخر، لأن الجميع مشتركون فيها.

ويعد التحول الثقافي سبيلاً ممهداً نحو هذه الرؤية الانفتاحية لأنه يتجاوز مفاهيم التكيف الاجتماعي والتغير والبيئة والتباين في الهوية واللغات والاتصال حيث الفرد الواحد هو الكل الاجتماعي والإيمان بالتعدد يجمع الفردانية بالكليانية التي يسميها كلود دوبار الجماعاتية بمعنى أن (لكل فرد انتماء يعتبر رئيساً بوصفه عضواً في جماعته ومنزلة فريدة بوصفه يحتل موقعاً في هذه الجماعة.)

وقد يتصور بعضهم أن الاعتراف بالتعددية الثقافية يفقد المركز زمام السيطرة، وهو تصور واهم، هدفه المبالغة في تخويف الذات، بحجة أن التعدد نوع من التهجين الذي يذيب الأصلي في الفرعي ويجعل الفرد غير واعٍ بفرديته قدر وعيه بالآخر أو أنه هجانة سلبية تعيق التطور، إيماناً بنظرية المؤامرة وتكريساً لتبعية الهامش للمركز التي بها يتغاضى المهيمن عن دور المختلف ويتم تدجين المؤتلف فقط وربما استغلاله، وكأن الذات الفردية ليست نتاج الحركة التاريخية والوعي الجمعي اللذين يمنحان الذات تحصينات ودفاعات ويجعلانها قادرة على التفاعل مع المجموع الغالب ودرء خطر أي اختراق أو انتهاك ثقافي.

وليس خافياً أن الحضارات الحديثة ما كانت إلا نتاج تصالح مجتمعي ائتلفت فيه جماعات متنوعة ثقافياً جاءت على إثر نفي أو هجرة أو إقصاء أو إبعاد، ومن ثم لا يعني التعدّد إلغاء الهوية ولا نكران الأصالة ، وإنما هو إقرار بالفردية وتنازل عن المركزية واحترام للاختلاف مع الآخر، بل إن انكار التعددية في الثقافة هو تعبير عن ضعف الطبقات المثقفة وربما عجزها عن إزالة البينية بين الثقافات المختلفة، كما أنه ينم عن تفكير الذات المتعالية التي بسبب تعاليها تعيش في يوتوبيا خاصة بها لا تعرف الاندماج ولا الاحتضان ولا الغيرية بل تعترف بحدود الضوابط الفئوية التاريخية والجغرافية والعقائدية والعرقية، ولهذا السبب يظل الإحساس بالقلق والتخلخل ملازماً المثقف المستقطَب كفرد مبتور وموتور ومزروع في بيئة غير بيئته.

وهو ما يتطلب إشاعة الوعي بأهمية أن تكون الثقافة عامل جذب لا طرد، تتحاور ولا تتصارع تندمج ولا تستفرد، تعطي مثلما تأخذ تنتج وتعيد انتاج ما تنتجه رغبة في اتمام الفائدة وتحقيق الربح المشروع وكي تسود المنفعة وتتأكد الجدوى. ومن ثم لا تعود هناك تفرقة طائفية ولا تقوقع ذاتي ولا فوضى انفتاح سلبي، ما دام الفرد غير محبوس في تكتل جماعي بعينه، وإنما منتسب إلى مشترك جماعي، يتجاوز النزاعات القبلية والتناحرات القومية ولا يفرق بين خطاب مؤسساتي وخطاب شعبي وثقافة مركز وثقافة هامش.

ولأجل الوصول إلى هذه البغية فلا بد من سياسة ثقافية تشاركية ترتكز على ستراتيجيات خلّاقة وتنجز فاعليات وتنتج نشاطات تخدم الحياة الثقافية بالعموم، وتهدف إلى رفع مستوى الوعي بالتعدد مستغلة في سبيل هذا الهدف وسائل التواصل المعروفة كالراديو والتلفزيون والجرائد والكتب والسينما والموسيقى والانترنت والترجمة والمسرح والمتاحف وغيرها من الوسائل التواصلية والصور الحياتية التي تهدف إلى احترام التعددية الثقافية، ولا شك أن بالعولمة والتكنولوجيات الرقمية تغدو الثقافة نفسها عابرة بحرية ومتخطية بلا تبعية توليداً وتمازجاً واستثماراً.

وواحدة من غايات الاعتراف بالتعدد التبادل المعرفي وتحقيق التقارب الاجتماعي مع المختلفين والمعارضين بعلاقات تقوم على مأسسة الثقافة بانفتاح محسوب ودقة بها تتقلص الفجوة الثقافية وتلغى سياسة الهيمنة والمحو الثقافيتين.

والمطلوب هو أن يكون الانفتاح طريقاً آخر من طرق الاعتراف بالتعدد الثقافي الذي به تتعافى الثقافة من عللها وتبرأ من أسقامها سامحة للذات باعادة إنتاج نفسها بطريقة تتعقلن فيها الحياة الفردية في علاقتها بالحياة المجتمعية. وهذا التعقلن هو ما انشغل هابرماس بالتنظير له متأثراً بهربرت ماركوز الذي ناهض الوضعانية وانتقد الاستقطاب العالمي والتكنولوجي.

وما كان للثقافة أن توسم بالتعددية إلا بسبب اتساع صور تمثيلها في الحياة ضمن في هذه المرحلة التي تعرف بمرحلة ما بعد الأنوار، تغدو متمظهرة في ميادين كثيرة، فهي على الصعيد الابداعي تتجسد تارة في الأدب بانواعه المكتوبة والشفوية وتارة أخرى في فنون الحياة العصرية والعلوم المعرفية وتفرعاتها مثل علم الاجتماع وعلم النفس واللغة والأدب والتاريخ والدين وأخلاق العمل ومبادئ السلوك وأشكال العادات والازياء والطبخ إلى آخره من مجالات الحياة الأخرى وبلا أدنى نخبوية أو شعبوية.

ولا خلاف أن يدخل في هذه التنوعات المركزيون كما يدخل فيها أيضا الهامشيون المحرومون والمعزولون والمنزوون وكل من يعمل في مجال الثقافة أو نشرها يعد واحداً من فواعلها ومحوراً من محاور ستراتيجيتها.

وقد تدخل في التعددية الثقافية الثقافة المستقبلية التي توسم بأنها ثقافة افتراضية تنتجها فئات قد لا يحسبها بعضهم داخلة في الفعل الثقافي كالمشتغلين بالمواقع الأدبية والفكرية الالكترونية والمدونين في الفيسبوك وتويتر والمولعين بالصورة وتوظيفها في الانستغرام والسناب والشات وغيرها من وسائل التواصل الافتراضي.

وعلى الرغم من اختلاف ميادين هذه المجالات وتنوع هويات من يمثلونها وتباين وظائفهم؛ إلا إنها مجالات ثقافية تمنح الحياة منفعة، وتضفي عليها مدنية وتعطيها فائدة وجمالاً، حتى أمسى لكل مجال ما يمثله في المجتمع المدني من أندية ومنظمات وجمعيات ومراكز ومنتديات وروابط واتحادات تتشكل عضويتها من أفراد ينطبق عليهم الوصف أنهم ثقافيون. أمّا مفاهيم النخبة والنموذج والمعيار فلربما أصابها الضمور والأفول، لأن الكل سيشتركون في صنع الثقافة.

ولا يوصف المجتمع المدني بأنه متعدد الثقافة إلا حين يعترف لهذه المجموعات وغيرها بالمثاقفة ويضمن لها التواؤم على وفق مبدأ التمازج والاندماج الذي يعطي للثقافة صورتها الانفتاحية.

ولا مناص من القول إن التعددية الثقافية هي رأسمال رمزي symbolic capitalكمفهوم ثقافي ابتدعه بيير بورديو وجعله جامعا لكل أنواع الرسملة الأخرى كالرأسمال الاجتماعي والاقتصادي. والرأسمال الثقافي يحيل على المعارف المكتسبة التي تمثل في الحالة المدمجة على شكل استعدادات دائمة للبنية من جهة ومن جهة أخرى يحيل على انجازات مادية. وغايته حفظ التعدد الهوياتي وممارسة ما هو غير منمذج ولا معياري، وبتكاملية ثقافية ليست مركزية في إدارتها لقطاعات الحياة كافة وتسييرها.

والرأسمال الرمزي سبيل آخر من سبل الوصول إلى التعدد الثقافي وله صلة بشكل أو بآخر بمصطلح التمثيلRepresentation الذي أطلقه إدوارد سعيد وعدّه بمثابة صور ترسم للمثقف الممثل للمجموع وتمكنه من تأدية أدوار مجتمعية يتجاوز عبرها حالات النفي والتهميش والإقصاء، والبغية من وراء التمثيل للرأسمال الرمزي إنتاج ثروة ثقافية تنفع الهوامش مثلما تنفع المراكز، وبه تتمم عملية إلغاء الهرمية الثقافية مبدلة إياها بفضاء خطي متعدد الأبعاد تتجلى فيه الثقافة كمجموعة رأسماليات وبستراتيجيات تعيد الإنتاج واضعة الأفراد بمجموعهم في حسبانها.

وهذا ما يضمن للجميع حقوقًا كالحق في التربية والتعليم والصحة والانتخاب والترشيح والتوظيف والضمان الاجتماعي، ويعزو بورديو عمل هذا الرأسمال إلى النوموس والهايبتوس إذ الأول هو القانون الأساس في أي فعل اجتماعي والثاني هو فعل لاعقلاني وعامل وهم، لكنه يسوّغ لنا ملامح الحياة الاجتماعية ويجعلها طبيعية.

لا شك في أن التمثيل للتعدد الثقافي باتجاه الاستثمار كرأسمال رمزي هو رهن باستراتيجيات يتم رسمها بعناية والتخطيط لها بقصدية ثم انتهاجها كخط شروع عملي على المدى البعيد. ولعل أكثر المجتمعات امتلاكا لهذا الرأسمال هي المجتمعات العريقة التي لها تاريخ ضارب في القدم بناءً على ما كانت نظرية يونغ قد جاءت به وملخصها أن الارتجاع في الثقافة حاصل لأن هناك ترسبات ثقافية ما قبلية تحدد مسار الثقافة ضمن المجتمع الواحد.

وهذا ما يجعل الدول الكبرى وأنظمتها الاستعمارية والرأسمالية تحسب لهذه المجتمعات ألف حساب، حائلة دون تمتعها بهذا النوع من الاستثمار لتعددها الثقافي ومنها المجتمع العربي الذي يمتلك رأسمالاً رمزياً، يؤهله لأن يحقق الغلبة على الامبريالية الثقافية التي تريد بمساراتها الاستحواذية تدجين الشعوب في منظومتها العولمية لتكون طوع تصرف الامبريالية الثقافية وبحسب ما يناسب مصالحها. وبالتغلب على الامبريالية الثقافية تذوب ظواهر التدجين كلها ولا تعود قادرة على صهر المجتمعات في بوتقة ثقافتها المعولمة.

وبإيمان المجتمع بحقه في التعدد الثقافي لا تعود الثقافة العولمية هي المحرك، بل يكون التعدد بديلا يولده رأسمال رمزي بالتبادل الحر الذي به يصبح الإنتاج الثقافي متأصلاً في المجموع بلا مركزية، ومتأتيًا من أرض محايدة بلا قطبية أو انحيازية. وبذلك تتحقق التعددية وفي الوقت نفسه تتحد القوى والطاقات فتنتفي الحاجة إلى الفئوية والاستقطابية والمركزية والهيمنة والأحادية ولا تعود هناك سيادة بالمعنى الامبريالي، وإنما هي سيادة قائمة على التكافؤ والتوازي والمضاهاة.

وما دامت الامبريالية الثقافية مخفقة إن لم نقل عاجزة عن تحقيق التعايش فلا غرابة اذن أن يكون التقارب والتداخل والاندماج سمات مميزة للعصر القادم.

ولا يخفى أن بالتعدد الثقافي نمتلك مقومات التطور بسمات اجتماعية وثقافية وتاريخية وتكنولوجية تمكنهم من إعادة إنتاج المعارف وإنماء الإبداع انعتاقاً من ضغوط الاستغلال وتخلصاً من تبعات الاحتكار، وتحصناً أيضاً من الانغلاق وسلبياته التي تحجم فاعليته، مع تجنب الانحياز الذي يخدم فئة على حساب غيرها.

ولا سبيل لأي مشروع نهضوي ينفض غبار التعالي ويسعى إلى التحاور والتعادل؛ إلا بتوكيد النزعة التعددية الرحبة التي تنبذ التمركز حول الذات، وتدعو الى المساندة المتكافئة التي فيها التعدد ليس هجانة، واللامركزية ليست فوضى، والسيادة في توجيه الفعل الجماعي وقيادته ليست هرمية؛ بل التعدد مصدر قوة وتمكين إذا أُحسنت الإفادة منه وتنميته كعملية اندماجية تفضي إلى الانصهار والتدجين ليغدو كل نوع ثقافي وثيق الصلة بحركة المجتمع وله هويته وقضاياه السيكولوجية والثقافية، وله أهمية في الاستدخال الثقافي وصلاته المرتبطة بمنظومة العمل والعلاقات الاجتماعية.

ويظل الاعتراف بالتعددية الثقافية مظهراً حضارياً ودالة سوسيوثقافية ورهاناً جيبوبولتيكياً، ينطلق من فرضية أن الثقافة هي الحياة نفسها. ولا مجال لتوكيد التعدد والاعتراف به سوى بالثقافة التي بها يتحقق مطلب التشارك المعرفي بلا استثناءات ثقافية التي هي ألد أعداء التعدّد الذي به تتساوى الثقافات فيما بينها فرعية ورئيسة، محلية وإقليمية، رسمية وشعبية أو كثقافة مكتوبة أو شفوية. ويتحقق تطامن في فضاء رحب تحكمه بروتوكولات تتسم بالكلية، يتبادل فيها الأفراد والجماعات المنافع وتتفاعل هوياتهم من دون أن تتقاطع أو تتضاد وفي شكل استعادة إنتاجية بصور جديدة ليس فيها اعتداد فئوي ولا تحزب امبريالي ولا تكتل كولونيالي.

ولن نجانب الصواب إذا قلنا إن التعدد الثقافي لا يلغي الهوية الوطنية ولا يصادر الخصوصية القومية؛ بل هو يضيف إليها وينميها، من خلال العمل على دمج العديد من الشبكات المفهومية والمنهجيات وشبكات الألسنية والاتصالات وعلم النفس والاجتماع فتغدو التعددية الثقافية في صميم الحياة نفسها كمكون من مكونات الطبيعة الإنسانية.

وليست التعددية الثقافية مفهوماً بديلاً عن الاستثناء الثقافي حسب؛ بل هو واحد من الرهانات الحضارية، الساعية إلى تفاعل الشعوب في سياساتها اللغوية ونظمها المعرفية بتكامل من دون استتباع أو هيمنة، لاسيما في عالم ما بعد الحرب الباردة التي فيها أصبحت السياسة الكونية متعددة الأقطاب متعددة الحضارات.

وعلى الرغم من هذه الجدوى التي ينطوي عليها التنوع والعوائد التي تتحقق جرّاء اعتماده؛ إلا أن بعض هذه الشعوب ما زالت ترفض استثمار ما لديها من تعدد ثقافي ولا تحاول إدماج ثقافاتها مع غيرها، وقد تجد في التعدد سبباً لنشوب النزاعات ومن ثم تسند إليه كثيراً من مظاهر التنازع والاقتتال.

وتظل التعددية الثقافية أكثر من مجرد توصيف أو إطار كما أنها ليست اختياراً وليست إلزاماً، إنما هي هوية كوسموبوليتية تقوم على التقارب والانفتاح وتؤمن بالاندماج والتواصل في ظل مرحلتنا ما بعد العولمية التي لا تعرف المركزية. وهو ما يحوّل العولمة من هيمنة هوية على أخرى بشعبوية وأيديولجية إلى امتزاج هويات وثقافات وقوميات مع المحافظة على سيرورة اختلافاتها من دون استثناءات. وهذا ما تسعى إليه صناعة الثقافة بأسلوب طوعي جماعي مشترك تحقيقاً لحياة جديدة ليس فيها وصاية أو رقابة أو غزو.

إن التخطيط لرسملة تعددنا الثقافي وجعله ممكن التحقق، إنما يتطلب من الجهات الرسمية ذات الصلة بالثقافة وشؤونها وتفرعاتها أن تضع الستراتيجيات المناسبة بطريقة لا مركزية تنبع من سياسات انفتاحية، تمارس على وفق حسابات ومبادلات الرأسمال الرمزي الذي ينبغي أن يتحكم في صنع ثقافة مجتمعية جديدة ومنفتحة وحرة ومتكاملة ليس فيها استقطاب ولا استبعاد كما لا وجود لتعال ولا تحيز ولا أحادية، وهو ما نتطلع أن تكونه مجتمعاتنا العربية أو على الأقل تسير نحوه سيراً حثيثاً، نابذة الانقسام وموجهة الإمكانيات ومعيدة استثمار ما يمكن استثماره من الثقافة وتعددها بشكل جديد وأكيد.

  كتب بتأريخ :  الجمعة 17-07-2020     عدد القراء :  1401       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced