في الأمكنة القديمة نحيا، وبطابوق البيوت التي غادرناها، ذات يوم، نحكُّ جلودنا ندماً، وعلى أسيجتها الخشب نقف، في محاولة للعثور على كثير فقدناه، هناك، في فعل من أفعال الحنو والتطهر، ربما. في الزوايا المهملة اليوم، نتلمس، وعن يقين، معنى الأزمنة وهي تمضي غادرةً، نتأمل معنى الحياة، هذا النهر الذي يندرس بنا كل لحظة.
قد يعتقد بعضنا بان هذه خصيصة المبتلين بالوعي، أو هي مما تفعله الكتب والسينما والرواية بأصاحبها، أو هي ما ينتفع منه السائح في تجواله باقل تقدير، لكنَّ الحنين، الذي يشدنا الى هناك جارف، بكل تأكيد،هكذا، دونما تسميةٍ له.
كان المصلّون الجدد في قريتنا قد هدّوا الحسينية، التي بناها المحسن (محمد المتروك) من الطابوق والطين والملاط الجبسي الأبيض، وسقّفها بالخشب الصندل، والحصر القصبية قبل 100 عام تقريباً، لا أجد في الأرض مكاناً يشعرني بالطمانينة مثلها، ولم أتحسس معنى للشهادة إلا في ما كان يقوله الخطيب على منبرها، كان القماش الاسود الذي تتدثر الجدران به دثار روحي، وللطين الرطب الذي يسّاقط من فروج طابوقها رائحة الدم الحسيني الطاهر، وفي كل ركن من أركان بهوها ما زلت أحتفظ بطعم دموعي هناك، ولم أرَ أجساداً تتهاوى حزناً وملامة كالتي كانت تدور في حلقاتها ظهيرة يوم العاشوراء، ولم أذق طعاماً أشهى وألذ من ذاك الذي كان يُطهى بنار الجذوع التي كان أبي ياتي ببعضها من بستانه، الآن، أشمُّ رائحة الدخان المنبعث من موقده، أتأمل دلال القهوة بمختلف مقاساتها، وهي تصطف سوداء وادعةً حزينة.
وكنت قد دخلت حانة قديمة في روما، ذات يوم، وطالعني كرّاس التعريف بها على أنها من أعمال بدايات القرن التاسع عشر، ولا سبيل الى التحقق من صحة الزمن، لكنَّ، الأثاث المعمول باليد من الخشب والخيزران، وقد بدا معتماً جداً أحالني الى غابته الاولى، الى الاكتاف التي حملته من هناك، وفي اللوحات المعلقة على جدران الصالة انتصب من يحدثني الزيت والألوان وعن ما تشظى بالزمن، ولعل صاحبة الحانة، المرأة السمينة، بقطعة الحشمة على رأسها، التي اعطت ظهرها المغارف ودنان النبيذ والقناني الكبيرة، أعلى الرف، كانت قادرة على طمأنة الفضول عندي، كذلك كان الغبار المتراكم على الأشياء، التي لا أحسن تسميتها ربما (آلة موسيقية، أقداح فخار، حبال سفن قديمة، القناع الروماني الذي لم يزحزحه احدٌ من سنين طويلة) ذلك كله، كان مدعاة لتأمل الوجود المنهدم بفعل الدهور، لقول شيءٍ في ما يتكسر فينا من الانتظار، أو للوقوف طويلاً على نهر، ظل يندرس تباعاً.
ذات يوم، اضطرني البنّاءُ الى ردم ترعةٍ صغيرةٍ، كان يراها عائقاً امام إكمال البيت، فجاء بماكنة الحديد تسوّي الترعة بالارض، لم يفرحني قوله: بان الارض باتت صلبةً، وأنَّ البيت سيكون أكثر أماناً، أبداً، إنمّا وحدي، رحتُ أعددُ الرجال الذين وقفوا عليها، وأحصي الأشجار التي انتصبتْ على ضفتيها ذات يوم، وأرددُ اسماء البلابل والفواخت والعصافير التي بنت أعشاشها هناك، في العالي من نخلها وصفصافها وسفرجلها ووو..
يا إلهي: مَنْ ينصفنا يا ترى، من يحمل عنا مظلة التذكر الثقيلة هذه، نحن الواقفين على أنهار أيامنا، التي راحت تندرس تباعاً ؟