كثيرة ومختلفة هي التكهنات حول نظام العلاقات الدولية والاقتصاد العالمي في المستقبل. ولكن ما يتفق عليه معظم الخبراء والمحللين السياسيين، أن العودة إلى نفس النظام العالمي الذي كان سائداً قبل بداية هذا العام أصبح مستحيلاً لأسباب موضوعية. ومع أنه من المرجح أن تبقى بعض العناصر الأساسية من النظام العالمي الذي مازال قائماً، ولكن الحفاظ على النظام بأكمله كما هو قبل الأول من كانون الثاني 2020 بات ضرباً من الخيال.
يحاول اللاعبون الأكبر والأهم في النظام الاقتصادي العالمي وقادتهم السياسيون إبطاء وتيرة التغيير. فلم تكن الولايات المتحدة الاميركية ولا دول الاتحاد الأوروبي ولا روسيا ولا الصين مستعدين لمثل هذا التغيير المتوقع والسريع للنظام السياسي والاقتصادي العالمي، على الرغم من أن جمهورية الصين الشعبية وروسيا الاتحادية قد سعيتا من أجل الوصول الى نظام عالمي جديد خالٍ من الإملاءات والهيمنة من قبل قطب عالمي واحد مهما بلغت عظمته وأياً كانت نواياه.
ومهما يكن الموقف من سياسة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في مجال العلاقات الدولية، فإنه يجب الإقرار بأنه نجح في تسليط الأضواء على النظام العالمي القائم على أساس هيمنة القطب الواحد مختزل بدولة عظمى واحدة. فعلى مدى عقود، شاركت النخبة السياسية الاميركية من كلا الحزبين بتجسيد فكرة الأممية الليبرالية القائمة على أساس أن على واشنطن الحفاظ على النظام العالمي الذي يشجع الأسواق الحرة، والسياسة المفتوحة، ودولة المؤسسات وما الى ذلك. الى أن جاء ترامب ليقوض أسس تلك الأممية الليبرالية.
فمن الشك في أهمية الناتو إلى إهانة الحلفاء والتخلي عن الاتفاقيات التجارية والعسكرية واتفاقيات الحفاظ على البيئة. كل هذه وغيرها من المواقف السياسية للرئيس ترامب، شكلت انحرافات جدية وخطيرة عن المسار العام للعقيدة السياسة الاميركية، التي تم التأسيس لها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. مما دفع خبراء السياسة الخارجية الغربيين إلى التشكيك في المبادئ الأساسية لاستراتيجيتهم لأول مرة منذ عقود. والآن بعد أن تم التخلي عن أساسيات الأممية الليبرالية، فإن الجدل حول الاستراتيجية الأميركية العالمية وحدود مصالحها الجيوسياسية والنظام العالمي الوحيد القطب يشهد مشاركة واسعة من قبل الخبراء والمهتمين بالسياسة الدولية.
ونتيجة لذلك فان عدداً من الخبراء الغربيين بدأوا يتنبؤون بتراجع هيمنة الولايات المتحدة الامريكية على مقدرات العالم بحلول نهاية العام الحالي وظهور بداية عصر ما يسمى بـ "عالم متعدد الأقطاب" وهذا لا يشترط حلول قوة عظمى محل أخرى ولا الاحتكام لميزان قوى جديد يفرض إعادة النظر بتقاسم حدود الهيمنة الجيوسياسية على العالم ، والتعويل سيكون على حقيقة أن مصالح الدول العظمى وتحقيق التطور الاقتصادي سوف لن يتحقق لأي دولة منها دون الوصول الى حالة استقرار من نوع جديد في النظام العالمي.
بعد الانتخابات الرئاسية في تشرين الثاني 2020، وبغض النظر عما إذا كان ديمقراطيا أو جمهورياً من سيتولى القيادة في الولايات المتحدة الاميركية، سيتعين على سلطات الولايات المتحدة أن تعيد التفكير في دورها ومكانتها في عالم مضطرب وطموح للتغيير. خاصة وإن النظام العالمي الذي ولّد بعد الحرب الباردة وانهيار نظام القطبية الثنائية، بنهاية حلف وارشو، قد وصل الى طريق مسدود لا سبيل للتحكم بمستقبله بعد أن فشلت آليات ضبط استقراره عن طريق "العقوبات" بمختلف أشكالها.
وتجدر الإشارة هنا الى أن انتشار وباء فايروس الكورونا، وما كشفه عن حالة ضعف وفشل في مواجهته من قبل النظام الرأسمالي الاميركي الى جانب النزاعات الاجتماعية التي اجتاحت البلاد، أدت الى إغراق الولايات المتحدة في أزمات واسعة النطاق لم تجد إدارة ترامب من خيارات لمواجهتها سوى الهروب الى الأمام بتأزيم العلاقات مع الصين وأوروبا وروسيا وإيران مع تفاقم عوامل فشلها في حل أزمات استفحلت في آسيا وأفريقيا، اليمن وسوريا وليبيا مثالاً، كانت بالأساس من صنع يدها.
ورغم كل اللغط الإعلامي والتصريحات الرنانة، يبدو "أن الملك عارياً" عن حق. وتشاء الأقدار أن تكون أزمة النظام الأميركي وضعف هيمنته على العالم، فرصة لبداية تعافٍ كونية من عقدة الخوف وتنامي مشاعر الكبرياء الوطنية والسعي لاستقلالية القرار السيادي الوطني.
بدأ قادة أوروبا بالانسحاب المحسوس من تأثير واشنطن، وانطلقت تصريحات احتجاجية حتى من رؤساء دول أوروبا الشرقية على الغطرسة والاملاءات الاميركية، واستناداً إلى التصريحات الأخيرة التي أدلى بها زعيما فرنسا وألمانيا، يتعين على الولايات المتحدة أن لا تعتمد على أوروبا في مغامراتها العسكرية مستقبلاً. وعلى الأرجح، ستشرع أوروبا بإنشاء قوات مسلحة أوروبية مستقلة عن الناتو والولايات المتحدة.
سيتعين على واشنطن إما أن تتعلم صداقة بكين وموسكو، أو الاستعداد لأسوأ سيناريو يمكن أن يدمر الكوكب بأكمله، لأن الولايات المتحدة لن تكون قادرة على إملاء شروطها على روسيا والصين. كما أن اتحاد القوتين العظميين لن يسمح للولايات المتحدة الاميركية أن تصبح مهيمنة عالمياً.
ومع إدراكي أن لدى روسيا والصين مع الولايات المتحدة اختلافات عميقة في القيم وفي العديد من القضايا في مجال الاقتصاد والدبلوماسية والأمن. لكن استمرار الصراع لا يفيد أياً من الجانبين. كما أن هناك مشاكل سيساعد حلها على تحسين العلاقات في المثلث العالمي - وهي بيئة الكوكب، والسيطرة على الأسلحة النووية، والإرهاب الدولي، واستكشاف الفضاء ومجالات رحبة أخرى كثيرة تعود بالنفع على سكان المعمورة جميعاً.
وأخيراً، فإنه سيتبدد الشك المتبادل وانعدام الثقة في العلاقات مع روسيا والصين إذا أظهرت الولايات المتحدة استعدادها لبدء حوار جوهري حول قضايا الخلاف. عدا ذلك، يمكننا أن نتوقع الاستمرار بالتصعيد الأميركي وحمى العظمة وما يرافقها من تبديد للموارد الاقتصادية وانخفاض في قيمة الدولار، الأمر الذي قد يؤدي إلى عواقب وخيمة على الاقتصاد العالمي.
اترك تعليقك