مثلما تعاني المرأة من تقصف في نهايات شعرها أثناء الحمل، بسبب القلق وسوء التغذية، ومثلما يعاني الطفل في الإفصاح عن حاجته، يعاني الشاعرُ وعموم المشتغلين في حقول الثقافة من تقصّف في لغتهم، من مراوغة وتدليس قد يصل حدَّ الكذب، كلما أرادوا البوح أكثر،
لذا نراهُم يلجأون الى إضفاء الكمال على كثير من الوقائع (الدونيّة) التي قاموا بها أو شاركوا في صناعتها، وأضع الدونية بين هلالين، للتفريق بين مفهوم الدونية عندهم وعند العامة، هناك خشية قائمة في الذات الكاتبة، والعربية منها بالذات، وهناك خوف مبطن أو معلن من انكشاف الأسرارالكامنة في دهاليز أرواحهم في الحياة والكتابة، لذا، تبدو معظم كتب السيرة باهتة لدينا، صفراء، ومراوغِة، ونقية حدَّ التفاهة، فهي في أرقى أحوالها أعمالٌ أدبية، ذات طابع خيالي، لا يمت الى الحقائق بصلة.
نحن محكومون بجملة العلائق الدينية والاجتماعية التي تحيطنا، ولا فكاك لنا منها إلا إذا خرجنا منها، وهذا شبه مستحيل في شرقنا العربي، حيث يبلغ تقديس الأب في أسرته مبلغه الأكبر، وحيث يمكن لأدنى الممارسات(الدونية) بما فيها -عودته من البار ثملاً- أن تهزَّ صورته فيها، لذا سيتوجب على الأب طمس الكثير من إرثه (الدونيِّ) هذا، عبر لغة ستتقصف نهاياتها، وسيضطر فيها الى تجميل (القبيح) من أفعاله، معتمداً بذلك على لغة صافية، خالية من كل نقص، فيما العادة جرت على أنَّ كل فعل أنساني إنما يقع ضمن إطاريّ القبول والرفض، باختيار أو بدونه، دون علمه أو بعلمه، ثم أنهما يشكلان تاريخه، فهو يتعامل معهما بوصفهما مادة حياته، دون التخلي عن أحدهما، لكن، الصورة النمطية التي تريدها الأسرة له مختلفة عن التي يريدها هو لنفسه، فالإنسان مخلوق تافه بدون أخطاء، وهو شيءٌ مبتذل رخيصٌ في التقديس.
ومع أني طويت شطراً من حياتي، ذهبتُ في بعضه الى أفعال لا اقبلها لاحدٍ من أبنائي اليوم، فقد شربت الخمرة باكراً، وشوهدت ثملاً في أكثر من حانة، وعاشرتُ نساءً في مباغي المدينة وخارجها، وأقمت على الأسرة المبللة والمرتبكة ما أقمت، ولي بين هذه وتلك ما تنتعش ذاكرتي به، وما أتشوق وأحنُّ اليه، ذلك لأنيَ ما كنت لأبخس حق جسدي في شيء، يوم كانت اللذائذ طافحة في كأس أو مجتمعة في نهد، فهذه، وبحسب يقيني، من أفعال الجسد التقليدية، التي لا يُعاب على اتيانها احدٌ، ولا تشكل عارضاً اخلاقياً في سيرته، فهي مما يفعله الانسان منذ وجد انساناً وحيث كان بين إلفه ومؤتلفه.
هناك، من يباعد بين المقدّس والمدنّس فيه، ويضفي على سيرته الطهر والعفاف والتقى أحياناً، لكنني، ما كنت كذلك، إنما كنت ممن حرصوا على المواءمة والمؤاخاة بينهما، فهما فلقتا روحي التي احبّ، خلقت بهما وفيهما ولأجلهما، وكل غريب عني بينهما لا أقبله، كلُّ متسلل وسطي غيرهما اطرده، ولئلا يذهب أحدٌ الى غير ما ذهبتُ اليه في تعريف التقديس والتدنيس هنا، حيث أفترضُ العارفَ والنابهَ مفرّقاً بين مقدس ومدنس الشاعر وغيره من الأنام، فمدنس الشاعر شيءٌ مختلفٌ، وهو من النخبة النادرة، كلية القدرة في التعامل مع ملائكته وشيطاينه في آن.
أعترف بصعوبة تسويق أفكار كهذه، في محيط يحتكم الى الدين والقبيلة في أفعاله، وأقرُّ بوجوب أن يحتفظ الشاعر فيه على صورته في عيون ابنائه، الذين يريدونها جميلةً، نقيةً، مشعةً، غير منقوصة الأطراف، تنتمي الى العفاف والزهد والطهر، لكنني، اتقصى لحظة الخذلان التي أوقع نفسه فيها، فقد أدخل حياته مختبر العائلة وخرج منه بنسخة مشوهة، مختلفة عن صورته الحقيقية. ما يتحقق هنا لا معنى له، نعم، ربما خذلنا أهلينا في لحظة إنسانية (قاصرة) لكنها لحظتنا التي انتمينا لها يوماً ما، بعيداً عنهم. وبين شعورنا بجمال البوح، ومباهج التهتك، وضرورة إبقائه ضمن إطار الصورة الأسرية التقليدية، تكمن معاناتنا في المحو والنفي، لحظتها نشعر أنَّ هذا التطهير الزائف هو أقبح ما قاموا به.
ربما توقفت سوزان غاستون باشلار طويلاً عند خطأ لغوي أو معرفي ما، في مخطوطة (شذرات من شعرية النار) لأبيها، أثناء مراجعتها، وهي تتابع ترتيب فصول وصفحات الكتاب، الذي مات عنه، وربما، شأنها أن والدها لم يتحقق من جملة هنا أو هناك، وبكل تأكيد نقول: شتان ما بين خطً اللغة، غير المقصود والفعل الإنساني المقصود، أتحدث عن الشرخ اللغوي والمعرفي الذي يمكن أن يحدثه فيلسوف مثل باشلار، مثلما أتحدث عن ما يمكن الوقوع عليه من أخطاء في سيرة الأب الشاعر، الذي هو أنا، بعد الرقدة الأخيرة لي. أمرٌ مربك أن تُختزل أفعال الإنسان بفعل واحد، وإن كان جميلاً. كلُّ صورة مثالية للشاعر مشوهة ، الإنسان مخلوق إخطائه.