لم تتحسن صورة رجل الأمن (الشرطيّ) في الذاكرة العراقية -إن لم نقل إزدادت قبحاً- منذ تأسيس السلك الى اليوم، ولم ينفع معها انتظام بعض أفرادها في حزب سياسي أو انتمائهم الى دين وطائفة أو مجموعة مدنية، حتى باتت تسمية الشرطي في أوساط كثيرة تنحدر الى الشتيمة، ولا يحتفظ العراقي في ضميره بفعل نبيل منه،
إنما على العكس من ذلك، فقد ظل حامياً للنظام على تقلب صوره من الملكية الى الجمهورية السادسة، غير معني بالمواطن قدر عنايته بمن يؤمن له راتبه، ويبقيه في خدمته، وبخلاصة بسيطة يمكننا القول: العمل في الشرطة وظيفة لا دافع وطني أو إنساني فيها.
ليس في سلوكنا ومنهجنا التربوي في البيت أوالمدرسة او المجتمع ما يشير الى أن الانتساب الى سلك الشرطة هدف إنساني نبيل، غايته الدفاع عن القانون، ومن أجل حماية نفس ومال وعرض المواطن، وأنه لمن البطولة والشرف الانتماء الى هذا السلك، بوصفه عملاً وطنياً وانسانياً وميزة اجتماعية، والمنتسب إليه يضحي بنفسه من أجل حياة الآخرين، ويكذب من يقول بانه أصبح شرطياً من أجل الدفاع عن الحق ونصرة المظلوم، وأقول: لا وجود لمثل هذه في تفكير أي شرطي عراقي، وإذا أردنا أن نحسن الظن ببعضهم، فسوف يكون الدافعُ الأولُ الوجودَ والتسلطَ القوي بامتلاك القانون والسلاح، لأن الفهم العام عنده يقوده الى بأنه فوق القانون، بما يتيح له التبختر واستعراض السيطرة في الشارع والسوق والمؤسسة المدنية، وسيذهب كثير منهم الى إشعار أصدقاء وخصوم الصبا والمدرسة بأنه القادر على إبتزازهم وقهرهم متى شاء.
وبعد سنوات من الوظيفة وعبرممارسة التسلط في المركز، ومتوالية الخدمة ستتضخم الأنا الشرطية عند فئة عريضة منهم، ثم تتحول من نزق وممارسة صبيانة الى روح عليا وعدوانية، واقعة تحت إغراء المال والتجبّر وإذلال الخصوم، ولن يسلم من كيدهم صاحب الحق والمتظلم الملتجئ إليهم، فهؤلاء لا يرون فيه أبعد من فرصة للابتزاز المالي أو الاخلاقي في اقل تقدير. وهناك من سنحسن الظن بهم، ربما، وهم فئة المتطوعين المحتاجين الى الوظيفة، وتأمين لقمة العيش، بسبب انعدام فرص العمل في البلاد، وهم كثر بطبيعة الحال، لكنهم، لن يمكثوا طويلاً على حالهم هذه، إنما سيتعجلون الخطى بالإنضمام الى أقرانهم، هناك سيجدون السبيل الى الظلم والحرام سالكةً، إذ، ليس أسهل من الغصب والقهر وسيلة لجني المال واقتناء البيوت والسيارات.
البدايات ستكون بسيطة، إذ أنَّ خمسة آلاف دينار ستكون مجزية بالسماح لصاحب البسطية على الرصيف، لكنه لن يقنع بهذه، فإغراء المال ومتطلبات حياته التي أخذت بالتحول تدريجياً، ستقوده الى ما هو أبعد من ذلك، عندها، سيكون فتح باب السجن لمجرم محكوم أمراً سهلاً، إذا قبض من أهله عشرة ملايين دينار، وشيئاً فآخر سيكون قد أغمض عينيه عن كل رحمة في قلبه وكل ما هو وطني وإنساني، وليتحول في النهاية الى وحش، يلتهم كل ما يصادفه، ويبحث عن ما لا يصادفه أيضاً، حيث لم يعد ير في الجاني والمجني عليه على حدٍّ سواء والناس بعامة، وراكب الدراجة وسائق السيارة والمحال التجارية أكثر من أشياء متروكة، وهي جملة مفقودات عثر عليها، وله الحق في أخذها.
تذكرتُ لقاءً أجريته مع ضابط كبير في شرطة البصرة سنة 2004 ونشر في جريدة المنارة، كنت سألته فيه عن الضوابط والمعايير الأخلاقية الخاصة بالمتقدمين للعمل في سلك الشرطة فقال:" للأسف لم يتقدم لنا إلا القليل من الوطنيين المخلصين، وهناك أميين وشقاوات وأصحاب سوابق تم قبولهم". وحتى اليوم مازلنا في صحافتنا نكتفي بقولنا عن كثير من الجرائم الجنائية في المدينة ( ... وقامت عصابة يرتدي أفرادها زيَّ الشرطة بقتل شخص يستقل سيارة ... وفرّت الى جهة مجهولة) .