بيـــروت
بقلم : لطفية الدليمي
عرض صفحة الكاتب
العودة الى صفحة المقالات

بيروت مدينة الآلهة ودوار عبّاد الشمس والوعود العائمة على ضجيج الطوائف وهمهمات الشعر ، المدينة التي يتشهى لثم أصابعها الكتّابُ والمغنون والحالمون بالحرية والتواقون للنجاة مذ كانت سيدة الكلام وباعثة الأمل في الحياة العربية المكتظة بالتحريم والحظر ، كانت بيروت تمررُ نداءات الحرية في كتب ومطبوعات وأغنيات جبلية وأهواء حضارة تمزج بين جوهر الحضارات وعشق الحياة .

بيروت مثل سفينة الكنوز تلك التي تحدث عنها كافافيس وغادرت إلى مجاهل البحر وبقيت أضواؤها تبوح بوعودها الكونية ، ولبثت تغوي المولعين بوعودها وهي لدى الحالمين المغرمين بها سفينة داهمتها أنواء السياسة وشهقات البحر فجنحت إلى سفح جبل لتنجو بمن فيها ومن يرنو إليها ومن ينتظر بشائر قيامتها . السفينة التي إسمها بيروت رست عند منعطفات التاريخ البشري الأكثر أهمية ، تقاسم حمولتها ربابنة فينيقيون وكنعانيون ورومان وآشوريون وبابليون وأغريق وفراعنة ، وفي غابة أرزها قتل أنكيدو وكلكامش الوحش خمبابا رمز جبروت كل سلطة غاشمة و حارس غابة أرزها .

بيروت ، بيروتس مدينة جوليا أوغسطس السعيدة ، مدينة مدرسة القانون العالمية التي قصدها عشاق الحقوق والقانون من جهات الدنيا ولبثت مرجعاً لطلاب العلم منذ العقدين الأخيرين قبل الميلاد حتى العام ثلاثمائة بعده ، لن تفنى بيروت التي تولّع بها الرومان والأغريق وتاقت إليها ممالك العصور القديمة وبقيت تقاوم كل غازٍ وكل فاتح حتى باغتها الزلزال المروع في القرن السادس الميلادي و أفنى ثلاثين ألفاً أو أزيد من سكانها ؛ لكنها لم تنطفئ ولم تأفل بل أعادت صياغة أمجادها ماحية آثار غزاتها من رومان وآشوريين وبابليين وفراعنة ، وتألقت بجمالها الفينيقي وارتدت حرير صيدا المصبوغ بأرجوانها وازدهت بين الحواضر العتيقة بأنها معشوقة البحارة وسيدة الموانئ وغاوية الجيوش ومغرية الأساطيل الغازية ومستدرجة سفن التجارة وقوارب المهربين وسفن الهجرة إلى أقاصي القارات بحثاً عن فرصٍ للأمل أو نجاة من ملل القرى أو خلاصاً من عشق مخذول .

في بيروت عرفت معنى أن تكون المدينة مرفأ وأن تبحر منها السفن ومسافرو العالم ، وفي بحرها عرفت كيف تزلزل الرياح السفن التي سنسافر في إحداها إلى الاسكندرية ، الرياح كانت مختلفة عن رياح بلادنا التي جففها القيظ وسكنها عبير القمح وأريج طلع النخيل ، في مرفأ بيروت تعلن الرياح بغتة عن نفسها ؛ فهي أنثوية شبقية تارة وسماوية منذرة تارة أخرى ، تبدأ هيّنة مُداعِبة ثم تهتاج وتهدد السفن الراسية أو تلك التي تزمع الرحيل إلى مجاهيل البحار القاصية .

بيروت التي يعانقها الجبل وتداعبها زرقة المتوسط هي التي صاغت أحلام الشعراء والكتاب والفنانين من غنج الحضارة وتلقائية القرى وسلسبيل الينابيع وهمهمات الأرز المخلّد ، هي المدينة الحية الباقية بقاء أرزها وسنديانها ، التي لا تتعب من جدل ولاينال منها حريق ولم تهزمها حروب الطوائف ، هي جمرة الحياة التي لايخمد وهجها و لاتفنى ولا تغيب من الرؤيا إلا لتضيء حلماً ولاتستفيق من الحلم إلا لتصير أسطورة حريتنا العتيقة وسبيل رؤيتنا الملهمة طوال عقود .

بيروت : لن أبكي جمالك فأنت صانعة جمال متجدد وسيدة مدن الشرق العتيقة بعمر التأريخ المدون ، لن أرثي تأريخك فأنت مدينة العالم كما وصفك ( ربيع جابر ) في روايته البديعة عن جوهرك اللامرئي ، ولأنك حية تبقين شاهقة في حاضرك كما كنت ملهمة المفكرين والثوار والمخذولين والعشاق والمهزومين والمنتحرين أيضاً ، ولطالما جعلناك في توقنا للنجاة علامة وصول تأخذ بيدنا نحو ينابيع الحرية ونحن نخوض في مستنقعات خرابنا الوطني ومواجع حياتنا العربية الوعرة .

  كتب بتأريخ :  الإثنين 17-08-2020     عدد القراء :  1284       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced