التغوّل...
بقلم : د. لاهاي عبد الحسين
عرض صفحة الكاتب
العودة الى صفحة المقالات

تشيع لدى الدارسين في مجال العلوم الإنسانية وفي مقدمتها علم الاجتماع فكرة "النظريات المفسرة"، والتي يقصد الباحث من خلالها أنْ تقدم النظرية المعتمدة شرحاً وتبريراً للمشكلة التي يقوم بتحليلها وتعقبها.

وهذا خطأ شائع يصر كثيرون على اتباعه رغم كثير من التنبيهات والتوجيهات والإنتقادات التي توضح أنّ النظرية، أي نظرية ستبقى مشروع دراسة وتحقق بغية دعمها أو تفنيدها بناءً على كم كبير وكافٍ من الدراسات الميدانية التطبيقية. ويسود مثل هذا الاعتقاد الخاطئ على مستوى المفهومات المستمدة من النظرية والمطوّرة من خلالها. الحقيقة، فإنّ كثيراً من المفاهيم الشائعة لم تعد تواكب تطورات واقع الحال.

أثبت الواقع الاجتماعي بمتغيراته والظروف المتداخلة فيه أنّه أسرع من حركة الدراسين والباحثين وبخاصة في المؤسسات الأكاديمية العراقية التي تكبل الباحث بمهام تدريسية كثيرة وترهقه إلى درجة لا تسمح بحيز كاف من الوقت لمواكبة التطورات الفكرية في العالم والتقدم ببحوث مؤثرة ، هذا إضافة إلى الدور المعطل الذي تلعبه ظروف انعدام الاستقرار السياسي التي تتسبب بعدم توفر الأمان والعودة لمناقشة قضايا تعتبر في سياق المستلزمات الوظيفية الهامة من قبيل الحرية الأكاديمية للبحث والنظر والتمحيص بعيداً عن الضغوط التي تمارسها جهات ذات أغراض محددة.

الخلاصة أنّه لم تعد كثير من المفهومات والنظريات الشائعة تساعد على الفهم مما يتطلب نوعاً من القفز في المجهول كخطوة لا بد منها للتحرر من نمطية التفكير واتباع ما درج عليه الأولون في ميدان التخصص العلمي الحديث وليس فقط على صعيد التقليد والعرف السائد قيمياً وعرفياً.

قدم لويس كوزر على سبيل المثال، محاولته النظرية للخروج من أسار أكثر النظريات هيمنة وشيوعاً في مجال علم الاجتماع وهما النظرية الوظيفية والنظرية الصراعية . تستمد الأولى عروقها ومسلماتها الفكرية من عالمي الاجتماع الفرنسيين أوكست كومت وإيميل دوركهايم والألماني ماكس فيبر فيما تقوم الثانية على التحليلات الاجتماعية لكارل ماركس ممن تبعه آخرون من أمثال رالف داهرندورف . على الرغم من محاولة كوزر التوفيق بين النظريتين الرئيسيتين الأكثر رسوخاً في ميدان العلم بهدف الخروج بنظرية توفيقية تجعلهما يلتقيان في نقطة واحدة مشتركة فقد حسب على النظرية الصراعية . وكان كوزر عمل على ذلك في أطروحته للدكتوراه من جامعة هارفارد التي نشرها عام (1956) والتي حملت عنوان "وظائف الصراع الاجتماعي". قدم كوزر عدداً كبيراً ومتزاحماً من الفرضيات التي أراد لها أنْ تكون قابلة للتحقق والاختبار انسجاماً وقواعد المدرسة الأميركية لعلم الاجتماع التي ترى بأنّ ما لا تستطيع التحقق منه بالدليل والحجة الملموسة أتركه من حيث أنّ أفكارك حتى وإنْ كانت مذهلة ستبقى حبيسة التأمل والتأمل خارج ميدان العلم الحديث وبعيداً عنه . كان من بين هذه الفرضيات والتي بدت مقبولة ومقنعة إلى حد كبير فكرة أنّ الإعتداء الخارجي على الجماعة أو المجتمع سيكون حافزاً لدفع أي منهما إلى نبذ خلافاتهم الفردية والتخلي عن مطامحهم الشخصية بهدف تحقيق التماسك الذي يقوّيهما لمواجهة الخطر الخارجي المحدق. هكذا بنى الإعلام وبخاصة الإعلام الحكوماتي حملاته في التوعية والتعبئة الوطنية في سبيل تحفيز أبناء الجماعة والمجتمع وتوحيد قواهم لدفع الخطر المحدق أو مواجهته لإلحاق الهزيمة به. بيد إنّ هذه المقبولية سرعان ما لفظها الواقع في مجتمعات لا تتمتع بالتجانس البنيوي من جانب ولا تحظى بنظام سياسي قادر على الإمساك بدفة القيادة من جانب آخر كما في حال المجتمع العراقي، اليوم.

جادل فالح عبد الجبار على الضد من الإرث النظري الاجتماعي لعلي الوردي مركزاً النظر على دور التدخلات الخارجية في الشأن العراقي. لم تعد نظرية الوردي بنظر عبد الجبار لتوفر تفسيراً كافياً ومقنعاً لما يجري في المجتمع العراقي بسبب هذه التدخلات الخارجية المتشعبة والمتشابكة. ويبدو أنّه اقترب من القدرة على تفنيد ما اقترحته فرضية كوزر التي تقوم على فكرة أنّ هناك علاقة طردية بين الخطر الخارجي من جانب، والتماسك الاجتماعي الداخلي، من جانب آخر. لا يشك كثيرون بمقدار المخاطر الخارجية التي تعصف وتهدد التماسك الاجتماعي الداخلي في العراق هذه الأيام. بيد إنّ الملاحظ أنّ هذه المخاطر والتدخلات بكل أنواعها وأشكالها أدت بالحقيقة إلى مزيد من الفرقة والإنقسام داخل المجتمع وليس إلى تماسكه وتوحده كما افترض كوزر. ولعل فيما يشهده المجتمع من ظواهر التعبير عن العنف دليل على ما يقترح هنا. تجاوز المجتمع العراقي على مستوى الفئات والجماعات المحددة مستوى التعبير عن التنمر ليدخل فيما يمكن أنْ يطلق عليه "التغوّل" الاجتماعي من قبل البعض ضد البعض الآخر. يمثل التغوّل هنا مستوى واسع وكبير من التجاوز والإعتداء والإستهانة بالآخر واستضعافه. ساعدت وسائل التواصل الاجتماعي على التعريف بحالات من هذا النوع كما حدث قبل أكثر من أسبوع في حالة الصبي القاصر (حامد) الذي تعرض لإمتهان هز مشاعر العراقيين ووجدانهم من قبل مفرزة من قوات حفظ القانون. ولم تمضِ أيام على ذلك حتى تعرض ضابط الشرطة (وسام الزبيدي) إلى تغوّل من قبل مجموعة من الأشخاص الذين كانوا يرومون تجاوز الحواجز التي كلف بحراستها للمطالبة بإعادتهم للخدمة. فشل المجتمع العراقي خلال هذه الفترة الحرجة في تحقيق التماسك والتوحد والتساند والإندماج في مواجهة مخاطر خارجية كبيرة. يلاحظ أنّ هذه المخاطر التي تفرّق الناس وتباعد فيما بينهم لم تأت فقط من دول الجوار بل وأستدعيت من قبل بلدان بعيدة لم يكن العراق ليمثل طرفاً فيه . فقد ضجت وسائل التواصل الاجتماعي بحالات تغوّل كلامية بين مختلف الأشخاص والجماعات نتيجة الإختلاف على مدى قدرة روسيا الإتحادية لتسجل سبقاً في إنتاج لقاح لمواجهة الفيروس الأكثر خطورة في العالم اليوم كوفيد-19 أو الكورونا ، سريع التفشي ، بالتأكيد ليس للعراق ناقة ولا جمل في هذا المشروع الذي حمل مسحة سياسية من خلال قيام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالإعلان عنه بدلاً من ترك ذلك إلى مسؤولي الصحة في بلاده. ولم يعرف عن العراق مشاركته بأي شكل من الأشكال في ذلك المشروع سواء بصيغة مال أو استشارة علمية من أي نوع كان ، بيد أنّ الجدل الذي دار بين من أستبشر باللقاح الموعود وبين من عبر عن عدم الثقة به يلفت النظر إلى حجم الجدل والتباعد الذي يمارسه المجتمع فيما بين بعضه البعض.

في محاولة لتفسير مثل هذه الحالة يبدو أنّه لم يعد كافياً العودة إلى مفهومي "الثقافة"، أو "التنشئة الاجتماعية"، لإستيضاح مثل هذه المواقف والسلوكيات ، يوفر هذان المفهومان أجوبة مألوفة وتبسيطية. بدلاً من ذلك نقول التغوّل الذي يسلط الضوء على خلل بنيوي يرتبط بتكوين الدولة العراقية كما نعرفها اليوم. يتمثل هذا الخلل في السياسات الإصطفائية للحكومات العراقية المتعاقبة في معالجة مطالب المواطنين وحل مشكلاتهم وتطمين مشاعرهم، فقد التقى السيد رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي عدداً من الشباب المتظاهرين من خريجي كليتي القانون والعلوم السياسية ممن تجمهروا على مقربة من بوابات المنطقة الخضراء قبل أيام وقرر استضافة إثنين منهم ليصدر بعد ذلك أمراً بتعيين هذا "الفصيل" كموظفين مدنيين في وزارة الدفاع. كان من الطبيعي والمتوقع أنْ نشهد بعد ذلك خروج جماعات متعددة أخرى من الشباب العاطلين عن العمل من خريجي الكليات الأخرى إلى جانب عدد كبير من الموظفين الذين أحيلوا على التقاعد مؤخراً ممن مضى عليهم ما يقرب العام وهم معلقون بين التقاعد وعدمه ومحرومون من رواتبهم الشهرية. وهناك جماعات فسخت عقود عملهم من الحشد الشعبي والجيش والشرطة. لن يكون ممكناً معالجة كل هذه التظاهرات وتلبية مطالب المشاركين فيها خارج حلول ستراتيجية ينشّط من خلالها القطاع الخاص وقطاع الاستثمارات لتوفير فرص عمل مستدامة وليس فقط سد حاجة المطالبين بها بطريقة الحل الجراحي الآني والسريع. معروف أنّه من النواحي السكانية فإنّ العراق ولاّد لأعداد ستبقى تتزايد وتطالب بالعمل. لن يكون ممكناً تلبية مطالب كل هؤلاء المطالبين بفرص عمل خارج القدرة على تشجيع عودة رأس المال العراقي المهاجر من خلال تسهيل الإجراءات الإدارية والقانونية وتحقيق مستوى موثوق به من الأمن والأمان سواء على الصعيد الشخصي والعائلي أو على مستوى العمل. ويأتي مع ذلك العمل على توفير بيئة تعليمية وبحثية لائقة وفعالة للتأسيس لمستقبل واعد ومتنامي.

مرت على العراق فترات كان فيها المواطن العراقي يتهرب من العمل بالدولة وبخاصة في بداية السبعينيات حيث توفرت بيئة ممتازة لأصحاب الأعمال الحرة والمصانع حتى صار الموظف يتوسط للموافقة على استقالته. وأضطر كثيرون إلى ترك العمل ليعتبر مستقيلاً حسب التعليمات في سبيل الشروع بأعمال يحققون فيها ذواتهم دون الإلتزام بقيود وشروط الوظيفة الحكومية التي لم يكونوا يستسيغونها ويفضلون عليها ظروف المغامرة والمحاولة لشق طريقهم في الحياة ، لم يعد هذا ممكناً اليوم في الوقت الذي تغلق فيه المحال وشركات الأعمال والمصانع أبوابها وينشغل العراق بالتجارة التي تعني عملياً استقبال السلع الأجنبية لبيعها والعيش على ما توفره من هوامش أرباح ضئيلة. أرباح يستفيد منها موظفون متنفذون على صعيد فردي مستفيدين من استشراء ظاهرة الفساد المالي والإداري التي ستبقى العقبة الكأداء في طريق أي تطور منتظر.

  كتب بتأريخ :  الإثنين 17-08-2020     عدد القراء :  1230       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced